فصل: تفسير الآية رقم (11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (11):

القول في تأويل قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [11].
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} قال مجاهد: هم أعراب المدينة، كجهينة ومزينة، استتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخروجه إلى مكة، فقالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاؤوه، فقتلوا أصحابه، فنقاتلهم. فاعتلوا بالشغل. أي: سيقولون لك إذا عاتبتهم على التخلف عنك: شغلنا عن الخروج معك معالجة أموالنا، وإصلاح معايشنا، والخوف على أهلنا من الضيعة، فاستغفر لنا ربنا.
وقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} تكذيب لهم في اعتذارهم، وأن الذي خلفهم ليس بما يقولون، وإنما هو الشك في الله، والنفاق. وكذا طلبهم للاستغفار أيضاً، ليس بصادر عن حقيقة؛ لأنه بغير توبة منهم، ولا ندم على ما سلف منهم من معصية التخلف. وفيه إيذان بأن اللسان لا عبرة به، ما لم يكن مترجماً عن الاعتقاد الحق.
{قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} أي: لا أحد يمنعه تعالى من ذلك؛ لأنه لا يغالبه غالب. إشارة إلى عدم فائدة استغفاره لهم، مع بقائهم على كذبهم ونفاقهم، ولذا هددهم بقوله سبحانه: {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي: فيجازيكم عليه.
لطيفة:
قال الناصر: لا تخلو الآية من الفن المعروف عند علماء البيان باللف. وكان الأصل- والله أعلم-: فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أرد بكم ضراً، ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعاً؛ لأن مثل هذه النظم يستعمل في الضر. وكذلك ورد في الكتاب العزيز مطرداً، كقوله: {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة: 41]، {فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} [الأحقاف: 8]. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الحديث: «إني لا أملك لكم شيئاً»- يخاطب عشيرته- وأمثاله كثيرة.
وسر اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام، ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه، وليس كذلك حرمان المنفعة، فإنه ضرر عائد عليه، لا له. فإذا ظهر ذلك، فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه، لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقدر من خير وشر، فلما تقاربا أدرجهما في عبارة واحدة، وخص عبارة دفع الضر؛ لأنه هو المتوقع لهؤلاء؛ إذ الآية في سياق التهديد، أو الوعيد الشديد. وهي نظير قوله: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب: 17]، فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة. فهاتان الآيتان يرامان في التقرير الذي ذكرته- والله أعلم-.

.تفسير الآيات (12- 13):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً} [12- 13].
{بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ} أي: اعتقدتم أنه لن يرجع: {الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} أي: بل تستأصلهم قريش {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} أي: حسّن الشيطان ذلك وصححه، حتى حبب لكم التخلف {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} وهو عدم نصر الرسول، وعدم رجوعهم من سفرهم هذا {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} هالكين، مستوجبين لسخط الله، أو فاسدين في أعمالكم ونياتكم {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً} أي: من النار تستعر عليهم.

.تفسير الآية رقم (14):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [14].
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} قال ابن جرير: هذا من الله جل ثناؤه حثٌّ لهؤلاء الأعراب المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على التوبة، والمراجعة إلى أمر الله، في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. يقول لهم: بادروا بالتوبة من تخلفكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله يغفر للتائبين؛ لأنه لم يزل ذا عفو عن عقوبة التائبين إليه من ذنوبهم، ومعاصيهم من عباده، وذا رحمة بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد توبتهم منها.

.تفسير الآية رقم (15):

