فصل: تفسير الآية رقم (158):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (158):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [158].
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} أي: كافة.
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} نعوت للفظ الجلالة، أي: الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه الذي بيده الملك والإحياء والإماتة.
والآية نص في عموم بعثته للأحمر والأسود، والعربي والعجمي. وفي الحديث: «أعطيت خمس لم يعطهن نبي قبلي- ولا أقولهن فخراً- بعثت إلى الناس كافة، الأحمر والأسود، ونصرن بالرعب مسيرة شهر، وأُحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأعطيت الشفاعة، فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً». رواه الإمام أحمد عن ابن عباس مرفوعاً، ورواه أيضاً عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أعطيت الليلة خمساً ما أعطيهن أحد قبلي، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونُصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعباً، وأحلت لي الغنائم، آكلها، وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم، والخامسة هي ما هي! قيل لي: سل، فإن كل نبيه قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم، ومن يشهد أن لا إله إلا الله».
قال الحافظ ابن كثير: إسنادهما جيد قوي.
وروى الإمام أحمد بمعناه عن ابن عمر وأبي موسى، وهو ثابت في الصحيحين عن جابر.
وأخرج مسلم عن أبي موسى قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار».
{فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ} أي: الذي نبئ ما يرشد الخلائق كلهم، مع كونه أمياً، وفي نعته بذلك زيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين.
{الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ} أي: ما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.

.تفسير الآية رقم (159):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [159].
{وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} أي: موقنين ثابتين، يهدون الناس بكلمة الحق، ويدلونهم على الإستقامة، ويرشدونهم.
{وَبِهِ يَعْدِلُونَ} وبالحق يعدلون بينهم في الحكم، ولا يجورون.
والآية سيقت لدفع ما عسى يوهمه تخصيص كتب الرحمة والتقوى والإيمان بمتبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام، من كل خير، وبين أن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم.
وقيل هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويأباه أنه قد مر ذكرهم فيما سلف. أفاده أبو السعود.
وهذه الآية كقوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}، وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.

.تفسير الآية رقم (160):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [160].
{وَقَطَّعْنَاهُمُ} أي: قوم موسى {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً} أي: صيرناهم قطعاً، أي: فرقاً، وميزنا بعضهم من بعض. والأسباط: أولاد الولد، وكانوا اثنتي عشرة قبيلة، من اثني عشر ولداً، من ولد يعقوب عليه السلام.
{أُمَماً} أي: عظيمة وجماعة كثيفة العدد: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ} أي: في التيه {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} فضربه: {فَانبَجَسَتْ} أي: انفجرت: {مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} بعدد الأسباط.
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} أي: سبط منهم {مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} في التية من حر الشمس {وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث أوجبوا لها العذاب الدائم.

.تفسير الآية رقم (161):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [161].
{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ} يعني بيت المقدس، والقائل موسى عليه السلام، دعاهم إلى دخول بيت المقدس، أو يوشع، فإنه دعاهم بعد وفاة موسى، إلى غزو بيت المقدس: {وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ} أي: قولوا حط عنا ذنوبنا.
وقيل: أمروا بكلمة إذا قالوها حط عنهم أوزارهم {وَادْخُلُواْ الْبَابَ} أي: باب القرية: {سُجَّداً} أي: ساجدين أو خاضعين. أُمروا بأن يدخلوها بالتواضع، وكان ذلك شرطاً في قبول فعلهم: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}.

.تفسير الآية رقم (162):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} [162].
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} وقد تقدم تفسير هذا كله في سورة البقرة بما يغني عن إعادته.

.تفسير الآية رقم (163):

القول في تأويل قوله تعالى: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [163].
{واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} هذا السياق هو بسط لقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}.
فقوله تعالى: {وَاسْألْهُمْ} عطف على اذكر المقدر عند قوله: {وَإِذْ قِيلَ} أي: وأسأل اليهود المعاصرين لك، سؤال تقريع وتقرير، بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود الله، وإعلاماً بأن هذا من علومهم التي لا تعلم إلا بكتاب أو وحي، فإذا أعلمهم به من يقرأ كتابهم، علم أنه من جهة الوحي.
قوال ابن كثير: أي: واسأل هؤلاء اليهود بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم، لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم.
وهذه القرية هي أيلة، بين مدين والطور، وقيل هي متنا، بين مدين وعينونا.
ومعنى كونها: {حَاضِرَةَ الْبحْرُ} أنها قريبة منه، راكبة لشاطئه.
وقوله تعالى: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السِّبْتِ} أي: يتجاوزون حد الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه، فقد أخذت عليهم العهود والمواثيق أن يحفظوا السبوت من عملٍ ما.
والحيتان السمك، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت، في معنى السمكة.
و: {شُرَّعاً} جمع شارع، من شرع بمعنى دنا. يقال: شرع علينا فلان، إذا دنا منا، وأشرف علينا، وشرعت على فلان في بيته، فرأيته يفعل كذا، وهو حال من: {حِيتاَنُهُمْْ} أي: تأتيهم يوم سبتهم ظاهرة على وجه الماء، قريبة من الساحل، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم أصلاً إلى السبت المقبل.
قرئ: {يُسْبِتُونَ} ثلاثيًّا، ومزيداً فيه، من أسبت معلوماً ومجهولاً أيضاً، بمعنى، لا يدخلون في السبت ولا يدار عليهم.
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُم} أي: مثل ذلك البلاء العجيب الفظيع، نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء، في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائه عنهم في اليوم الحلال لهم صيده، أي: نعاملهم معاملة من يختبرهم، بسبب فسقهم، فيظهر عدوانهم، فيستحقون المؤاخذة.
ثم بين تعالى تماديهم في العدوان، وعدم انزجارهم عنه، بعد العظات والإنذارات، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (164):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [164].
{وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ} أي: جماعة من صلحائهم، يحاورون فريقاً ممن دأب في عظتهم {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ} أي: مخترمهم ومطهّر الأرض منهم: {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} أي: بل معذبهم عذاباً شديداً، إذ مجرد الإهلاك قد يوجد معه لطف، وأما شدة العذاب فتلك القاصمة.
{قَالُواْ} أي: الوعاظ: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي: نعظهم معذرة إليه تعالى، لئلا ننسب إلى التفريط في وصيته بالنهي عن المنكر.
وقرئ بالرفع، أي: موعظتنا معذرة {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي: ورجاء في أن يتقوا فيتوبوا فينجوا من الإهلاك.

.تفسير الآية رقم (165):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [165].
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أي: فلما تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم، ترك الناسي للشيء، وأعرضوا عنه إعراضاً كلياً، بحيث لم يخطر ببالهم شيء من تلك المواعظ أصلاً.
{أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي: المرتكبين المنكر.
{بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} أي: شديد وزناً ومعنى {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} بفعل المنكر.

.تفسير الآية رقم (166):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [166].
{فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} أي: تكبروا وأبوا أن يتركوا ما نهوا عنه {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي: صاغرين أذلاء، بُعداء من الناس.
قال الزجاج: أمروا بأن يكونوا كذلك بقولٍ سُمع.
وقال غيره: المراد بالأمر هو الأمر التكويني، لا القولي، أي: التكليفي، لأنه ليس في وسعهم حتى يؤمروا به.
وفي الكلام استعارة تخييلية، شبه تأثير قدرته تعالى في المراد من غير توقف، ومن غير مزاولة عمل واستعمال آلة، بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور به، من غير توقف. كذا في العناية.
وظاهر الآية يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولاً بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك فمسخهم، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريراً وتفصيلاً لما قبلها.
تنبيهات:
الأول: قال الجشمي: تدل الآية على أنهم تعبدوا بتحريم الصيد يوم السبت، وأنه شدد التكليف عليهم بظهورها يومئذ، وأنهم خالفوا أمر الله، وهذا القدر يقتضيه الظاهر.
ومتى قيل: أفظهور الحيتان يوم السبت دون غيره من الأيام، هل كانت معجزة؟
قلنا: اختلفوا فيه، فقيل: كان معجزة لنبي ذلك الزمان، لأنه لا يتفق للسمك أن يأتي الأنهار كثيراً في يوم واحد، ولا يظهر في سائر الأيام، فإن كان كذلك، فلابد أن الله تعالى قوى دواعي الحيتان يوم السبت، فظهروا، وصرفهم في سائر الأيام، فلم يظهروا، فكانت معجزة.
وقيل: كانت جرت عادتهم بترك الصيد يوم السبت، فعلموا ذلك فكثروا في ذلك اليوم على عادتهم، كما اعتاد الدواب كثيراً من الأشياء. انتهى.
وقد روي في اعتدائهم في السبت روايات:
منها: أنهم تحيلوا لاصطياد الحيتان فيه بوضع الحبائل والبرك قبل يوم السبت، حتى إذا جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة، نشبت بتلك الحبائل، فلم تخلص منها يومها، فإذا كان الليل، أخذوها بعد انقضاء السبت.
ومنها: أنهم كانوا يأخذونها يوم السبت بالفعل، ولكن يأكلونها في غيره من الأيام، فتأول لهم الشيطان أن النهي عن الأكل فيه منها، لا عن صيدها، فنهتهم طائفة منهم عن ذلك وقالت: ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف، أو قذف، أو بعض ما عنده من العذاب، فلما أصبحوا وجدوهم أصابهم من المسخ ما أصابهم، وإذا هم قردة- رواه عبد الرزاق وابن جرير- وثمة روايات أخر.
وروي عن مجاهد أنهم مسخت قلوبهم، لا أبدانهم- والله أعلم-.
الثاني: اسُتدل بهذه القصة على تحريم الحِيَلِ.
قال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان: ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله، الحيل والمكر والخداع، الذي يتضمن تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه، ومضادته في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه.
فإن الرأي رأيان: رأي يوافق النصوص، وتشهد له بالصحة والإعتبار، وهو الذي اعتبره السلف، وعملوا به، ورأي يخالف النصوص، وتشهد له بالإبطال والإهدار، فهو الذي ذموه وأنكروه.
وكذلك الحيل نوعان: نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه، والتخلص من الحرام، وتخليص المحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي، فهذا النوع محمود، يثاب فاعله ومعلمه. ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالماً، والظالم مظلوماً، والحق باطلاً، والباطل حقاً، فهذا الذي اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض.
ثم ساق الوجوه العديدة على تحريمه وإبطاله.
وقال في سادسها:
إن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما اختالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد، بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة، فلما وقع فيها الصيد، أخذوه يوم الأحد.
قال بعض الأئمة: ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية، ممن يتلبس بعلم الفقه، وهو غير فقيه، إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده، وتعظيم حرماته، والوقوف عندها، ليس المتحيل على إباحة محارمه، وإسقاط فرائضه.
ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيباً لموسى عليه السلام وكفراً بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل، واختيال ظاهره ظاهر الإيفاء، وباطنه باطن الاعتداء، ولهذا- والله أعلم- مسخوا قردة، لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الْإِنْسَاْن، وفي أوصافه شبه منهم، وهو مخالف له في الحد والحقيقة.
فلما نسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره، دون حقيقته، مسخهم الله قردة يشبهونهم في بعض ظواهرهم، دون الحقيقة، جزاء وفاقاً.
ثم روي في عاشرها عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل».
الثالث: دلت الآيات على أن أهل هذه القرية صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحذور، واحتالوا على صيد السمك يوم السبت، كما بينا. وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم، وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة: لم تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم؟
فأجابتها المنكرة: بأنا نفعل ذلك اعتذاراً إلى ربنا فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم نص الله على نجاة الناهين، وهلاك الظالمين.
وقال ابن كثير: وسكت عن الساكتين، لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيماً فيذموا، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم: هل كانوا من الهالكين، أو من الناجين؟ على قولين.
ويروى أن ابن عباس كان توقف فيهم، ثم صار إلى نجاتهم، لما قال له غلامه عِكْرِمَة: ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه، خالفوهم، وقالوا: لم تعظون قوماً الله مهلكهم؟ فكساه حلة.
الرابع: دل قوله تعالى: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} على أن النهي عن المنكر لا يسقط، ولو علم المنكر عدم الفائدة فيه، إذ ليس من شرطه حصول الإمتثال عنه، ولو لم يكن فيه إلا القيام بركن عظيم من أركان الدين، والغيرة على حدود الله، والإعتذار إليه تعالى، وإذ شدد في تركه لكفاه فائدة.
ولما ذكر تعالى بعض مساوئ اليهود، تأثره ببيان أنه حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة فقال سبحانه: