فصل: تفسير الآية رقم (21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (21):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [21].
{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} معطوف على: {هَذِهِ} أي: فيجّعل لكم هذه المغانم، ومغانم أخرى، وهي مغانم هوزان في غزوة حنين، لأنه قال: {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} وهذا يدل على ما تقدم محاولة لها. وقال الحسن: هي فارس والروم. قال القرطبي: وكونها معجلة، وإن كانت لم تحصل إلا في عهد عمر، بالنسبة لما بعدها من الغنائم الإسلامية.
وعن قتادة: هي مكة. قال ابن جرير: وهذا القول الذي قاله قتادة، أشبه بما دل عليه ظاهر التنزيل. وذلك أن الله أخبر هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة أنه محيط بقرية لم يقدروا عليها، ومعقول أنه لا يقال لقوم، لم يقدروا على هذه المدينة، إلا أن يكونوا قد راموها فتعذرت عليهم. فأما وهم لم يرموها فتتعذر عليهم، فلا يقال إنهم لم يقدروا عليها. فإذا كان ذلك كذلك، وكان معلوماً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقصد قبل نزول هذه الآية عليه، خيبرَ لحربٍ، ولا وجّه إليها لقتال أهلها جيشاً ولا سرية، علم أن المعنى بقوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} غيرها، وأنها هي التي عالجها ورامها فتعذرت، فكانت مكة وأهلها كذلك، وأخبر الله تعالى نبيه والمؤمنين، أنه أحاط بها وبأهلها، وأنه فاتحها عليهم. انتهى.
وقال القرطبي: معنى: {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} أي: أعدها لكم، فهي كالشيء الذي أحيط به من جميع جوانبه، فهو محصور لا يفوت. فأنتم، وإن لم تقدروا عليها في الحال، فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم. وقيل: {أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} علم أنها ستكون لكم، كما قال: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءً عِلْماً}. وقيل: حفظها الله عليكم، ليكون فتحها لكم. انتهى.
وقد جوز في: {أُخْرَى} أن تكون معطوفة على: {مَغَانِمَ} المنصوب بـ: {وَعَدَكُمْ} وأن تكون مرفوعة بالابتداء و{لَمْ يَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} صفتها و{قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} خبر. وأوجه أخر.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} أي: لا يبعد عليه إذا شاءه.
ثم أشار تعالى إلى تبشير أهل بيعة الرضوان بالظفر، والنصر المستمر، لصدق إيمانهم، وإخلاصهم في ثباتهم، وإيثارهم مرضاة الله ورسوله على كل محبوب، بقوله:

.تفسير الآيات (22- 23):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [22- 23].
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ} أي: بعد هذا الفتح، والنصر المعجل: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} أي ولوهم أعجازهم في الحرب، فعل المنهزم من قرنه في الحرب {ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً} أي: من يواليهم على حربكم، وينصرهم عليكم {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} أي: مضت في كفار الأمم السالفة مع مؤمنيها {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} أي: تغييراً.
قال ابن جرير: بل ذلك دائم. للإحسان جزاؤه من الإحسان، وللإساءة، والكفر العقاب، والنكال.

.تفسير الآية رقم (24):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [24].
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} أي: قضى بينهم وبينكم المكافّة والمحاجزة، بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة، إشارة إلى منة الصلح ونعمته في الحديبية، وأن ذلك عناية منه تعالى بما حفظ من أنفسهم وأموالهم، ولطف بهم يومئذ لما ادخر لهم بعده.
وقد ذهب بعضهم إلى أنه عنى بهذا الكف، ما كان يوم الفتح، ونظر فيه بأن السورة نزلت قبله.
وقال ابن إسحاق: حدثني من لاأتهم عن عِكْرِمَة مولى ابن عباس أن قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أخذاً، فأخذوا أخذاً. فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم. وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل. قال ابن إسحاق: ففي ذلك قال: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} الآية.
وروى ابن جرير عن مجاهد قال: أقبل معتمراً نبي الله صلى الله عليه وسلم. فأخذ أصحابه ناساً من أهل الحرم غافلين، فأرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم. فذلك الإظفار ببطن مكة.
قال قتادة: بطن مكة، الحديبية.
{وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} أي: فيجازيكم عليه.