القول في تأويل قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [15].
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} أي: بعذر الاشتغال بأموالهم، وأهليهم بعد طلبهم الاستغفار لهم: {إِذَا انطَلَقْتُمْ} أي: قصدتم السير: {إِلَى مَغَانِمَ} أي: أماكنها. قال ابن جرير: وذلك ما كان الله وعد أهل الحديبية من غنائم خيبر: {ذَرُونَا} أي: اتركونا في الانطلاق إليها: {نَتَّبِعْكُمْ} أي: نشهد معكم قتال أهلها: {يُرِيدُونَ} أي: بعد ظهور كذبهم في الاعتذار، وطلب الاستغفار: {أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} قال ابن جرير: أي: وعد الله الذي وعد أهل الحديبية، وذلك أن الله جعل غنائم خيبر لهم، ووعدهم ذلك عوضاً من غنائم أهل مكة؛ إذ انصرفوا عنهم على صلح، ولم يصيبوا منهم شيئاً.
وقال آخرون: بل عنى بقوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} إرادتهم الخروج مع نبي الله صلى الله عليه وسلم في غزوة. وقد قال الله تبارك وتعالى في سورة التوبة: {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83]، والأكثرون على الأول. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست، وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية، ففتحها وغنم أموالاً كثيرة، فخصها بهم.
قال الشراح: وكان ذلك بوحي. ثم كانت غزوة تبوك بعد فتح خيبر، وبعد فتح مكة أيضاً. وفي منصرفه من تبوك نزل قوله تعالى: {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} [التوبة: 83] الآية. فكيف يحمل على ما كان في غزوة الحديبية، وقد نزل بعدها بكثير؟- والله أعلم- {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} أي: إلى خيبر إذا أردنا السير إليها. وهو نفي في معنى النهي. قال الشهاب: فالخبر مجاز عن النهي الإنشائي، وهو أبلغ.
{كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ} قال ابن جرير: أي: من قبل مرجعنا إليكم. إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا، ولستم ممن شهدها، فليس لكم أن تتبعونا إلى خيبر، لأن غنيمتها لغيركم: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي: أن نصيب معكم مغنماً إن نحن شهدنا معكم، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم. قال الشهاب: وهو إضراب عن كونه بحكم الله. أي: بل إنما ذلك من عند أنفسكم حسداً.
{بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ} أي: عن الله تعالى ما لهم وما عليهم من أمر الدين: {إِلَّا قَلِيلاً} أي: فهماً قليلاً، وهو ما كان في أمور الدنيا، كقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7].

.تفسير الآية رقم (16):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [16].
{قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ} أي: عن المسير معك: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي: يفوق قتال من أقاتلهم، بحيث لا دخل للصلح والأمن فيه، بل: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أي: يدخلون في الدنيا من غير حرب ولا قتال. وقرئ شاذاً: {أو يسلموا} بمعنى إلا أن يسلموا، أو حتى يسلموا {فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً} يعني الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة: {وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ} أي: عن الحديبية: {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي: لتضاعف جرمكم.
ثم خص من هذا الوعيد أصحاب الأعذار، وإن حدثت بعد التخلف الأول، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (17):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} [17].
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} قال المهايمي: وإن أمكنه القتال بإحساس صوت مشي العدو، ومشي فرسه، لكن يصعب عليه حفظ نفسه عنه {وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} أي: وإن أمكنه القتال قاعداً، لكن لا يمكنه الكرّ والفرّ، ولا يقوى قوة القائم: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أي: فإنه وإن أمكنه الإبصار والقيام، فلا قوة له في دفع العدو، فضلاً عن الغلبة عليه.
ثم أشار تعالى إلى أن هؤلاء، وإن فاتهم الجهاد، لا ينقص ثوابهم إذا أطاعوا الله ورسوله، بقوله سبحانه: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ} أي عن إطاعتهما، وإن كان أعمىً، أو أعرجاً، أو مريضاً: {يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} أي: بالمذلة دنيا، والنار أخرى.
تنبيه:
اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين هم أولو بأس شديد- على أقوال:
أحدها- أنهم هوزان.
الثاني- ثقيف، وكلاهما غزاه النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث- بنو حنيفة الذين تابعوا مسيلمة الكذاب، وغزاهم أبو بكر رضي الله عنه.
الرابع- أهل فارس والروم، الذين غزاهم عمر رضي الله عنه.
ومثار الخلاف هو عموم ظاهر الآية، وشمول مصداقها لكل الغزوات المذكورة. ولو عد من الأوجه كفار مكة، لم يبعد، بل عندي هو الأقرب، لأن السين للاستقبال القريب، فإن هذه السورة نزلت عِدةً بفتح مكة، منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وعلى أثرها كانت غزوة الفتح الأعظم، التي لم يتخلف عنها من القبائل الشهيرة أحد، إذ دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال قريش أو يسلموا، فكان ما كان من إسلامهم طوعاً أو كرهاً- والله أعلم-.

.تفسير الآية رقم (18):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [18].
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} يعني بيعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب، وعلى أن لا يفرّوا، ولا يولوهم الدبر، تحت شجرة هناك.
وقد أجمع الرواة في الصحاح على أن الشجرة لم تُعْلمْ بعد. ففي الصحيحين من حديث أبي عوانة عن طارق، عن سعيد بن المسيب قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. قال: فانطلقنا من قابل حاجّين، فخفي علينا مكانها، وإن كانت بينت لكم، فأنتم أعلم. وفيهما أيضاً عن سفيان قال: إنهم اختلفوا في موضعها.
وروى ابن جرير عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: كان جدي يقال له حَزْن، وكان ممن بايع تحت الشجرة، فأتيناها من قابل، فعمّيت علينا.
ثم قال ابن جرير: وزعموا أن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هنا، وبعضهم يقول: ها هنا! فلما كثر اختلافهم قال: سيروا، هذا التكلّف، فذهبت الشجرة، وكانت سمرة، إما ذهب بها سيل، وإما شيء سوى ذلك. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: روى ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة، فيصلّون عندها، فتوعدهم، ثم أمر بقطعها، فقطعت!.
ولا ينافي ما تقدم، لاحتمال أن هؤلاء علموا مكانها، أو توهّموها، فاتخذوها مسجداً، ومكاناً مقدساً، فقطعها عمر حالتئذ، صوناً لعقيدتهم من الشرك، لأن الاجتماع على العبادة حولها يفضي إلى عبادتها بعد، كما أفضى نصب الأوثان إلى عبادتها، وكان أول أمرها لتعظيم مسمياتها، وإجلال مثال أصحابها.
وقال في الفتح أيضاً في شرح ابن عمر، وقوله: رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها. كانت رحمة من الله، ما مثاله:
وقد وافق المسيب بن حَزْن، والد سعيد، ما قاله ابن عمر من خفاء الشجرة. والحكمة في ذلك أن لا يحصل بها افتنان، لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر، كما نراه الآن مشاهداً فيما هو دونها. وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله كانت رحمة من الله. أي: كان خفاؤها عليهم، بعد ذلك، رحمة من الله تعالى. انتهى.
وهذه البيعة تسمى بيعة الرضوان، سميت لهذه الآية، وتقدمت قصتها مفصلة.
{فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: من الصدق والعزيمة على الوفاء بالعهد: {فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أي: في الصبر والطمأنينة والوقار {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} قال ابن جرير: أي: وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة، بقتالهم أهلها {فَتْحاً قَرِيباً}، وذلك- فيما قيل- فتح خيبر.

.تفسير الآية رقم (19):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [19].
{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} وهي مغانم خيبر، وكانت أرضاً ذات عَقَّار وأموال، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بيعة الرضوان خاصة {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} أي: ذا عزة في انتقامه من أعدائه، وحكمه في تدبير خلقه.

.تفسير الآية رقم (20):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [20].
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} يعني ما يفيء عليهم من غنائم الكفار في سبيل الجهاد {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يعني غنائم خيبر. وأما الغنائم المؤخرة فسائر فتوح المسلمين بعد ذلك الوقت، إلى قيام الساعة. وقيل: المعجلة هي صلح الحديبية. والصواب هو الأول، كما قاله ابن جرير؛ لأن المسلمين لم يغنموا بعد الحديبية غنيمة، ولم يفتحوا فتحاً أقرب من بيعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية إليها، من فتح خيبر وغنائمها {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ} أي: أيدي أهل خيبر، فانتصرتم عليهم، أو أيدي المشركين من قريش عنكم في الحديبية. واختار ابن جرير الأول. قال: لأن الثاني سيذكر في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الآية. أي: والتأسيس خير من التأكيد. ولك أن تقول: لا مانع من التأكيد، لاسيما في مقام التذكير بالنعم، والتنويه بشأنها. وتكون الآية الثانية بمثابة التفسير للأولى، والتبيين لمطلقها- والله أعلم- {وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي: ولتكون تلك الكفة أو الغنيمة عبرة للمؤمنين، يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان، وأنه ضامن نصرهم، والفتح لهم {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أي: ويزيدكم بصيرة ويقيناً وثقة بفضل الله. وقوله تعالى: