فصل: تفسير الآيات (35- 36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (35- 36):

القول في تأويل قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [35- 36].
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} أي: من لهب {مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ} أي: صُفر مذاب يصبّ على رؤوسهم {فَلَا تَنتَصِرَانِ} أي: تمتنعان وتنقذان منه. يعني: إذا أصررتما على الكفر والطغيان وعصيان الرسول، فما أمامكم في الآخرة إلا هذا العذاب الأليم.
وقد ذهب ابن كثير إلى أن هذه الآية وما قبلها، مما يخاطب به الكفرة في الآخرة، وعبارته:
هذا في مقام الحشر، والملائكة محدقة بالخلائق، فلا يقدر أحد على الذهاب إلا بسلطان، أي: بأمر الله {يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: 10- 12]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 27]، ولهذا قال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ} والمعنى لو ذهبتم هاربين يوم القيامة، لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا. انتهى.
ثم رأيت قد سبقه إلى ذلك الإمامُ ابن القيم رحمه الله، فقد قال رحمه الله في أواخر كتابه طريق الهجرتين في تفسير هذه الآية، بعد أن ذكر نحو ما قدمنا من الوجهين في تأويل قوله تعالى {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا} ما مثاله:
وفي الآية تقرير آخر، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة، إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض، وأحاط سرادق النار بالآفاق، فهرب الخلائق، فلا يجدون مهرباً ولا منفذاً، كما قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر: 32- 33]، قال مجاهد: فارّين غير معجزين. وقال الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندُّوا هرباً، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17]، وقوله:
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الرحمن: 33] الآية. وهذا القول أظهر- والله أعلم- فإذا بدت الخلائق ولّوا مدبرين، يقال لهم:
{إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم، فافعلوا. وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول، فإن قبلها {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} الآية، وهذا في الآخرة، وبعدها {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء} [الرحمن: 37] الآية، وهذا في الآخرة وأيضاً فإن هذا خطاب لجميع الإنس والجن فإنه أتى به بصيغة العموم، وهي قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} فلابد أن يشترك الكل في سماع هذا الخطاب ومضمونه، وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر. وقال تعالى: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} ولم يقل: إن استطعتما، لإرادة الجماعة، كما في آية أخرى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ} [الأنعام: 13]، وقال: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا}، ولم يقل: يرسل عليكم، لإرادة الصنفين، أي: لا يختص به صنف عن صنف، بل يرسل ذلك على الصنفين معاً. وهذا، وإن كان مراداً بقوله:
{إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} [الرحمن: 33]، فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن، أي: من استطاع منكم. وحسَّنَ الخطاب بالتثنية في قوله: {عَلَيْكُمَا} أمر آخر، وهو موافقة رؤوس الآي، فاتصلت التثنية بالتثنية. وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما- والله أعلم- انتهى كلام ابن القيم.
وأنت ترى أن لا قرينة تخصص الآية بالقيامة، وما استشهد به من الآيات لا يؤيده، لأنه ليس من نظائره. فالوجه ما ذكرناه.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال القاضي: فإن التهديد لطف، والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار، من عداد الآلاء.

.تفسير الآيات (37- 38):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [37- 38].
{فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء} أي: انفطرت فاختلّ نظامها العلوي {فَكَانَتْ وَرْدَةً} أي: كلون الورد الأحمر {كَالدِّهَانِ} أي: كالدهن الذي هو الزيت، كما قال: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8]، وهو ردي الزيت، يعني في لونه الكدر وذوبانه، لصيرورتها إلى الفناء والزوال.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: مما يحلّه بكم بعد ذلك.

.تفسير الآيات (39- 40):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [39- 40].
{فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ} أي: لا يفتح له باب المعذرة، كقوله {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36]، ففي السؤال مجاز عن نفي سماع الاعتذار، فهو من باب نفي السبب لانتفاء المسبب. وأخذ كثير السؤال على حقيقته، وحاولوا الجمع بينه وبين ما قد ينافيه.
قال القاشانيّ: وأما الوقف والسؤال المشار إليه في قوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، ونظائره ففي موطن آخر من اليوم الطويل الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، وقد يكون هذا الموطن قبل الموطن الأول في ذلك اليوم، وقد يكون بعده.
وكذا قال ابن كثير: إن هذه الآية كقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35- 36]، فهذا حال، وثَمّ حال يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم، قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92- 93]، وفي الآية تأويل آخر، قال مجاهد: لا يسأل الملائكة عن المجرم، يعرفون بسيماهم.
وقال الإمام ابن القيم في طريق الهجرتين: اختلف في هذا السؤال المنفي، فقيل: هو وقت البعث والمصير إلى الموقف، لا يسألون حينئذ، ويسألون بعد إطالة الوقوف، واستشفاعهم إلى الله أن يحاسبهم، ويريحهم من مقامهم ذلك. وقيل: المنفي سؤال الاستعلام والاستخبار، لا سؤال المحاسبة والمجازاة، أي: قد علم الله ذنوبهم، فلا يسألهم عنها سؤال من يريد علمها، وإنما يحاسبهم عليها. انتهى.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال ابن جرير: أي: من عدله فيكم أنه لم يعاقب منكم إلا مجرماً.

.تفسير الآيات (41- 45):

القول في تأويل قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [41- 45].
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} أي: بما يعلوهم من الكآبة والحزن والذلة، وقيل: بسواد الوجوه، وزرقة العيون {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} أي: فتأخذهم الزبانية بنواصيهم وأقدامهم، فتسحبهم إلى جهنم، وتقذفهم فيها. والباء للآلة، كأخذت بالخطام، أو للتعدية. والناصية مقدم الرأس.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال ابن جرير: أي: من تعريفه ملائكته، أهل الإجرام من أهل الطاعة منكم، حتى خصوا بالإذلال والإهانة، المجرمين دون غيرهم.
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ} أي: ماء حار {آنٍ} أي: انتهى حره، واشتد غليانه. وكل شيء قد أدرك وبلغ فقد أنَى، ومنه قوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53]، يعني إدراكه وبلوغه {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: من عقوبته أهل الكفر به، وتكريمه أهل الإيمان به.
ثم تأثر ما عدد عليهم من الآلاء الدينية، والدنيوية بتعداد ما أفاض عليهم في الآخرة، بقوله:

.تفسير الآيات (46- 59):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [46- 59].
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي: قيامه عند ربه للحساب، فأطاعه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، فإضافته للرب لأنه عنده، فهو كقول العرب: ناقة رقود الحلب، أي: رقود عند الحلب، أو موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب، فإضافته للرب لامية لاختصاص الملك يومئذ به تعالى. أو هو كناية عن خوف الربِّ وإثبات خوفه له بطريق برهاني بليغ؛ لأن من حصل له الخوف من مكان أحد، يهابه وإن لم يكن فيه، فخوفه منه بالطريق الأولى، وهذا كما يقول المترسلون: المقام العالي، والمجلس السامي {جَنَّتَانِ} أي: جنة لمن أطاع من الإنس، وجنة لمن أطاع من الجن. أو هو كناية عن مضاعفة الثواب، وإيثار التثنية للفاصلة، {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: بإثابته المحسن ما وصف.
{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} أي: أنواع من الأشجار والثمار، جمع فن بمعنى النوع، أو أغصان لينة، جمع فنن وهو ما دقَّ ولان من الغصن.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وهو ما غلظ من الديباج، نبه على شرف الظهارة، بشرف البطانة، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
قال ابن مسعود: هذه البطائن، فكيف لو رأيتم الظواهر؟!
{وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} أي: وثمرهما المجنيّ داني القطوف {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي: منكسرات الجفن، خافضات النظر، غير متطلعات لما بعد، ولا ناظرات لغير زوجها. أو معناه: إن طرف النظر لا يتجاوزها، كقول المتنبي:
وخصرٍ تثبتُ الأبصارُ فيه ** كأنَّ عليه من حَدَقٍ نِطاقا

فالمراد: قاصرات طرف غيرهن عن التجاوز لغيرهن. أو المعنى: شديدات بياض الطرف، كما يقال: أحور الطرف وحوراؤه، من قولهم: ثوب مقصور وحوّاري.
وجليّ أن المعاني هاهنا لا تتزاحم لتحقق مصداقها كلها {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} أي: لم يمسهن. وأصله خروج الدم، ولذلك يقال للحيض: طمث، ثم أطلق على جِماع الأبكار، لما فيه من خروج الدم، ثم عمّ كل جماع. وقد يقال: إن التعبير به للإشارة إلى أنها توجد بكراً كلما جومعت. ويستدل بالآية على أن الجن يطمثن ويدخلن الجنة.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} أي: في الحسن والبهجة، أو في حمرة الوجنة والوجه، أدباً وحياءً {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}

.تفسير الآيات (60- 78):

القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [60- 78].
{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ} أي: في العمل {إِلَّا الْإِحْسَانُ} أي: في الثواب، وهو الجنة {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِن دُونِهِمَا} أي: دون تينك الجنتين المنوّه بهما {جَنَّتَانِ} أي: بستانان آخران، إشارة إلى وفرة الجنان واتصالها وسعة امتداد الطرف في مناظرها.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ} أي: خضراوان من الري، تضربان إلى السواد من شدة الخضرة. أو من كثرة أشجارها الممتدة لا إلى نهاية.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} أي: فوّارتان بالماء.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وإنما أفردهما بالذكر بياناً لفضلهما، كأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ} جمع خيّرة بالتشديد، إلا أنه خفف. وقد قرئ على الأصل، أي: فاضلات الأخلاق. وإيثار ضمير المؤنث على التثنية مراعاة للفظ المسند إليه بعده {حِسَاْن} أي: حسان الوجوه.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} الحور: جمع حوراء، وهي البيضاء النقية، ومعنى {مَّقْصُورَاتٌ} قصرن أنفسهنّ على منازلهنّ، لا يهمهنّ إلا زينتهنّ ولهوهنّ. وفيه المعاني المتقدمة أيضاً. و{الْخِيَامِ} قال ابن جرير: يعني بها البيوت. وقد يسمّي العرب هوادج النساء خياماً، ثم أنشد له.
{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} يعني بهنّ حور الجنتين اللتين من دون الأوليين. أو تكرير لما سبق للتنويه بهذا الوصف، وكونه في مقدمة المشتهيات، وطليعة الملذات:
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ} أي: سرر أو مساند أو وسائد {خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ} أي: طنافس وبُسط {حِسَاْن} أي: جياد. والصفة كاشفة، ولذا قال ابن جبير: العبقريّ عتاق الزرابي، أي: جيادها.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: من إكرامه أهل طاعته منكما هذا الإكرام {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} أي: ذي العظمة والكبرياء، والتفضل بالآلاء، والاسم هنا كناية عن الذات العليّة، لأنه كثر اقتران الفعل المذكور معها، كآية: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً} [الفرقان: 61]، وآية {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]، ونحوهما. وسر إيثار الاسم للتنبيه على أنه لا يعرف منه تعالى إلا أسماؤه الحسنى، لاستحالة اكتناه الذات المقدسة. فما عرف الله إلا الله. هذا هو التحقيق.
وقيل: لفظ اسم مقحم، كقوله:
إلى الحولِ ثم اسمُ السلام عليكما

وذهب ابن حزم إلى بقاء الاسم على حقيقته. وردّ من استدلّ بأن الاسم هو المسمى بما مثاله: لاحجة فيما احتجوا به. أما قول الله عز وجل: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} فحقّ. ومعنى {تَبَارَكَ} تفاعل من البركة، والبركة واجبة لاسم الله عزّ وجلّ الذي هو كلمة مؤلفة من حروف الهجاء، ونحن نتبرك بالذكر له وبتعظيمه ونجلّه ونكرمه، فله التبارك وله الإجلال منا ومن الله تعالى، وله الإكرام من الله تعالى ومنا، حينما كان من قرطاس، أو في شيء منقوش فيه، أو مذكور بالألسنة. ومن لم يجلّ اسم الله عزّ وجلّ كذلك ولا أكرمه، فهو كافر بلا شك، فالآية على ظاهرها دون تأويل، فبطل تعلقهم بها. انتهى كلامه رحمه الله.
فائدة:
فيما قاله الأئمة في سر تكرير: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال السيوطيّ في الإتقان في بحث التكرير:
قد يكون التكرير غيرَ تأكيد صناعة، وإن كان مفيداً للتأكيد معنى، ومنه ما وقع فيه الفصل بين المكررين، فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكده.
ثم قال: وجعل منه قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فإنهما، وإن تكررت نيفاً وثلاثين مرة، فكل واحدة تتعلق بما قبلها، ولذلك زادت على ثلاثة، ولو كان الجميع عائداً إلى شيء واحد لما زاد على ثلاثة، لأن التأكيد لا يزيد عليها، قاله ابن عبد السلام وغيره، انتهى.
وفي عروس الأفراح: فإن قلت: إذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب بل هي ألفاظٌ كلٌ أريد به غير ما أريد به الآخر؟.
قلت: إذا قلنا: العبرة بعموم اللفظ، فكل واحد أريد به ما أريد بالآخر، ولكن كرر ليكونّ نصاً فيما يليه، ظاهراً في غيره.
فإن قلت: يلزم التأكيد؟
قلت: والأمر كذلك، ولا يرد عليه أن التأكيد لا يزاد به عن ثلاثة؛ لأن ذاك في التأكيد الذي هو تابع. أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة، فلا يمتنع. انتهى.
وقال العز بن عبد السلام في آخر كتابه الإشارة إلى الإيجاز وأما قوله: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فيجوز أن تكون مكررة على جميع أنعمه، ويجوز أن يراد بكل واحدة منهن ما وقع بينها وبين التي قبلها من نعمة، ويجوز أن يراد بالأولى ما تقدمها من النعم، وبالثانية ما تقدمها، وبالثالثة ما تقدم على الأولى، والثانية والرابعة ما تقدم على الأولى والثانية والثالثة، وهكذا إلى آخر السورة.
فإن قيل: كيف يكون قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} نعمة، وقوله: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} نعمة، وكذلك قوله:
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} وقوله:
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ} وقوله:
{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}؟
قلنا: هذه كلها نعم جِسَام؛ لأن الله هدد العباد بها استصلاحاً لهم، ليخرجوا من حيز الكفر والطغيان والفسوق والعصيان إلى حيز الطاعة والإيمان والانقياد والإذعان، فإن من حذّر من طريق الردى، وبيّن ما فيها من الأذى، وحث على طريق السلامة، الموصلة إلى المثوبة والكرامة، كان منعماً غاية الإنعام، ومحسناً غاية الإحسان. ومثل ذلك قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس: 52]، وعلى هذا تصلح فيه مناسبة الربط، بذكر صفة الرحمة في ذلك المقام. وأما قوله:
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26]، فإنه تذكير بالموت والفناء، للترغيب في الإقبال على العمل لدار البقاء، وفي الإعراض عن دار الفناء. انتهى.
وقال البغويّ: كررت هذه الآية في أحد وثلاثين موضعاً تقريراً للنعمة، وتأكيداً للتذكير بها، ثم عدد على الخلق آلاءه، وفصل بين كل نعمتين بما نبههم عليه، ليفهمهم النعم ويقررهم بها، كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع إليه بالأيادي، وهو ينكرها ويكفرها: ألم تكن فقيراً فأغنيتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك، أفتنكر هذا؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب. انتهى.
وقال السيد مرتضى في الدرر والغرر: التكرار في سورة الرحمن، إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة، فكلما ذكر نعمة أنعم بها، وبّخ على التكذيب، كما يقول الرجل لغيره: ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا؟ فيحسن فيه التكرير، لاختلاف ما يقرر به، وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم، كقول مهلهل يرثي كليباً:
على أن ليس عدلاً من كُلَيبٍ ** إذا ما ضِيمَ جيرانُ المُجيرِ

على أن ليس عدلاً من كليبٍ ** إذا رجف العِضاهُ من الدَّبورِ

على أن ليس عدلاً من كليبٍ ** إذا خَرَجَتْ مُخَبَّأةُ الخُدُورِ

على أن ليس عدلاً من كليبٍ ** إذا ما أُعْلِنَتْ نَجْوى الأمُورِ

على أن ليس عدلاً من كليبٍ ** إذا خيفَ المَخُوفُ من الثُغُورِ

على أن ليس عدلاً من كليبٍ ** غداة تَلاتِلِ الأمرِ الكبيرِ

على أن ليس عدلاً من كليبٍ ** إذا ما خارَ جارُ المستجيرِ

ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط، هو من لطائف العرب، فاعرفه.
وقال شيخ الإسلام في متشابه القرآن: ذكرت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة، ثمانية منها ذكرت عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها، بعدد أبواب جهنم، وحسن ذكر الآلاء عقبها؛ لأن من جملة الآلاء: رفع البلاء، وتأخير العقاب. وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلها، بعدد أبواب الجنة، وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين، أخذاً من قوله: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله، ووقاه السبعة السابقة. انتهى.
اللهم زدنا اطلاعاً على لطائف قرآنك الكريم، وغوصاً على لآلئ فرقانك العظيم.