فصل: تفسير الآية رقم (124):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (124):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [124].
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} لما عاب سبحانه أهل الضلال، وكان جلّهم من ذرية إبراهيم عليه السلام، وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب، وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم ذكّر الجميع ما أنعم به عليه تذكيراً يؤدي إلى ثبوت هذا الدين بإطلاع هذا النبي الأميّ، الذي لم يخالط عالماً قط، على ما لا يعلمه إلاَّ خواص العلماء، وذكروا البيت الذي بناه فجعله عماد صلاحهم، وأمر بأن يتخذ بعض ما هناك مصلّى، تعظيماً لأمره وتفخيماً لعلي قدره، وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر- حثّ على الإقتداء به، وكذا في ذكر الإسلام والتوحيد، هزٌّ لجميع من يعظمه إلى اتباعه في ذلك، ذكره البقاعيّ.
و: {إذ} منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين أي: واذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام، ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد، الوازعة عن الشرك، فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم فيه من الباطل، ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على: {اذكروا} خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى، عمن ينتمون إلى ملته من إبراهيم وبنيه عليهم السلام، من الأفعال والأقوال، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتهم. أي: واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم، فأتم ما ابتلاء به، فما لكم أنتم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فِعْله في إيفاء العهد والثبات على الوعد، لأُجازيكم على ذلك جزاء المحسنين.
والابتلاء في الأصل: الاختبار. أي: تطلّب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه، غالباً، فعله أو تركه. والاختيار منا لظهور ما لم نعلم، ومن الله لإظهار ما قد علم. وعاقبه الابتلاء ظهور الأمر الخفيّ في الشاهد والغائب جميعاً، فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى. وقوله تعالى: {بكلمات} أي: بشرائع: أوامر ونواهٍ. وللمفسرين أقاويل فيها وفي تعدادها. قال ابن جرير: ولا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين، إلا بحديث أو إجماع. قال: ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له. انتهى.
وعندي أن الأقرب في معنى الكلمات هو ابتلاؤه بالإسلام، فأسلم لرب العالمين وابتلاؤه بالهجر. فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجراً إلى الله، وابتلاؤه بالنار فصبر عليها، ثم ابتلاؤه بالختان فصبر عليه، ثم ابتلاؤه بذبح ابنه فسلم واحتسب.
كما يؤخذ ذلك من تتبع سيرته في التنزيل العزيز، وسفر التكوين من التوراة. ففيهما بيان ما ذكرناه في شأنه عليه الصلاة والسلام. من قيامه بتلك الكلمات حق القيام، وتوفيتهن أحسن الوفاء، وهذا معنى قوله تعالى: {فأتمهن} كقوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] والإتمام التوفية.
{قَالَ} جملة مستأنفة وقعت جواباً عن سؤال نشأ من الكلام. فكأنه قيل: فما جوزي على شكره؟ قيل: قال ربه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} أي: قدوة لمن بعدك. والإمام اسم لمن يؤتم به، ولم يبعث بعده نبي إلا كان مأموارً باتباع ملته، وكان من ذريته، وكان من ذريته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27] {قَالَ} أي: إبراهيم: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} أي: واجعل من ذريتي أئمة: {قَالَ لاَ يَنَالُ} أي: قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك. لكن لا ينال: {عَهْدِي} أي: الذي عهدته إليك بالإمامة: {الظَّالِمِينَ} أي: منهم؛ لأنهم نفوا أنفسهم عنك في أبوة الدين ففي قوله: {لا ينال}... إلخ إجابة خفية لدعوته عليه السلام. وعدةٌ إجمالية منه تعالى بتشريف بعض ذريته بنيل عهد الإمامة، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27] وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه، لاسيما للذين دعوا قبلها إلى الوفاء بالعهد، وإشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم كما أدام رفعته، وإن ظلموا لم تنلهم دعوته، فضربت عليهم الذلة وما معها، ولا يجزى أحد عنهم شيئاً ولا هم ينصرون. وقرئ: {الظالمون} على أن: {عهدي} مفعول مقدم اهتماماً ورعاية للفواصل.
وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة. والكشاف أوسع المقال في ذلك هنا، وأبدع في إيراد الشواهد، كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم في وجوب العصمة في الأئمة، ظاهراً وباطناً، على ما نقله الرازيّ عنهم وحاورهم. أقول: إن استدلال الفرقتين على مدعاهما وقوف مع عموم اللفظ. إلا أن الآية الكريمة بمعزل عن إرادة خلافة السلطنة والملك.
المراد بالعهد، تلك الإمامة المسؤول عنها، وهل كانت إلا الإمامة في الدين وهي النبوة التي حرمها الظالمون من ذريته؟ كما قال تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} ولو دلت الآية على ما ادعوا لَخالفه الواقع... فقد نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين، فظهر أن المراد من العهد إنما هو الإمامة في الدين خاصّة. والاحتجاج بها على عدم صلاحية الظالم للولاية تمحل؛ لأنه اعتبار لعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق، أو ذهاب إلى الخبر في معنى الأمر بعدم تولية الظالم، كما قاله بعضهم. وهو أشد تمحلاً. ومعلوم أن الإمام لابد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع، كما ورد، ومثنى زاغ عن ذلك كان ظالماً، والبحث في ذلك له غير هذا المقام. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (125):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [125].
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} أي: الذي بناه إبراهيم بأم القرى، وهو اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا: {مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} مباءة مرجعاً للحجاج والعمار، يتفرقون عنه ثم يتوبون إليه. ومثابة مفعلة من الثوب، وهو الرجوع ترامياً إليه بالكلية، وسر هذا التفضل ظاهر في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها له. فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد فهو الأولى بقول القائل:
مَحَاسِنُهُ هُيُوْلَى كُلِّ حُسْنٍ ** وَمِغْنَاطِيْسِ أَفْئِدَةِ الْرِّجَاْلِ

فهم يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطراً. بل كلما ازدادوا له زيارة، ازدادوا له اشتياقاً.
لَاْ يَرْجِعُ الطًّرْفُ عَنْهَا حِيْنَ يُبْصِرُهَا ** حَتَّىْ يَعُوْدَ إِلَيْهَا الطَّرْفُ مُشْتَاْقَا

فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح! وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح! ورضي المحب بمفارقة فلذا الأكباد والأهل والأحباب والأوطان، مقدماً بين يديه أنواع المخاوف، والمتالف، والمعاطب، والمشاق، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه!
ذكر هذه الشذرة الإمام ابن القيم في أوائل زاد المعاد.
{وَأَمْناً} موضع أمن. كقوله: {حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، وكقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عِمْرَان: 97]، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسْبَون. وكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له، وفي هذا بيان شرف البيت من كونه محلاً تشتاق إليه الأرواح ولا تقضي منه وطراً، ولو ترددت إليه كل عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله في قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْْ} [إبراهيم: 37]، إلى أن قال: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40]، ومن كونه مأمناً لمن دخله. كما بيَّنَّا.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: «إن هذا بلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قلبي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار». الحديث.
وقوله تعالى: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قرئ بكسر الخاء، أمراً معترضاً بين الجملتين الخبرتين، أو بتقدير: وقلنا اتخذوا. وقرئ بفتح الخاء ماضياً معطوفاً على {جعلنا} أي: واتخذوه مصلى، ومقام إبراهيم هو الحرم كله، عن مجاهد. وعنه: هو جمع ومزدلفة ومنى ومكة. ويقال: هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام. فقد قال قتادة: إنما أمروا أن يصلُّوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت الأمم شيئاً مما تكلفته الأمم قبلها.
قال الراغب الأصفهاني: والأولى أنه الحرم كله، فما من موضع ذكروه إلا هو مصلى، أو مدعى أو موضع صلاة.
أقول: كان الأصل في الآية: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ومصلى. إلا أنه عدل إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك، ودون أن يقال مثلاً: واتخذوا منه مصلى- لوجوه:
أحدها: التنويه بأمر الصلاة فيه، والتعظيم لشأنها حيث أفرد، للعناية بها، جملة على حدة.
وثانيها: التذكير بأنه مقام الأب الأكبر للأنبياء كافة، وما كان مقامه فجدير أن يحترم ويعظم.
وثالثها: التنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر، تمهيداً للأمر باستقباله، وإلزاماً لمن جادل فيه، وهم اليهود.
وقد روى الشيخان وغيرهما أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قال ابن كثير: ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه السلام عند بناء البيت، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيد لرفع الجدار، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم جدران الكعبة، كما جاء بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري.
قال ابن كثير: وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديماً، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل عليه السلام، لما فرغ من بناء البيت، وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء، فتركه هناك، ولهذا- والله أعلم- أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه. كما فعل رسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لما قدم مكة طاف بالبيت سبعاً، وجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين.
قال ابن كثير: وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر رضي الله عنه، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة، وقد روى البيهقي بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: إن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقاً بالبيت، ثم آخره عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقال سفيان بن عيينة، وهو إمام المكيين في زمانه: كان المقام من سُقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فردّه عمر إليه. وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله: وقال أيضاً: لا أدري أكان لاصقاً بها أم لا.
وأثر عائشة المتقدم يدل على أنه كان لاصقاً بها. والله أعلم.
وقال الحافظ الشيخ عُمَر بن الحافظ التقيّ محمد بن فهد المكيّ الهاشميّ، في كتاب إتحاف الورى بأخبار أم القرى في حوادث سنة سبع عشرة: فيها جاء سيل عظيم يعرف بسيل أم نهشل من أعلى مكة من طريق الردم، فدخل المسجد الحرام واقتلع مقام إبراهيم من موضعه، وذهب به حتى وجد بأسفل مكة، وعيّن مكانه الذي كان فيه لما عفاه السيل، فأتى به وربط بلصق الكعبة في وجهها، وذهب السيل بأم نهشل بنت عبيدة بن سعد بن العاص بن أمية. فماتت فيه واستخرجت بأسفل مكة، وكان سيلاً هائلاً. فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالمدينة الشريفة، فهاله ذلك، وركب فزعاً إلى مكة، فدخلا بعمرة في شهر رمضان، فلما وصل إلى مكة وقف على حجر المقام وهو ملصق بالبيت الشريف. ثم قال: أنشد الله عبداً عنده علم في هذا المقام!.
فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي رضي الله عنه: أنا يا أمير المؤمنين عندي علم ذلك، فقد كنت أخشى عليه مثل هذا الأمر، فأخذت قدره من موضعه إلى باب الحجر، ومن موضعه إلى زمزم بمقاط، وهي عندي في البيت. فقال له عمر: اجلس عندي وأرسل إليها من يأتي بها. فجلس عنده وأرسل إليها فأتي بها، فقيس، ووضع حجر المقام في هذا المحل الذي هو فيه الآن، وأحكم ذلك واستمر إلى الآن. انتهى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} أي: أمرناهما. وتعديته بـ: {إلى} لأنه في معنى: تقدمنا وأوحينا: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ} أي: عن كل رجس حسي ومعنوي: فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع، أو ابنياه على طهر من الشرك بي. كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، أو أخلصاه للطائفين وما بعده لئلا يغشاه غيرهم. فاللام صلة: {طهراً} على هذا. وعلى ما قبله، لام العلة، أي: طهراه لأجلهم. وقوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ} أي: حوله. وعن سعيد بن جبير: يعني من أتاه من غربة: {وَالْعَاكِفِينَ} يعني أهله المقيمين فيه أو المعتكفين. كما روى ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال: قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أُراني إلا مكلِّم الأمير: أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام، فإنهم يُجنبون ويُحدثون. قال: لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون. ورواه عبد بن حميد في مسنده. وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب.
وفي الكشاف: يجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين، يعني القائمين في الصلاة.
كما قال للطائفين والقائمين: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} جمع راكع وساجد والمعنى للطائفين والمصلين؛ لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي، ولتقارب الأخيرين ذاتاً وزماناً ترك العاطف بين موصوفيهما. وجمع صفتين جمع سلامة، وآخر بين جمع تكسير لأجل المقابلة، وهو نوع من الفصاحة. وأخّر صيغة: فُعُول على فُعَّل؛ لأنها فاضلة، والمراد من الآية الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ففي ذلك تبكيت لهم وتنبيه على توبيخهم بترك دينه.