فصل: سورة ق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.سورة ق:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [1].
هو حرف من حروف التهجي المفتتَح بها أوائل السور، مثل: {ص} و{ن}، و{الم}، و{حم}، ونحوها. علم على السورة، على الصحيح من أقوال، كما تقدم مراراً.
تنبيه:
قال ابن كثير: روي عن بعض السلف أنهم قالوا: {ق} جبل محيط بجميع الأرض يقال له: جبل قاف.
وكأن هذا- والله أعلم- من خرافات بني إِسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس؛ لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يُصَدّق ولا يكذب. وعندي أن هذا وأمثاله من اختلاق بعض زنادقتهم يلبِّسون على الناس أمر دينهم، كما افتُريَ في هذه الأمة- مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها- أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما بالعهد من قدم، فكيف بأمَّة بني إِسرائيل، مع طول المدى، وقلة الحفّاظ والنقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته؟! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: «وحدثوا عن بني إِسرائيل ولا حرج» فيما قد يجوِّزه العقل، فأما فيما تحيله العقول ويحكم فيه البطلان ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل.
وقد أكثر كثير من السلف المفسرين وكذا طائفة كثيرة من الخلف، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم، ولله الحمد والمنَّة.
ثم ردّ ابن كثير- رحمه الله- ما قيل من أن المراد من: قضي الأمر والله! كقول الشاعر:
قلت لها قفي فقالت قاف

أي: إني واقفة، بأن في هذا نظراً؛ لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه، ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف؟. انتهى.
{وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} أي: ذي المجد والشرف على غيره من الكتب.

.تفسير الآية رقم (2):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [2].
{بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ} أي: لأنْ جاءهم منذر من جنسهم، لا من جنس الملَك، أو من جلدتهم، وهو كما قال أبو السعود: إضراب عما ينبئ عنه جواب القسم المحذوف، كأنه قيل: والقرآن المجيد أنزلناه إليك؛ لتنذر به الناس، حسبما ورد في صدر سورة الأعراف، كأنه قيل بعد ذلك: لم يؤمنوا به، جعلوا كلاً من المنذر والمنذر به عُرضة للنكير والتعجب، مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول، وأقربه إلى التلقي بالقبول.
وقيل: التقدير: والقرآن المجيد إنك لمنذر. ثم قيل بعده: إنهم شكوا فيه، ثم أضرب عنه. وقيل: بل عجبوا، أي: لم يكتفوا بالشك والرد، بل جزموا بالخلاف، حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة. وقيل: هو إضراب عما يفهم من وصف القرآن بالمجيد، كأنه قيل: ليس سبب اقتناعهم من الإيمان بالقرآن أنه لا مجد له، ولكن لجهلهم.
{فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} تفسير لتعجبهم، وبيان لكونه مقارناً لغاية الإنكار، مع زيادة تفصيل لمحل التعجب. وهذا إِشارة إلى كونه عليه الصلاة والسلام منذراً بالقرآن. وإضمارهم أولاً للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم، وإظهارهم ثانياً للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه، أو عطف لتعجبهم من البعث، على تعجبهم من البعثة. على أن هذا إشارة إلى مبهم يفسره ما بعده من الجملة الإنكارية.

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [3].
{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} تقرير للتعجيب وتأكيد للإنكار. والعامل في إذا مضمر غنيّ عن البيان؛ لغاية شهرته، مع دلالة ما بعده عليه، أي: أحين نموت ونصير تراباً نرجع، كما ينطق به النذير والمنذر به. مع كمال التباين بيننا وبين الحياة، حينئذٍ.
ذلك إشارة إلى محل النزاع {رَجْعٌ بَعِيدٌ} أي: عن الأوهام أو العادة أو الإمكان.

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [4].
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} أي: ما تأكل من أجسامهم بعد مماتهم. وهو ردٌّ لاستبعادهم، وإزاحة له. فإن من عمّ علمه ولطف حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقِص الأرض من أجساد الموتى وتأكل من لحومهم وعظامهم، كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا! وقيل: المعنى ما يموت فيدفن في الأرض منهم.
{وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} قال أبو السعود: أي: حافظ لتفاصيل الأشياء كله، أو محفوظ من التغير. والمراد: إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها، بعلم من عنده كتاب محيط يتلقى منه كل شيء. أو تأكيد لعلمه تعالى بها، بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده.

.تفسير الآية رقم (5):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} [5].
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} وهو القرآن {لَمَّا جَاءهُمْ} أي: من غير تأمُّل وتفكُّر.
قال الزمخشري: إضراب أتبع الإضراب الأول؛ للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق، الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات، في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر. وكونه أفظع؛ للتصريح بالتكذيب من غير تدبر بعد التعجب منه.
{فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} أي: مضطرب، يعني اختلاف مقالتهم فيه من ادعاء أنه شعر أو سحر ونحوه، تعنتاً وكبراً.

.تفسير الآية رقم (6):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} [6].
{أَفَلَمْ يَنظُرُوا} أي: هؤلاء المكذبون بالبعث، المنكرون قُدرَتنا على إحياءهم بعد فنائهم، {إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} أي: رفعناها بغير عمد {وَزَيَّنَّاهَا} أي: بالنجوم {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} قال ابن جرير: يعني ومالها من صُدوع وفروق، كقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك 3- 4] أي: كليل عن أن ترى عيباً أو نقصاً.

.تفسير الآية رقم (7):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [7].
{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} أي: بسطناها.
{وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} أي: جبالاً ثوابت، حفظاً لها من الاضطراب؛ لقوة الجيشان في جوفها، {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ} أي: صنف {بَهِيجٍ} أي: حسن المنظر، يُبتهَج به لحُسنه.

.تفسير الآية رقم (8):

القول في تأويل قوله تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [8].
{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أي: لتبصر وتذكِّر كلَّ عبد منيب راجع إلى ربِّه، مفكّر في بدائع صنعه.
و{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} منصوبات بالفعل الأخير على أنهما مفعولان له، وإن كانتا علتين للأفعال المذكورة معنى. أو بفعل مقدر، أي: فعلنا ما فعلنا تبصيراً وتذكيراً.

.تفسير الآيات (9- 11):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [9- 11].
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء} أي: المُزن {مَاء مُّبَارَكاً} أي: كثير المنافع، {فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} أي: أشجاراً ذوات أثمار، {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} أي: الزرع المحصود من البُر والشعير وسائر أنواع الحبوب. وتخصيص إنبات حبه بالذكر، لأنه المقصود بالذات.
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} أي: وأنبتنا بالماء الذي أنزلناه من السماء النخلَ طوالاً، أو حوامل، من أبسقت الشاةُ، إذا حملت، فيكون من: أفعل فهو فاعل، والقياس: مفعل، فهو من النوادر كالطوائح واللواقح، في أخوات لها شاذة، وإفرادها بالذكر مع دخولها في {جَنَّاتٍ} لبيان فضلها بكثرة منافعها. وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية، مع ما فيه من مراعاة الفواصل.
{لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} أي: متراكم بعضه فوق بعض.
{رِزْقاً لِّلْعِبَادِ} أي: لرزقهم، قال أبو السعود: علة لقوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا} وفي تعليله بذلك بعد تعليل أنبتنا الأول بالتبصرة والتذكير، تنبيهٌ على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار، أهم من تمتعه به من حيث الرزق. وقيل: {رِزْقاً} مصدر من معنى {أَنبَتْنَا} لأن الإنبات رزق. {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} أي: بذلك الماء {بَلْدَةً مَّيْتاً} أي: أرضاً جدبة، فأنبتت أنواع النبات والأزهار.
{كَذَلِكَ الْخُرُوجَ} أي: خروجهم أحياء من القبور. شبه بعث الأموات ونشرهم بقدرته تعالى بإخراج النبات من الأرض بعد وقوع المطر عليها، فـ: {كَذَلِكَ} خبر {الْخُرُوجَ}، أو مبتدأ، فالكاف بمعنى مثل.

.تفسير الآيات (12- 14):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [12- 14].
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} أي: قبل قريش {قَوْمِ نُوحٍ} قال أبو السعود: استئناف وارد لتقرير حقيقة البعث، ببيان اتفاق كافة الرسل عليهم السلام عليها، وتعذيب منكريها.
{وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} وهو بئر كانوا عنده. يقال: إنهم قوم شعيب عليه السلام. ويقال غير ذلك، كما تقدم في سورة الفرقان.
{وَثَمُودَ} وهم اللذين جادلوا صالحاً، وقتلوا الناقة.
{وَعَادٍ} وهم اللذين جادلوا هوداً في أصنامهم.
{وَفِرْعَوْنَ} وهو الذي جادل موسى فيما أُرسل به. قال الرازي: ولم يقل: وقوم فرعون؛ لأن فرعون كان هو المغترّ المستخف بقومه والمستبد بأمره.
{وَإِخْوَانُ لُوطٍ} وهم اللذين جادلوه في إتيان الرجال.
{وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} أي: الغيضة من الشجر، المجادلون شعيباً في الكيل والوزن.
{وَقَوْمُ تُبَّعٍ} قال المهايمي: المجادلون إمامهم وعلماءهم في الدِّين. ومضى الكلام على ذلك في الحِجر والدخان.
{كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي: كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذبوا رسولهم، ومن كذب رسولاً فكأنما كذب جميع الرسل، كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] وإنما جاءهم رسول واحد، فهم في نفس الأمر، لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم، أفاده ابن كثير، وهو توجيه لجمع الرسل. وإفراد ضمير {كَذَّبَ} مراعاة للفظ {كَذَّبَ} فإنه مفرد وإن كان جمعاً معنى. {فَحَقَّ وَعِيدِ} أي: فوجب لهم الوعيد الذي وعد به مَنْ كفر، وهو العذاب والنقمة. قال ابن جرير:
إنما وصف تعالى في هذه الآية ما وصف من إحلاله عقوبته بهؤلاء المكذبين الرسل، ترهيباً منه بذلك مشركي قريش، وإعلاماً منه لهم أنهم إن لم ينيبوا من تكذيبهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أنه مُحِلٌ بهم من العذاب مثل الذي أحلَّ بهم. أي: فهو تسلية للرسول صلوات الله عليه، وتهديد لهم.

.تفسير الآية رقم (15):

القول في تأويل لقوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [15].
{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} أي: أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة؟! فالهمزة للإنكار. قال الشهاب: العي هنا بمعنى العجز، لا التعب. قال الكسائي: تقول: أعييت من التعب، وعييت من انقطاع الحيلة، والعجز عن الأمر. وهذا هو المعروف والأفصح، وإن لم يفرق بينهما كثير.
{والخلق الأول} والخلق الأول هو الإبداء على ما ذكر، ويحتمل أن يراد به خلق السماوات والأرض؛ لأن خلق الْإِنْسَاْن متأخر عنه، ويدل له آية: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف: 33] الآية.
وقوله {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} عطف على مقدر، يدل عليه ما قبله، كأنه قيل: هم معترفون بالخلق الأول، فلا وجه لإنكارهم للثاني، بل هم اختلط عليهم الأمر والتبس؛ لعدم فهمهم إعادة ما مات وتفرَّق أجزاؤه وإعراضهم عن سلطان القدرة الإلهية، وسهولة ذلك في المقدورات الربانية.
لطيفة:
قال الناصر: في الآية أسئلة ثلاث: لِمَ عَرَّف الخلق الأول، ونكَّر اللبس، والخلق الجديد؟
فاعلم: أن التعريف لا غرض منه إلا تفخيم ما قصد تعريفه وتعظيمه، ومنه تعريف الذكور في قوله {وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ} [الشورى: 49]، ولهذا المقصد عرَّف الخلق الأول؛ لأن الغرض جعله دليلاً على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى، أي: إذا لم يعيَ تعالى بالخلق الأول- على عظمته- فالخلق الآخر أولى أن لا يَعيىَ به. فهذا سر تعريف الخلق الأول.
وأما التنكير فأمره منقسم: فمرَّةً يقصد به تفخيم المنكّر من حيث ما فيه من الإبهام، كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة. ومرةً يقصد به التقليل من المنكَّر والوضع منه، وعلى الأول: {سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 85]، وقوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9] و[الحجرات: 3]، و{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور: 17]، وهو أكثر من أن يحصى. والثاني: هو الأصل في التنكير، فلا يحتاج إلى تمثيله، فتنكير اللبس من التعظيم والتفخيم، كأنه قال: في لبس أي: ليس. وتنكير الخلق الجديد؛ للتقليل منه والتهوين لأمره بالنسبة إلى الخلق الأول. ويحتمل أن يكون للتفخيم، كأنه أمرٌ أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه ملتبساً عليه، مع أنه أول ما تبصر فيه صحته. انتهى.