فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (2):

القول في تأويل قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [2].
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} قال أبو السعود: غاية للفتح، من حيث إنه مترتب على سعيه عليه الصلاة والسلام في إعلاء كلمة الله تعالى، بمكابدة مشاقّ الحروف، واقتحام موارد الخطوب {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} أي: جميع ما فرط منك، من ترك الأولى. وتسميته ذنباً، بالنظر إلى منصبه الجليل.
قال ابن كثير: هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال كغيره، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا فيه تشريف عظيم لرسول اله صلى الله عليه وسلم في جميع أموره على الطاعة والبرّ والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين، ولا من الآخرين. وهو صلى الله عليه وسلم أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة. ولما كان أطوع خلق الله تعالى لله، وأشدهم تعظيماً لأوامره ونواهيه، قال حين بركت به الناقة: حبسها حابس الفيل. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده! لا يسألوني اليوم شيئاً يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها، فلما أطاع الله في ذلك، وأجاب إلى الصلح، قال الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} الآيات».
وقوله تعالى: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي: بإظهاره إياك على عدوّك، ورفعه ذكرك {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أي: ويرشدك طريقاً من الدين لا عوج فيه. قال أبو السعود: أصل الاستقامة، وإن كانت حاصلة قبل الفتح، لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبيل الحق، واستقامة مناهجه، ما لم يكن حاصلاً قبل.

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} [3].
{وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} أي: قوياً منيعاً، لا يغلبه غالب، ولا يدفعه دافع، للبأس الذي يؤيدك الله به، والظفر الذي يمدك به.

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [4].
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: السكون، والطمأنينة إلى الإيمان، والحق {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} أي: يقيناً منضماً إلى يقينهم.
قال القاشاني: السكينة نور في القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن. وهو من مبادئ عين اليقين، بعد علم اليقين، كأنه وجدانٌ يقينيّ معه لذة وسرور.
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} أي: في تقديره وتدبيره.

.تفسير الآية رقم (5):

القول في تأويل قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} [5].
واللام في قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} متعلق بمحذوف، نحو: أمر بالجهاد ليُدخل... الخ. أو دبّر ما دبّر مما ذكر لذلك، أو متعلق بـ: {فَتَحْنَا} على تعلق الأول به مطلقاً، وهذا مقيداً، أو بقوله: {لِيَزْدَادُواْ} {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً}.

.تفسير الآية رقم (6):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [6].
{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} أي: ظن الأمر السوء، وهو أن لا ينصر تعالى رسوله والمؤمنين: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} أي: بالتعذيب في الدنيا بأنواع الوقائع، كالقتل، والإهانة، والإذلال. وقرئ: {دَاْئِرَةُ السُّوْءِ} بالضم، وهما لغتان من ساء كالكُره والكَره: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي: بالقهر، والحجب: {وَلَعَنَهُمْ} أي: بالطرد، والإبعاد في الآخرة: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً}.

.تفسير الآية رقم (7):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [7].
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} قيل في سر التكرير: إنه ذكر سابقاً على أن المراد به أنه المدبر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته، فلذلك ذيله بقوله: {عَلِيماً حَكِيماً}، وهنا أريد به التهديد بأنهم في قبضة قدرة المنتقم، فلذا ذيله بقوله: {عَزِيزاً حَكِيماً} فلا تكرار. وقيل: إن الجنود جنود رحمة، وجنود عذاب، وأن المراد هنا الثاني، ولذا تعرّض لوصف العزة. وقال القاشاني: كررها ليفيد تغليب الجنود الأرضية على السماوية في المنافقين والمشركين، بعكس ما فعل بالمؤمنين. وبدّل: {عَلِيماً} بقوله: {عَزِيزاً} ليفيد معنى القهر والقمع؛ لأن العلم من باب اللطف، والعزة من باب القهر.

.تفسير الآية رقم (8):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [8].
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} أي: على أمتك بما أجابوك فيما دعوتهم إليه: {وَمُبَشِّراً} أي: لمن استجاب لك بالجنة: {وَنَذِيراً} أي: لمن خالفك بالنار.

.تفسير الآية رقم (9):

القول في تأويل قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [9].
{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ} أي: تؤيدوا دينه، وتقرّوه: {وَتُوَقِّرُوهُ} أي: تعظّموه: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي: غدوة وعشياً- على ظاهره- أو دائماً، بجعل طرفي النهار كناية عن الجميع، كما يقال: شرقاً وغرباً، لجميع الدنيا. والضمائر كلها- على ما ذكرنا- لله، وجوّز إعادة الأولين للرسول، والأخير لله إلا أن فيه تفكيكاً.

.تفسير الآية رقم (10):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [10].
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} أي: على قتال قريش تحت الشجرة، وأن لا يفرّوا عند لقاء العدو، ولا يولوهم الأدبار {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} أي: لأن عقد الميثاق مع رسول الله، كعقده مع الله، من غير تفاوت؛ لأن المقصود من توثيق العهد مراعاة أوامره تعالى، ونواهيه {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} تأكيد لما قبله. أي: أن يد الله عند البيعة فوق أيديهم، كأنهم يبايعون الله ببيعتهم نبيَّه صلى الله عليه وسلم. وقال القاشاني: أي: قدرته البارزة في يد الرسول، فوق قدرتهم البارزة في صور أيديهم، فيضرهم عند النكث، وينفعهم عند الوفاء.
{فَمَن نَّكَثَ} أي: نقض عهده: {فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أي: لعود ضرر ذلك عليه خاصة {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} وهو الجنة.
تنبيه:
هذه البيعة هي بيعة الرضوان. وكانت تحت شجرة سمرة بالحديبية. وكان الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألفاً وأربعمائة، وقيل: وثلاثمائة، وقيل: خمسمائة. والأول أصح- على ما قاله ابن كثير- وقد اقتص سيرتها غير واحد من الأئمة. ولما كانت هذه السورة الجليلة كلها في شأنها، لزم إيرادها مفصلة.
قال ابن إسحاق: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة معتمراً، لا يريد حرباً. واستنفر العرب، ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت. فأبطأ عليه كثير من الأعراب. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائراً لهذا البيت، ومعظماً له.
وقال الإمام ابن القيم: قصة الحديبية كانت سنة ست في ذي القعدة. وكان معه ألف وخمسمائة. هكذا في الصحيحين عن جابر. وفيهما عن عبد الله بن أبي أوفى: كنا ألفاً وثلاثمائة. وعن جابر فيهما: كانوا ألفاً وأربعمائة- والقلب إلى هذا أميل- وهو قول البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع. ثم لما كانوا بذي الحليفة قلّد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي، وأشعر، وأحرم بالعمرة، وبعث عيناً له بين يديه من خزاعة، يخبره عن قريش، حتى إذا كان قريباً من عسفان، أتاه عينه فقال: إني تركت كعب بن لؤي، قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعاً، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت.
واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال: «أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا تكن عنقاً قطعها الله؟ أم ترون أن نؤم البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه؟» قال أبو بكر: الله ورسوله أعلم! إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد. ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فروحوا إذن». فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن خالد بن الوليد بالغميم، في خيل قريش، فخذوا ذات اليمين» فو الله! ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش. فانطلق يركض نذيراً لقريش. وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم، بركت راحلته. فقال الناس: حَلْ حَلْ، فألحّت: فقاوا: خلأت القصواء! خلأت القصواء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلُق، ولكن حبسها حابس الفيل! ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها».
ثم زجرها فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء إنما يتبرضه الناس نبرضاً، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه. قال: فو الله! ما زال يجيش لهم بالريّ، حتى صدروا عنه. وفزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلاً من أصحابه، فدعا عُمَر بن الخطاب ليبعثه إليهم، فقال: يا رسول الله! ليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، فأرسله إلى قريش وقال: «أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عماراً، وادعهم إلى الإسلام.- وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم- ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهرٌ دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها بالإيمان».
فانطلق عثمان، فمر على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله والإسلام، ونخبركم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عماراً. فقالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك. وقام إليه أَبَان بن سعيد بن العاص، فرحب به، وأسرج فرسه. فحمل عثمانَ على الفرس وأجاره، وأردفه أَبَان حتى جاء مكة. وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان: خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون!» فقالوا: وما يمنعه يا رسول الله، وقد خلص؟ قال: «ذاك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معاً» واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلاً من الآخر، وكانت معركة، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل. فدعا إلى البيعة، فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال: «هذه عن عثمان».
ولما تمت البيعة رجع عثمان. فقال المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت؟ فقال: بئس ما ظننتم بي! والذي نفسي بيده! لو مكثت بها سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية، ما طفت بها، حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت! فقال المسلمون: رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلمنا بالله! وأحسننا ظنّاً. وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة، فبايعه المسلمون كلهم، إلا الجد بن قيس، وكان مَعْقِل بن يسار آخذاً بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أول من بايعه أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات، في أول الناس وأوسطهم وآخرهم.
فبينا هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخُزَاعِي في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم: فإن شاؤوا أماددهم ويخلّوا بيني وبين الناس. وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا. وإن أبوا إلا القتال، فو الذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره».
قال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشاً فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولاً، فإن شئتم عرضته عليكم. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال سمعته يقول كذا وكذا. فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته. فقالوا: ائته. فأتاه، فجعل يكلمه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل. فقال له عروة عند ذلك: أي: محمد! أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن أخرى، فو الله إني لأرى وجوهاً، وأرى أوشاباً من الناس، خليقاً أن يفروا ويدعوك! فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات! أنحن نفر عنه وندعه! قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده! لولا يد كانت لك عندي لم أَجزك بها، لأجبتك! وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته. والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف، وعليه المغفر. فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه وقال: من ذا؟ قال: المغيرة بن شعبة. فقال: أي: غدر! أو لست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية. فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء».
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فو الله! ما تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها جلده ووجهه، وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي: قوم! لقد وفدت على الملوك: على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً. والله! إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له. وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له» فبعثوها له، واستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا مكرز بن حفص، وهو رجل فاجر» فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينا هو يكلمه، إذ جاء سهيل بن عَمْرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد سهل لكم من أمركم» فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً. فدعا الكاتب، فقال: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم». فقال سهيل: أما الرحمن فو الله ما ندري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اكتب: باسمك اللهم». ثم قال: «اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله» فقال سهيل: فو الله! لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني رسول الله وإن كذبتموني! اكتب: محمد بن عبد الله». فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به» فقال سهيل: والله! لا تتحدث العرب أننا أُخذنا ضغطةً، ولكن لك من العام المقبل، فكتب فقال سهيل: على أن لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك، إلا رددته إلينا. فقال المسلمون سبحانه الله! كيف يرد إلى المشركين، وقد جاء مسلماً؟!
فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل ابن سهيل يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أول من قاضيتك عليه أن ترده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نقض الكتاب بعد» فقال: فو الله! إذن لا أصالحك على شيء أبداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأجزه لي» قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: «بلى، فافعل». قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: قد أجزناه لك. فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما لقيت- وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله-.
قال عمر ابن الخطاب: والله! ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله! ألست نبي الله؟ قال: «بلى!» قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: «بلى!» فقلت: على ما نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: «إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه».
قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: «بلى! أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟» قلت: لا! قال: «فإنك آتيه، وتطوف به!» قال فأتيت أبو بكر، فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، وزاد: فاستمسك بغرزه حتى تموت فوالله! إنه لعلى الحق. قال عمر فعملت لذلك أعمالاً.
فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا وانحروا ثم احلقوا». فوالله! ما قام منهم رجل حتي قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بُدنك، وتدعو حالقك فيحلق لك. فقام فخرج فلم يلكم أحداً منهم، حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّاً.
ثم جاءت نسوة مؤمنات، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10]، حتى بلغ: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. فتزوج إحداهما معاوية، والأخرى صفوان بن أمية. ثم رجع إلى المدينة، وفي مرجعه أنزل الله عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} الآيات. فقال لعمر: أفتح هو يا رسول الله؟ قال: «نعم!» فقال الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله! فمالنا! فأنزلنا الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4]، الآية.
ولما رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير- رجل من قريش- مسلماً، فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا: العهد الذي جعلت لنا! فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به، حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيداً، فاستله الآخر، فقال: أجل! والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفرّ الآخر يعدو، حتى بلغ المدينة، فدخل المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: «لقد رأى هذا زعراً». فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُتل والله! صاحبي، وإني لمقتول. وجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله! قد أوفى الله ذمتك، وقد رددتني إليهم، فأنجاني الله منهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل أمه! مسعر حرب لو كان له أحد».
فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، وتفلّت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة. فوالله! لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم، وأخذوا أموالهم. وأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [الفتح: 24] الآية.
وجرى الصلح بين المسلمين، وأهل مكة على وضع الحرب عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامهم ذلك، حتى إذا كان العام المقبل، قدمها، وخلّوا بينه وبين مكة، فأقام بها ثلاثاً، وأنه لا يدخلها إلا سلاح الراكب، والسيوف في القرب، وأن من أتانا من أصحابكم لم نرده عليك، ومن أتاك من أصحابنا رددته علينا، وأن بيننا وبينك عيبةً مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال. فقالوا: يا رسول الله! نعطيهم هذا؟ فقال: من أتاهم منا، فأبعده الله، ومن أتانا منهم فرددناه إليهم، جعل الله له فرجاً ومخرجاً.
هذا ولنظر تتمة ما في فوائد هذه الغزوة ولطائفها في زاد المعاد.