فصل: تفسير الآية رقم (22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (22):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [22].
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ} أي: أعرضتم عن تنزيل الله تعالى، وفارقتم أحكام كتابه، وما جاء به رسوله: {أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} أي: بالتغاور والتناهب: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} أي: تعودوا لما كنتم عليه في جاهليتكم من التشتت والتفرق، بعد ما جمعكم الله بالإسلام، وألف به بين قلوبكم، وأمركم بالإصلاح في الأرض، وصلة الأرحام. وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال، وبذل الأموال. وقد ساق ابن كثير هنا من الأحاديث في صلة الرحم لباب اللباب.

.تفسير الآية رقم (23):

القول في تأويل قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [23].
{أُوْلَئِكَ} إشارة إلى المذكورين: {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ} أي: عن استماع الحق لتصامهم عنه بسوء اختيارهم: {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} أي: لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس، والآفاق.

.تفسير الآية رقم (24):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [24].
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} قال ابن جرير: أي: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في أي: القرآن الذي أنزله على نبيه عليه السلام، ويتفكرون في حججه التي بينها لهم في تنزيله، فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أي: فلا يصل إليها ذكر، ولا ينكشف لها أمر. وتنكير القلوب للإشعار بفرط جهالتها ونُكرها، كأنها مبهمة منكورة. والأقفال مجاز عما يمنع الوصول. وإضافتها إلى القلوب لإفادة الاختصاص المميز لها عما عداها، وللإشارة إلى أنها لا تشبه الأقفال المعروفة؛ إذ لا يمكن فتحها أبداً.

.تفسير الآية رقم (25):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [25].
{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم} أي: عادوا لما كانوا عليه من الكفر: {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} أي: الحق بواضح الحجة: {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} أي: زين لهم ارتدادهم وحملهم عليه: {وَأَمْلَى لَهُمْ} أي: ومدّ لهم في الآمال والأماني، أو أمهلهم الله تعالى، فمد في آجالهم، ولم يعاجلهم بالعقوبة. والمعنى: الشيطان سول لهم، والله أملى لهم.

.تفسير الآية رقم (26):

القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [26].
{ذَلِكَ} إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم {بِأَنَّهُمْ} أي: بسبب أنهم: {قَالُوا} أي: المنافقون: {لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} أي: لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} أي: بعض أموركم، أو ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد، والتظاهر على الرسول، أو الخروج معهم إن أخرجوا، كما أوضح ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر: 11]، وهم بنو قريظة، والنضير الذين كانوا يوالونهم ويوادّونهم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي: إخفاءهم لما يقولونه لليهود.

.تفسير الآيات (27- 28):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [27- 28].
{فَكَيْفَ} أي: يفعلون ويدفعون ضرر الردة عليهم: {إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ} أي: التي ولوها عن الله إلى أعدائه: {وَأَدْبَارَهُمْ} أي: التي ولوها عن الأعداء إلى الله {ذَلِكَ} أي: التوفي الهائل: {بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} أي: من إطاعة أعدائه {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} أي: في معاداتهم، فأدى بهم إلى الردة: {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي: التي كانت تفيدهم النجاة من ذلك الضرب، ومن الفضائح الدنيوية.

.تفسير الآية رقم (29):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [29].
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي: نفاق تفرع منه أضغان على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: {أَن لَّن يُخْرِجَ} أي: يظهر: {اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} أي: أحقادهم لرسوله وللمؤمنين، فتبقى أمورهم مستورة. والمعنى: أن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الاحتمال.

.تفسير الآيات (30- 31):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [30- 31].
{وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ} أي: لعرّفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم معرفة متاخمة للرؤية: {فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ} أي: بعلامتهم التي نسمهم بها: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي: أسلوبه وما يرمون من غير إيضاح به.
قال في الإكليل: استدل بالآية من جعل التعريض بالقذف موجباً للحد.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} أي: فيجازيكم بحسب قصدكم {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ} أي: أهل المجاهدة في سبيل الله، والصبر على المشاق: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} أي: أفانين أقوالكم، وضروب بياناتكم، وأعمال قوة ألسنتكم في نشر الحق، والصدع به، والدأب عليه، هل هو متمحض لذلك، أم فيه ما فيه من المحاباة خيفة لوم اللائم.
قال القاشاني: علم الله تعالى قسمان: سابقٌ على معلوماته إجمالاً في لوح القضاء، وتفصيلاً في لوح القدر، وتابع إياها في المظاهر التفصيلية من النفوس البشرية، والنفوس السماوية الجزئية. فمعنى: {حَتَّى نَعْلَمَ} حتى يظهر علمنا التفصيليّ في المظاهر الملكوتية والإنسية، التي يثبت بها الجزاء- والله أعلم-.

.تفسير الآية رقم (32):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [32].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} أي: فتذهب سدى، لا تثمر لهم نفعاً.

.تفسير الآيات (33- 34):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [33- 34].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} أي: لكن يعذبهم ويعاقبهم.

.تفسير الآية رقم (35):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [35].
{فَلَا تَهِنُوا} أي: فلا تضعفوا أيها المؤمنون بالله عن جهاد الذين اعتدوا عليكم، وصدوا عن سبيل الله {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} أي: الصلح والمسالمة: {وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} أي: الأغلبون، فإن كسح الضلال من طريق الحق لا منتدح عنه، ما تيسرت أسبابه، وقهرت أربابه: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} أي: بنصره ما تمسكتم بحبله: {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي: لن ينقصكم ثوابها ويضيعها.

.تفسير الآية رقم (36):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [36].
{إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي: فلا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك الجهاد: {وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} أي: ثواب إيمانكم وتقواكم: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} أي: لأنه غني عنكم، وإنما يريد منكم التوحيد، ونبذ الأوثان، والطاعة لما أمر به ونهى عنه.
قال بعض المفسرين: أي: لا يسألكم جميع أموالكم، بل يقتصر منكم على جزء يسير، كربع العشر وعشره. إشارة إلى إفادة الجمع المضاف للمعلوم، وهو معطوف على الجزاء. والمعنى: إن تؤمنوا لا يسألكم الجميع، أي: لا يأخذه منكم، كما يأخذ من الكفار جميع أموالهم. ولا يخفى حسن مقابلته لقوله: {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} أي: يعطكم كل الأجور، ويسألكم بعض المال- هذا ما قاله الشهاب-.
والظاهر أن المراد بيان غناه تعالى عن عباده، وأن طلب إنفاق الأموال منهم، لعود نفعه إليهم لا إليه، لاستغنائه المطلق، فإن في الصدقات دفع أحقاد صدور الفقراء عنهم، وفي بذله للجهاد دفع غائلة الشرور والفساد، وكله مما يعود ثمرته عليهم.
ثم أشار تعالى إلى حكمته، ورحمته في عدم سؤاله إنفاق أموالهم كلها، بقوله:

.تفسير الآية رقم (37):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [37].
{إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} أي: فيجهدكم بالمسألة، ويلح عليكم بطلبها منكم، تبخلوا بها وتمنعوها، ضنّاً منكم بها، ولكنه علم ذلك منكم، ومن ضيق أنفسكم، فلم يسألكموها.
قال الزمخشري: الإحفاء المبالغة، وبلوغ الغاية في كل شيء. يقال: أحفاه في المسألة، إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح، وأحفى شاربه، إذا استأصله.
{وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} أي: أحقادكم، وكراهتكم لدينٍ يذهب بأموالكم. وضمير يخرج لله تعالى، ويعضده القراءة بنون العظمة. أو للبخل لأنه سبب الأضغان. وقرئ {يخرج} من الخروج، بالياء والتاء، مسنداً إلى الأضغان.

.تفسير الآية رقم (38):

القول في تأويل قوله تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [38].
{هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: في جهاد أعدائه، ونصرة دينه: {فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ} أي: بالنفقة فيه {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} أي: يمسكه عنها، لأنه يحرمها الأجر، ويكسبها الوزر: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ} أي: عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه. ولهذا قال سبحانه: {وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء} أي: بالذات إليه. فوصفه بالغنى وصف لازم له، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم، لا ينفكون عنه، أي: وإذا كان كذلك، فإنما حضكم في النفقة في سبيله ليكسبكم بذلك، الجزيلَ من ثوابه. وليعلم أن سبيل الله يشمل كل ما فيه نفع وخير، وفائدة، وقربة، ومثوبة. وإنما اقتصر المفسرون على الجهاد لأنه فرده الأشهر، وجزئيه الأهم، وقت نزول الآيات، وإلا فلا ينحصر فيه.
{وَإِن تَتَوَلَّوْا} أي: عما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم: {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي: يهلككم ثم يأتي بقوم آخرين غيركم، بدلاً منكم، يؤمنون به، ويعملون بشرائعه.
{ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} أي: لا يبخلوا بما أُمروا به من النفقة في سبيل الله، ولا يضيعون شيئاً من حدود دينهم، ولكنهم يقومون بذلك كله، على ما يؤمرون به.

.سورة الفتح:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [1].
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} قال الرازي: في الفتح وجوه:
أحدها- فتح مكة، وهو ظاهر.
وثانيها- فتح الروم وغيرها.
وثالثها- المراد من الفتح، صلح الحديبية.
ورابعها- فتح الإسلام بالحجة والبرهان، والسيف والسنان.
وخامسها- المراد منه الحكم، كقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89]، وقوله: {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [سبأ: 26]. انتهى.
ولا يخفى أن الوجوه المذكورة كلها، مما يصدق عليها الفتح الرباني، وجميعها مما تحقق مصداقه. إلا أن سبب نزول الآية، الذي حفظ الثقات زمنه، يبين المراد من الفتح بياناً لا خلاف معه، وهو أنه الوجه الثالث المذكور.
قال الإمام ابن كثير: نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام، ليقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا، ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك، على تكرّهٍ من جماعة من الصحابة، منهم عُمَر بن الخطاب، رضي الله عنهم كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى. فلما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه حيث أُحصر ورجع، أنزل الله عز وجل هذه السورة، فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحاً، باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية. وعن جابر رضي الله عنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية. روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتحَ مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان، يوم الحديبية.
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض»، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم- أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به-.
وروى الإمام أحمد عن مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه- وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن- قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها، إذا الناس، ينفرون الأباعر. فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نرجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه، فقرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}.
قال، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي: رسول الله! أو فتح هو؟ قال صلى الله عليه وسلم: أي: «والذي نفس محمد بيده! إنه لفتح». ورواه أبو داود في الجهاد.
ثم قال ابن كثير: فالمراد بقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}- أي: بيناً ظاهراً- هو صلح الحديبية، فإنه حصل بسببه خير جزيل، وأمِن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان. انتهى.
وقال الإمام ابن القيم في زاد المعاد في الكلام على ما في غزوة الحديبية من الفقه واللطائف، ما مثاله:
كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به، وكلّم بعضهم بعضاً، وناظره في الإسلام، وتمكّن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه، والدعوة إليه، والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشرٌ كثيرٌ في الإسلام، ولهذا سماه الله فتحاً في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} نزلت في الحديبية، فقال عمر: يا رسول الله! أو فنح هو؟ قال: نعم. وأعاد سبحانه ذكر كون ذلك فتحاً قريباً. وهذا شأنه سبحانه أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها، المنبئة لها وعليها، كما قدم بين يدي قصة المسيح، وخلقه من غير أب، قصة زكريا، وخلق الولد له، مع كونه كبيراً، لا يولد لمثله. وكما قدم بين يدي نسخ القبلة، قصة البيت، وبنائه، وتعظيمه، والتنويه به، وذكر بانيه، وتعظيمه ومدحه. ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ، وحكمته المقتضية له، وقدرته الشاملة له. وهكذا ما قدم بين يدي مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قصة الفيل، وبشارات الكهان به، وغير ذلك. وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة. وكذلك الهجرة، كانت مقدمة بين يدي الأمر بالجهاد. ومن تأمّل أسرار الشرع والقدر، رأى من ذلك ما تبهر حكمته أولي الألباب. انتهى. وقوله تعالى: