فصل: تفسير الآيات (14- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (14- 16):

القول في تأويل قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [14- 16].
{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} قال أبو السعود: تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين. والصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة، والفخار الخزف. وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طيناً. ثم حمأً مسنوناً، ثم صلصالاً، فلا تنافي بين الآية الناطقة بأحدها، وبين ما نطق به بأحد الآخرين.
{وَخَلَقَ الْجَانَّ} أي: الجن، أو أبا الجن، {مِن مَّارِجٍ} أي: لهب صاف.
{مِّن نَّارٍ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النِّعَم، ومما أظهره لكما بالقرآن.

.تفسير الآيات (17- 18):

القول في تأويل قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [17- 18].
{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أي: مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما، أو مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: مما فيهما من النعم والفوائد التي لا تحصى، كاختلاف الفصول، وحدوث ما يناسب كل فصل فيه من الخيرات والبركات التي بها قوام العالم.

.تفسير الآيات (19- 21):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [19- 21].
{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي: أرسلهما، من مرج فلان دابته، إذا خلاّها وتركها. والمعنى: أرسل وأجرى البحر الملح، والبحر العذب {يَلْتَقِيَانِ} أي: يتجاوران.
{بَيْنَهُمَا بَرْزَخً} أي: حاجز من قدرة الله تعالى وبديع صنعه {لَّا يَبْغِيَانِ} أي: لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة، وإبطال الخاصية.
قال الشهاب: يعني أنهما إذا دخل أحدهما في الآخر قد يجرى فيه فراسخ ولا يتلاشى ويضمحل، حتى يغير أحدهما طعم الآخر ولونه، كما نشاهده.
وقيل: المراد بحرَي فارس والروم، فإنهما يلتقيان في البحر المحيط، وبينهما برزخ من الأرض، لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما، وهو مروي عن قتادة والحسن، قال الشهاب: لكنه أورد عليه أنه لا يوافق قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان: 53] الآية، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.
واختار ابن جرير ما روي عن ابن عباس وغيره أنه عني به بحر السماء وبحر الأرض وذلك أن الله قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، واللؤلؤ والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر الأرض عن قطر ماء السماء، فمعلوم أن ذلك بحر الأرض وبحر السماء. انتهى.
وفيه ما في الذي قبله من عدم موافقته لتلك الآية، والأصل في الآي التشابه.
زاد ابن كثير: إن ما بين السماء والأرض لا يسمى برزخاً، وحجراً محجوراً، فالأولى هو الأول.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: مما في البحرين وخلقهما من الفوائد، وقد أشار إلى بعضهما بقوله:

.تفسير الآيات (22- 23):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [22- 23].
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أي: كبار الدر وصغاره. أو المرجان: الخرز الأحمر المعروف. وإنما قيل: {مِنْهُمَا} مع أنه يخرج من أحدهما، وهو الملح، لأنه لامتزاجهما يكون خارجاً منهما حقيقة، أو أنه نسب لهما ما هو لأحدهما، كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم. قال الناصر: وهذا هو الصواب، ومثله: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، وإنما أريد إحدى القريتين، وكما يقال: هو من أهل مصر، وإنما هو من محلة منها. انتهى.
قال الشهاب: ولا يخفى أن هذا- وإن اشتهر- خلاف الظاهر، فإما أن يكون ضمير {مِنْهُمَا} لبحري فارس والروم، أو يقال: معنى خروجه منهما ليس أنه متكون فيهما، بل أنهما يحصلان في جانب من البحار انصبّت إليها المياه العذبة. انتهى. والخطب سهل.
ولما كان خروج هذين الصنفين نعمة على الناس، لتحلّيهم بهما، كما تشير له آية: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طريًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12]، قال سبحانه: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}

.تفسير الآيات (24- 25):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [24- 25].
وقوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ} يعني السفن، جمع جارية {الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} قرئ بكسر الشين، بمعنى الظاهرات السير اللاتي تقبلن وتدبرن، وبفتحها بمعنى المرفوعات القلاع اللاتي تقبل بهن وتدبر. والأعلام جمع علَم، وهو الجبل الطويل. ولما كانت من أعظم الأسباب للمتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم مما فيه صلاح للناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع، قال تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: نعمه التي أنعم بها في هذه الجواري. قال القاضيّ: أي: من خلق موادها، والإرشاد إلى أخذها، وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر خلقها وجمعها غيره.

.تفسير الآيات (26- 28):

القول في تأويل قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [26- 28].
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أي: مَن على ظهر الأرض هالك.
{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} أي: ذاته الكريمة {ذُو الْجَلَالِ} أي: العظمة والعلوّ والكبرياء {وَالْإِكْرَامِ} أي: التفضل العام، وهذه الآية كآية {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88].
ولما كان فناء الخلق سبباً لبعثهم للنشأة الأخرى التي يظهر بها المحق من المبطل، وينقلب الأول بالثواب، ويبوء الآخر بالعقاب، وذلك من أعظم النعم التي يشمل فيها العدل الإلهي المكلفين، قال سبحانه: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
وقد أشار الرازيّ إلى ما في قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} من الفوائد، بقوله: فيه فوائد:
منها: الحث على العبادة، وصرف الزمان اليسير إلى الطاعة.
ومنها: المنع من الوثوق بما يكون للمرء، فلا يقول- إذا كان في نعمة-: إنها لن تذهب فيترك الرجوع إلى الله، معتمداً على ماله وملكه.
ومنها: الأمر بالصبر إن كان في ضر، فلا يكفر بالله معتمداً على أن الأمر ذاهب، والضرر زائل.
ومنها: ترك اتخاذ الغير معبوداً، والزجر عن الاغترار بالقرب من المملوك، وترك التقرب إلى الله تعالى، فإن أمرهم إلى الزوال قريب.
ومنها: حسن التوحيد، وترك الشرك الظاهر والخفي جميعاً، لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد.

.تفسير الآيات (29- 30):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فباي الاء ربكما تكذبان} [29- 30].
{يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: يدعونه ويرغبون إليه، ويرجون رحمته لفقرهم الذاتي، وغناه المطلق.
{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} أي: كل وقت يحدث أموراً، ويجدِّد أحوالاً. قال مجاهد: يعطي سائلاً، ويفك عانياً، ويجيب داعياً، ويشفي سقيماً.
وروى ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية. فقيل: يا رسول الله! وما ذاك الشأن؟ قال: «يغفر ذنباً، ويفرِّج كرباً، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين».
وقال القاشانيّ: المراد يسأله كلُّ شيء، فغاب العقلاء، وأتى بلفظ: {مَن} أي: كل شيء يسأله بلسان الاستعداد والافتقار دائماً {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} بإفاضة ما يستحقه ويستأهله باستعداده، فمن استعدّ بالتصفية والتزكية للكمالات الخيرية والأنوار، يفيضها عليه مع حصول الاستعداد، ومن استعد بتكدير جوهر نفسه بالهيئات المظلمة والرذائل، ولوث العقائد الفاسدة، والخبائث، للشرور والمكاره، وأنواع الآلام والمصائب والعذاب والوبال: يفيضها عليه مع حصول الاستعداد. انتهى.
وقد أخذ الآية عامة من حيث السائلون خاصة بلسان الاستعداد وغيره- كابن كثير والقاضي- رآها خاصة بمن يعقل، عامة بلسان الحال أو المقال. والأقرب هو ما يتبادر بادئ بدء إلى الفهم، وهو ما ذكرناه أولاً {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: مما يسعف به سؤالكما، ويخرج لكما من مخبأ قدره وخلقه آناً فآناً.

.تفسير الآيات (31- 32):

القول في تأويل قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [31- 32].
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} قال القرطبيّ: يقال: فرغت من الشغل أفرغ فراغاً وفروغاً، وتفرغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي: بذلته. والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه، وإنما المعنى: سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، فهو وعيد لهم وتهديد، كقول القائل لمن يريد تهديده: إذاً أتفرغ لك، أي: أقصدك.
وقال الزجّاج: الفراغ في اللغة على ضربين: أحدهما الفراغ من الشغل، والآخر القصد للشيء. والإقبال عليه، كما هنا، وهو تهديد ووعيد، تقول: قد فرغت مما كنت فيه، أي: قد زال شغلي به. وتقول: سأفرغ لفلان، أي: سأجعله قصدي. فهو على سبيل التمثيل، شبه تدبيره تعالى أمر الآخرة، من الأخذ في الجزاء، وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين، بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي، والإماتة والإحياء، والمنع والإعطاء، وأنه لا يشغله شأن، بحال مَن إذا كان في شغل يشغله عن شغل آخر، إذا فرغ من ذلك الشغل، شرع في آخر. وجازت الاستعارة التصريحية أيضاً. وقد ألم به صاحب المفتاح حيث قال: الفراغ الخلاص عن المهام، والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن، وقع مستعاراً للأخذ في الجزاء وحده.
لطيفة:
ترسم {أَيُّهَا} بغير ألف، وأما في النطق فقرأ أبو عمرو الكسائي: {أَيُّهَا} بالألف في الوقف، ووقف الباقون على الرسم {أَيُّهَا} بتسكين الهاء، وفي الوصل قرأ ابن عامر {أيهُ} برفع الهاء، والباقون بنصبها.
و{الثَّقَلَانِ} تثنية ثَقَل بفتحتين، فَعَل بمعنى مفعل، لأنهما أثقلا الأرض، أو بمعنى مفعول، لأنهما أُثقلا بالتكاليف. وقال الحسن: لثقلهما بالذنوب.
والخطاب في {لَكُمْ} قيل للمجرمين، لكن يأباه قوله:
{أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} نعم! المقصود بالتهديد هم، ولا مانع من تهديد الجميع بقوله، أفاده الشهاب، ولا يفهم من هذا اللفظ الكريم وعيد بحت، بل هو حامل للوعد أيضاً، لأن المعنى: سنفرغ لحسابكم، فنثيب أهل الطاعة، ونعاقب العصاة، وهو جليّ، ولذا اعتد ذلك نعمة عليهم بقوله: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: من ثوابه أهل الطاعة، وعقابه أهل معصيته.

.تفسير الآيات (33- 34):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [33- 34].
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم، أي: بخروجكم عن قهره ومحل سلطانه ومملكته حتى لا يقدر عليكم {فَانفُذُوا} أي: فجوزوا واخرجوا {لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} أي: بقوة وقهر وغلبة، وأنى لكم ذلك ونحوه: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء} [العنكبوت: 22]، ويقال: معنى الآية: إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان، يعني البينة من الله تعالى. والأول أظهر، لأنه لما ذكر في الآية الأولى أنه لا محالة مُجاز للعباد، عقبه بقوله: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} إلخ، لبيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه، إذا أراده.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال ابن جرير: أي: من التسوية بين جميعكم، بأن جميعكم لا يقدرون على خلاف أمر أراده بكم.
وقال القاضي: أي: من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة.