فصل: تفسير الآية رقم (117):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (117):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [117].
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: مبدعهما وخالقهما على غير مثال سبق. وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له: أبدعت. ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة: مبتدع؛ لأنه يأتي في دين الإسلام، ما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، وهذه الجملة حجة أخرى لدفع تشبثهم في ولادة عيسى بلا أب، وعلم عزير بالتوراة بلا تعلم. وتقرير الحجة: إن الله سبحانه مبدع الأشياء كلها، فلا يُبْعد أن يوجِد أحداً بلا أب، أو يعلم بلا واسطة بشر.
وقال الراغب: ذكر تعالى في هذه الآية حجة رابعة، شرحها: إن الأب هو عنصر للابن، منه تكوّن. والله مبدع الأشياء كلها، فلا يكون عنصرا ًللولد، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلاً. وقوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] أي: إذا أراد أمراً. والقضاء: إنفاذ المقدر. والمقدر ما حد من مطلق المعلوم.
قال الراغب: القضاء إتمام الشيء قولاً أو فعلاً، فمن القول آية: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4]، ومن الفعل قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] وقضى فلان دينه، وقضى نحبه، وانقضى الأمر.
ثم قال: ونبّه بقوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً} على حجة خامسة، وهو أن الولد يكون بنشوء وتركيب، حالاً بعد حال، وهو إذا أراد شيئاً، فقد فعل بلا مهلة، ولم يرد بـ: {إذا} حقيقة الزمان، إذ كان ذلك إشارة إلى ما قبل وجود الزمان، ولم يرد أيضاً بـ: {كن} حقيقة اللفظ، ولا بالفاء التعقيب الزماني. بل استعير كل ذلك لأنه أقرب ما يتراءى لنا به سرعة الفعل وتمامه، وذكر لفظ القضاء إذ هو لإتمام الفعل، والأمر لكونه منطوياً على اللفظ والفعل، والقول؛ إذ هو أخف موجد منا وأسرعه إيجاداً، ولفظ: {كُنْ} لعموم معناه واختصار لفظه، ثم قال: {فيكون} تنبيهاً لأنه لا يمتنع عليه شيء يريد إيجاده. و{كُن فَيَكُونُ} وإن كان مخرجها مخرج شيئين، أحدهما مبني على الآخر، فهو في الحقيقة شيء واحد. انتهى.
والذين ذهبوا إلى أن المراد بـ: {كن} حقيقة اللفظ، ورد عليهم سؤال مشهور، وهو: إن: {كن} لفظ أمر، والأمر لا يكون إلا لموجود؟. فبعضٌ أجاب بأنه أمرٌ للشيء في حال تكونه لا قبله ولا بعده. وبعضٌ قال: هو أمر لمعلوم له، وذلك في حكم الموجود، وإن كان معدوم الذات. وبعضٌ قال: هو أمر للمعدوم. قال ويصح أمر المعدوم كما يصح أمر الموجود.
ولهم أجوبة أكثر تكلفاً وتمحلاً.
وقد سئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذا بأنه إن كان المخاطب بـ: {كن} موجوداً، فتحصيل الحاصل محال. وإن كان معدوماً، فكيف يتصور خطاب المعدوم؟ فأجاب بقوله: هذه المسألة مبينة على أصلين:
أحدهما: الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلاً من المخاطب، بل هو الذي يكوّن المخاطب به، ويخلقه بدون فعل من المخاطب، أو قدرة أو إرادة أو وجود له، وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلاً أو تركاً يفعله بقدرة وإرادة، وإن كان ذلك جميعه بحول الله وقوته؛ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس، هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده؟ لا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده، وكذلك تنازعوا في الأول هل هو خطاب حقيقي؟ أم هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة؟. والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة. والأصل الثاني: أن المعدوم في حال عدمه، هل هو شيء أم لا؟ فإنه قد ذهب طوائف من متكلمة المعتزلة والشيعة إلى أنه شيء في الخارج وذات وعين، وزعموا أن الماهيات غير مجعولة ولا مخلوقة، وأن وجودها زائد على حقيقتها، وكذلك ذهب إلى هذا طوائف من المتفلسفة والاتحادية وغيرهم من الملاحدة.
والذي عليه جماهير الناس، وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة، إنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشيء أصلا ولا ذات ولا عين، وإنه ليس في الخارج شيئان أحدهما حقيقة، والآخر وجوده الزائد على حقيقته. فإن الله أبدع الذوات التي هي الماهيات. فكل ما سواه سبحانه مخلوق ومجعول ومبدع ومبدوء له سبحانه وتعالى. ولكن في هؤلاء من يقول: المعدوم ليس بشيء أصلاً، وإن سمي شيئاً باعتبار ثبوته في العلم، كان مجازاً. ومنهم من يقول: لا ريب أن له ثبوتاً في العلم. ووجوداً فيه فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شيء وذات، وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت. كما فرق من قال: المعدوم شيء. ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشيء بين الممكن والممتنع، كما فرق أولئك؛ إذ قد اتفقوا على أن الممتنع ليس يشيء وإنما النزاع في الممكن. وعمدة من جعله شيئاً، إنما هو لأنه ثابت في العلم، وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخبر عنه والأمر به والنهي عنه، وغير ذلك. قالوا: وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم المحض. فإن خُص الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العيني، وبين الوجود الذي هو الثبوت العلمي، زالت الشبهة في هذا الباب.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] ذلك الشيء هو معلوم قبل إبداعه وقيل توجيه هذا الخطاب إليه، وبذلك كان مقدراً مقضياً. فإن الله سبحانه وتعالى يقول ويكتب مما يعلمه ما شاء. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عُمَر وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة». قال: «وعرشه على الماء». وفي صحيح البخاري عن عِمْرَان بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض». وفي سنن أبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب قال: رب، وماذا أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة». إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلوماً مخبراً عنه، مكتوباً، فهو شيء باعتبار وجوده العلميّ الكلاميّ الكتابيّ، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتاً في الخارج. بل هو عدم محض ونفيٌ في صرف.
وهذه المراتب الأربعة المشهورة موجودات، وقد ذكرها الله سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1- 4] وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع، وإذا كان كذلك كان الخطاب موجهاً إلى من توجهت إليه الإرادة، وتعلقت به القدرة، وخلق كوّن، كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] في الذي يقال له: {كن} هو الذي يراد، وهو، حين يراد قبل أن يخلق، له ثبوت وتميز في العلم والتقدير. ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم. فإن فوق السائل: إن كان المخاطب موجوداً، فتحصيل الحاصل محال، يقال له هذا إذا كان موجوداً في الخارج وجودَه الذي هو وجوده. ولا ريب أن المعدوم ليس موجوداً، ولا هو في نفسه ثابت. وأما ما علم وأريد وكان شيئاً في العلم والإرادة والتقدير فليس وجوده في الخارج محالاً، بل جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة.
وقول السائل: إن كان معدوماً فكيف يتصور خطاب المعدوم؟ يقال له: أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال، إذ من شرط المخاطب أن يتمكن من الفهم والفعل، والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل، فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه بمعنى أنه مطلوب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل، ولذلك أيضاً يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين. بمعنى أن يعتقد أنه شيء ثابت في الخارج، وأنه يخاطب بأن يكون. وأما الشيء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه، فليس ذلك محالاً. بل هو أمر ممكن. بل مثل ذلك يجده الْإِنْسَاْن في نفسه، فيقدر أمراً في نفسه يريد أن يفعله وبوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب، الذي قدره في نفسه، ويكون حصول المارد المطلوب بحسب قدرته، فإن كان قادراً على حصوله حصل مع الإرادة والطلب الجازم. وإن كان عاجزاً، لم يحصل، وقد يقول الْإِنْسَاْن: ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب. فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه، والله سبحانه على كل شيء قدير، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. انتهى.

.تفسير الآية رقم (118):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [118].
{وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} من المشركين أو من أهل الكتاب وهو الأظهر؛ لأن ما تقدم، كلَّه في حوارهم وردّ أضاليلهم، ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به: {لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ} هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى؟ استكباراً منهم وعتواً: {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} جحوداً لأن يكون ما أتاهم من آياتِ الله آياتٌ، واستهانة بها: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} أي: هذا الباطل الشنيع فقالوا: أرنا الله جهرة. وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه كما تُعُنِّت عليه تُعُنِّت على من قبله: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد والتحكم على الأنبياء: {قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي: بالحق. لا تعتريهم شبهة ولا ريبة وهذا رد لطلبهم الآية، وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين المفصح عن كمال التوضيح، مكان الإتيان الذي طلبوه، ما لا يخفى من الجزالة. والمعنى أنهم اقترحوا آية فذة، ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين. وإنما لم يتعرض لرد قولهم: {لولا يكلمنا الله} إيذاناً بأنه من ظهور البطلان بحيث لا حاجة إلى الرد والجواب.

.تفسير الآية رقم (119):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [119].
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً} بالثواب للمؤمنين: {وَنَذِيراً} بالعقاب للكافرين: {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} ولا نسألك عنهم: ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلّغْتَ وبَلَغْتَ جهدك في دعوتهم؟ كقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40] وفي التعبير عنهم بصاحبية الجحيم، دون الكفر والتكذيب ونحوهما، وعيد شديد لهم، وإيذان بأنهم مطبوع على قلوبهم، لا يرجى منهم الإيمان.
والجحيم، من أسماء النار، وتطلق على النار الشديدة التأجج، وعلى كل نار بعضها فوق بعض، وعلى كل نار عظيمة في مهواة، وعلى المكان الشديد الحر.

.تفسير الآية رقم (120):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [120].
{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} أي: لأنهم يريدون أن يكونوا متبوعين على الإطلاق، وفيه مبالغة في الإقناط من إسلامهم، وتنبيه على أنه لا يرضيهم إلا ما لا يجوز ووقوعه منه، عليه السلام: {قُلْ} لا يتبع رسولٌ إلا الهدى: {إِنَّ هُدَى اللّهِ} أي: الذي هو الإسلام: {هُوَ الْهُدَى} أي: فليس وراءه هدى، وما تدعون إليه ليس يهدى، بل هو هوى. كما يعرب عنه قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم} أي: آراءهم الزائغة الصادرة عنهم بقضية شهوات أنفسهم: {بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} بأن دين الله هو الإسلام، أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة: {مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ} يلي أمرك: {وَلاَ نَصِيرٍ} يدفع عنك عقابه. وإنما أُوثر خطابه صلى الله عليه وسلم ليدخل دخولاً أولياً من اتبع أهواءهم بعد الإسلام من المنافقين تمسكاً بولايتهم، طمعاً في نصرتهم.
قال الإمام الرازي: وفي الآية دلالة على أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلاً، فمن هذا الوجه تدل على بطلان التقليد. انتهى.
وفي فتح البيان ما نصه: وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتتصدع منه الأفئدة، ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه، والقائمين ببيان شرائعه ترك الدهان لتاركي العلم بالكتاب والسنة، المُؤْثرين لمحض الرأي عليهما. انتهى.

.تفسير الآية رقم (121):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [121].
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} لما ذكر تعالى، فيما تقدم، عدم رضاء اليهود والنصارى إلاَّ باتباع ملتهم، لدعواهم أنهم على حق، وأنهم مؤمنون بما لديهم- فنّد تعالى دعواهم الإيمان به بأن من أوتي الكتاب فتلاه حق تلاوته فذاك المؤمن به، والمذكورون ممن لم يتله حق تلاوته، لَمَا عدد من مساوئ اليهود أولاً، وشفعه بدعوى النصارى اتخاذ الولد، ومن كان يعتقد ذلك فأنَّى له الإيمان؟ وهل هو ممن يتلو الكتاب حق تلاوته؟ وكتابه يأمر بتوحيد ربه والمشي مع شريعته وتصديق كل نبي يصدق ما معهم، وقد كفروا بكل ذلك. فجملة: {يتلونه} حال مقدرة من: {هُم} أو من: {الكتاب}. وجوَّز أن تكون الآية سيقت مدحاً لمن آمن من أهل الكتاب بالقرآن. فالضمير في: {يتلونه} للقرآن، فتكون كآية: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص: 52- 54]، وكآية: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدا} [الإسراء: 107].
ومن تلاوته حق تلاوته الإيمانُ بأنه حق من ربهم، وصبرهم ودرؤهم بالحسنة السيئة، وإنفاقهم وسجودهم له تعالى فالآيتان مفسرتان لتلاوتهم حق تلاوته.
وعن ابن مسعود: والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يُحلّ حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزل الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله. ومثله عن ابن عباس.
وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ} إشارة إلى الموصوفين بإيتاء الكتاب وتلاوته كما هو حقه: {يُؤْمِنُونَ بِهِ} محط الفائدة ما يلزم الإيمان به من الربح، بقرينة قوله: {وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} حيث اشتروا الضلالة بالهدى.

.تفسير الآيات (122- 123):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [122- 123].
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُواْ} أي: خافوا: {يَوْماً لاَّ تَجْزِي} أي: لا تغني: {نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ} فيه: {شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي: فداء: {وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} أي: يمنعون من عذاب الله. وقد مر نظير الآيتين في صدر السورة.
قال القاضي: ولما صدّر قصتهم بالأمر بذكر النعم، والقيام بحقوقها، والحذر عن إضاعتها، والخوف من الساعة، وأهوالها كرر ذلك وختم به الكلام معهم، مبالغة في النصح وإيذاناً بأنه فذلكة القضية والمقصود من القصة.