.تفسير الآية رقم (25):

القول في تأويل قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [25].
{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: هؤلاء المشركون من قريش، هم الذين جحدوا توحيد الله: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ} أي: وصدوا الهدي أيضاً، وهو ما يهدى إلى مكة من النعم: {مَعْكُوفاً} أي: محبوساً. قال السمين: يقال: عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته عنها. وأنكر الفارسي تعدية عكف بنفسه، وأثبتها ابن سيده، والأزهري وغيرهما، وهو ظاهر القرآن، لبناء اسم المفعول منه. انتهى.
وقوله تعالى: {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} قال ابن جرير: أي: محل نحره. وذلك دخول الحرم، والموضع الذي إذا صار إليه حلّ نحره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك، سبعين بدنة.
وفي الآية دليل على أن محل ذبح الهدي، الحرم.
{وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ} أي: موجودون بمكة مع الكفار: {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} أي: بصفة الإيمان وهم بمكة، حبسهم المشركون بها عنكم، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم {أَن تَطَؤُوهُمْ} أي: تقتلوهم مع الكفار، لو أذن لكم في الفتح بدل الصلح. قال السمين: {أَن تَطَؤُوهُمْ} يجوز أن يكون بدلاً من رجال ونساء، غلب الذكور، وأن يكون بدلاً من مفعول: {تَعْلَمُوهُمْ}. فالتقدير على الأول: ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين. وتقدير الثاني: لم تعلموا وطأهم، والخبر محذوف تقديره: ولولا رجال ونساء موجودون، أو بالحضرة. انتهى.
{فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ} أي: إثم وغرامة. من عرّه إذا عراه ما يكرهه. وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال من الضمير المرفوع في: {تَطَؤَوهُمْ} أي: تطؤوهم غير عالمين بهم. وفي جواب: {لَوْلاَ} أقوال:
أحدها- أنه محذوف لدلالة الكلام عليه. والمعنى: ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين، وأنتم غير عارفين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة، لما كف أيديكم عنهم، ولأذن لكم في دخول مكة مقاتليهم.
والثاني- أنه مذكور، وهو: {لَعَذَّبْنَا} وجواب لو هو المحذوف. فحذف من الأول لدلالة الثاني، ومن الثاني لدلالة الأول.
والثالث- أن قوله: {لَعَذَّبْنَا} جوابهما معاً، وهو بعيد إن أريد حقيقة ذلك.
وذكر الزمخشري قريباً من هذا فإنه قال: ويجوز أن يكون: {لَوْ تَزَيَّلُوا} كالتكرير لـ: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ} لمرجعهما لمعنى واحد، ويكون: {لَعَذَّبْنَا} هو الجواب. ومنع الشيخ رجوعهما لمعنى واحد، قال: لأن ما تعلق به الأول غير ما تعلق به الثاني- أفاده السمين-.
وأجاب الناصر بقوله: وإنما كان مرجعهما هاهنا واحدا، وإن كانت لولا تدل على امتناع لوجود، ولو تدل على امتناع لامتناع. وبين هذين تناف ظاهر؛ لأن لولا هاهنا دخل على وجود، ولو دخلت على قوله: {تَزَيَّلُوا} وهو راجع إلى عدم وجودهم. وامتناع عدم الوجود وجود. فآلا إلى أمر واحد من هذا الوجه. قال: وكان جدي رحمه الله يختار هذا الوجه الثاني، ويسميه تطرية. وأكثر ما تكون إذا تطاول الكلام، وبعد عهد أوله، واحتيج إلى رد الآخر على الأول، فمرة يطري بلفظه، ومرة بلفظ آخر يؤدي مؤادّه وقد تقدمت لهما أمثال.
تنبيه:
فسر ابن إسحاق المعرة بالدية، ذهاباً إلى أن دار الحرب لا تمنع من ذلك. وهو مذهب الشافعي. وذهب غيرهما إلى أنها تمنع من ذلك، ومنهم ابن جرير، حيث قال: المعرة هي كفارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة لمن أطاق ذلك، ومن لم يطق فصيام شهرين. قال: وإنما اخترت هذا القول، دون القول الذي قاله ابن إسحاق، لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب- إذا لم يكن هاجر منها، ولم يكن قاتِله علم إيمانه- الكفارةَ دون الدية فقال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} لم يوجب على قاتله خطأ ديته، فلذلك قلنا: عنى بالمعرة في هذا الموضع الكفارة. انتهى.
{لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء} متعلق بما يدل عليه الجواب المحذوف، كأنه قيل عقيبه: لكن كفها عنهم، ولم يأذن لكم في مقاتلتهم، ليدخلكم في رحمته الكاملة بحفظكم من المعرة. وقد جوّز أن يكون: {مَن يَشَاءُ} عبارة عمن رغب في الإسلام من المشركين، وعليه اقتصر ابن جرير، قال: أي: ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء، قبل أن تدخلوها. وناقش فيه أبو السعود بأن ما بعده من فرض التنزيل، وترتيب التعذيب عليه، يأباه.
{لَوْ تَزَيَّلُواْ} أي: لو تميز مشركو مكة من الرجال المؤمنين، والنساء المؤمنات، الذين لم تعلموهم منهم: {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي: بالقتل، أو الأسر، أو نوع آخر من العذاب الآجل.
تنبيه:
قال إلكيا الهراسي: في الآية دليل على أنه لا يجوز حرق سفينة الكفار، إذا كان فيهم أسرى من المسلمين، وكذلك رمي الحصون إذا كانوا بها، والكفار إذا تترسوا بهم.

.تفسير الآية رقم (26):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [26].
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} قال ابن جرير: وذلك حين جعل سهيل بن عَمْرو في قلبه الحمية، فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وأن يكتب فيه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه ذلك. والعامل في الظرف إما لعذبنا، أو صدوكم، أو اذكر مقدراً، فيكون مفعولاً به. والحمية الأنفة، وهي الاستكبار والاستنكاف، مصدر من حمى من كذا حمية.
وقوله تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} عطف على منويّ. أي: فهم المسلمون أن يأبوا ذلك، ويقاتلوا عليهم، فأنزل الله سكينته على رسوله، وعلى المؤمنين. يعني: الوقار والتثبيت، حتى صالحوهم على أن يعودوا من قابل، وعلى ما تقدم.
{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} أي: اختارها لهم، فالإلزام مجاز عما ذكر من اختيارها لهم، وأمرهم بها.: {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} قال أبو السعود: أي: متصفين بمزيد استحقاق لها. على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقاً. وقيل: أحق بها من الكفار {وَأَهْلَهَا} أي: المستأهل لها {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}. قال أبو السعود: أي: فيعلم حق كل شيء، فيسوقه إلى مستحقه.

.تفسير الآية رقم (27):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} [27].
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ}.
قال ابن جرير: أي: لقد صدق الله رسوله محمداً رؤياه التي أرها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، مقصراً بعضهم رأسه، ومحلقاً بعضهم. ثم روي عن مجاهد أنه قال: أُري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم؟
وعن ابن زيد قال: قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم مقصرين»، فلما نزل بالحديبية، ولم يدخل ذلك العام، طعن المنافقون في ذلك فقالوا: أين رؤياه؟ فقال الله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ} الآية، إني لم أُره يدخلها هذا العام، وليكونن ذلك. و{الرُّؤْيَا} منصوب بنزع الخافض، أي: صدقه في رؤياه. أي: حقق صدقها عنده، كما هو عادة الأنبياء عليهم السلام، ولم يجعلها أضغاث أحلام. أو منصوب على أنه مفعول ثان، وهو ما قاله الكرماني، وعبارته: كذب، يتعدى إلى مفعولين، يقال: كذبني الحديث، وكذا صدق، كما في الآية. وهو غريب لتعدي المثقل لواحد، والمخفف لمفعولين.
وقوله: {بِالْحَقِ} حال من الرؤيا، أي: متلبسة بالحق، ليست من قبيل أضغاث الأحلام.
وقوله: {لَتَدْخُلُنَّ} جواب قسم محذوف، أي: والله! لتدخلن.
وقوله: {إن شَاءَ اللَّهُ} تعليق للعدة بالمشيئة، لتعليم العباد، أو للإشعار بأن بعضهم لا يدخل، فهو في معنى: ليدخلنّه من شاء الله دخوله منكم. أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا، أو النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه.
وقوله: {مُحَلّقِينَ} حال مقدرة، لأن الدخول في حال الإحرام، لا في حال الحلق والتقصير. وفي الكلام تقدير، أو هو من نسبة ما للجزء إلى الكل. والمعنى: محلقاً بعضكم، ومقصراً آخرون. والقرينة عليه: أنه لا يجتمع الحلق والتقصير، فلابد من نسبة كل منهما لبعض منهم.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله المحلقين!» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «رحم الله المحلقين؟» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «رحم الله المحلقين!» قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: «والمقصرين!».
وقوله تعالى: {لاَ تَخَافُونَ} حال مؤكدة لقوله: {ءَامِنِينَ} أو مؤسسة، لأن اسم الفاعل للحال والمضارع للاستقبال، فيكون أثبت لهم الأمن حال الدخول. ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا كان في عَمْرة القضاء، في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة، رجع إلى المدينة، فأقام بها ذا الحجة ومحرم، وخرج في صفر إلى خيبر، ففتحها الله عليه، بعضها عنوة، وبعضها صلحاً، وهي إقليم عظيم، كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها، على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم، إلا الذين قدموا من الحبشة: جعفر بن أبي طالب، وأصحابه، وأبو موسى الأشعري، وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يغب منهم أحد.
قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سِمَاك بن خرشة، كما هو مقرر في موضعه. ثم رجع المدينة، فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع، خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً، هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، ساق معه الهدي. قيل: كان ستين بدنة. فلبى، وسار وأصحابه يلبون، قريباً من مر الظهران، بعث محمد بن سلمة بالخيل والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رعبوا رعباً شديداً، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه، من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسي، والنبل، والرماح إلى بطن يأجج، وسار بالسيوف إلى مكة مغمدة في قربها، كما شارطهم عليه. فلما كان في أثناء الطريق، بعثت قريش مكرز بن حفص فقال: يا محمد! ما عرفناك تنقض العهد! فقال صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟» قال: دخلت علينا بالسلاح، القسي والرماح! فقال صلى الله عليه وسلم: «لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج؟» فقال: بهذا عرفناك، بالبر والوفاء. وخرجت رؤوس الكفار من مكة، لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى أصحابه رضي الله عنهم، غيظاً وحنقاً. وأما بقية أهل مكة من الرجال، والنساء، والولدان فجلسوا في الطرق، وعلى البيوت، ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام، وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى، وهو راكب ناقته القصواء، التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:
بِاسْمِ الَّذِيْ لَاْ دِيْنَ إِلّاْ دِيْنُهُ ** بِاسْمِ الَّذِيْ مُحَمَّدٌ رَسُوْلُهُ

خَلُّوْا بَنِي الْكُفَّاْرِ عَنْ سَبِيْلِهِ ** الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَىْ تَأْوِيْلِهِ

كَمَاْ ضَرَبْنَاْكُمْ عَلَىْ تَنْزِيْلِهِ ** ضَرْباً يُزِيْلُ الْهَاْمَ عَنْ مَقِيْلِهِ

وَيُذْهِلُ الْخَلِيْلَ عَنْ خَلِيْلِهِ ** قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِيْ تَنْزِيْلِهِ

فِيْ صُحُفٍ تُتْلَىْ عَلَىْ رَسُوْلِهِ ** بِأَنَّ خَيْرَ الْقَتْلِ فِيْ سَبِيْلِهِ

يَاْ رَبِّ! إِنِّيْ مُؤْمِنٌ بِقِيْلِهِ

وروى الإمام أحمد من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مرّ الظهران في عمرته، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تقول: ما يتباعثون من العجف؟ فقال أصحابه: لو انتحرنا، من ظهرنا، فأكلنا من لحمه، وحسونا من مرقه، وأصبحنا غداً حين ندخل على القوم، وبنا جمامة. قال صلى الله عليه وسلم: «لا تفعلوا، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم» فجمعوا له، وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تولوا، وحثا كل واحد منهم في جرابه. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد، وقعدت قريش نحو الحِجر فاضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه، ثم قال: «لا يرى القوم فيكم غميزة» فاستلم الركن، ثم دخل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي إنهم لينقزون نقز الظباء؟ ففعل ذلك ثلاثة أطواف، فكانت سنّة.
قال أبو الطفيل: فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع. وروى أحمد من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها سوءاً، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شراً، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر، فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرملوا الأشواط الثلاثة، ليرى المشركون جلدهم. قال، فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين، حيث لا يراهم المشركون. وفي رواية: ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
وفي ابن كثير زيادة من الأحاديث في هذا الباب، فليراجعها من أحب الزيادة.
وقوله تعالى: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} أي: من الخيرة، والمصلحة في صرفكم عن مكة، ودخولكم إليها، عامكم ذلك.
قال ابن جرير: وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال، والنساء المؤمنين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرجل، فأصابهم منهم معرة بغير علم، فردهم الله عن مكة من أجل ذلك. وليدخل في رحمته من يشاء ممن يريد أن يهديه {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ} أي: قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم: {فَتْحاً قَرِيباً} يعني الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش، أو فتح خيبر، لتستروح إليه قلوب المؤمنين، إلى أن يتيسر الفتح الموعود. وإلى الأول ذهب الزهري، قال: يعني صلح الحديبية. وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس. فلما كانت الهدنة، وضعت الحرب، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضاً، فالتقوا، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام، يعقل شيئاً، إلا دخل فيه. فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. ووافقه مجاهد، وإلى الثاني ذهب ابن زيد.
قال ابن جرير: والصواب أن يعم فيقال: جعل الله من دون ذلك كليهما.