فصل: سورة الواقعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.سورة الواقعة:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} [1- 3].
{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي: نزلت وجاءت. و{الْوَاقِعَةُ} علم بالغلبة على القيامة، أو منقول سميت بذلك لتحقق وقوعها، وكأنه قيل: إذا وقعت التي لابد من وقوعها، واختيار {إذَا} مع صيغة المضي، للدلالة على ما ذكر.
{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي: كذب وتكذيب. وقد جاء المصدر على زنة فاعلة كالعاقبة، والعافية. واللام للاختصاص. أو المعنى: ليس حين وقعتها نفس كاذبة، أي: تكذب على الله، أو تكذب في نفيها. واللام للتوقيت.
قال الشهاب: و{الْوَاقِعَةُ} السقطة القوية، وشاعت في وقوع الأمر العظيم، وقد تخص بالحرب، ولذا عبر بها هنا.
{خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} أي: تخفض الأشقياء إلى الدركات، وترفع السعداء إلى الدرجات. وقيل، الجملة مقررة لعظمة الواقعة على طريق الكناية؛ لأن من شأن الوقائع العظام أنها تخفض قوماً وترفع آخرين.

.تفسير الآيات (4- 6):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً} [4- 6].
{إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً} أي: زلزلت زلزالاً شديداً.
{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} أي: فتّتت، أو سيقت وأذهبت، كقوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} [النبأ: 20] {فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً} أي: متفرقاً. قال قتادة: الهباء ما تذروه الريح من حطام الشجر. وقال غيره: هو ما يرى من الكوة كهيئة الغبار.

.تفسير الآيات (7- 12):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [7- 12].
{وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً} أي: أصنافاً ثَلَاثَةً.
{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} تقسيم وتنويع للأزواج الثلاثة، مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها. وإطلاق {الْمَيْمَنَةِ} و{الْمَشْأَمَةِ} اللتين هما الجهتان المعروفتان على منزلة السعداء الذين هم الأبرار والمصلحون من الناس، وعلى دركة الأشقياء الذين هم الأشرار والمفسدون من الناس، أصله من تيمُّنِ العرب باليمين، وتشاؤمهم بالشمال، كما في السانح والبارح، وقولهم للرفيع: هو منى باليمين، وللوضيع: هو منى بالشمال، تجوزاً به، أو كناية به عما ذكر.
وقيل: الميمنة والمشأمة بمعنى اليمين والشؤم، فليس بمعنى الجهة، بل بمعنى البركة وضدها، لما عاد عليهم من أنفسهم وأفعالهم. وفي جملتي الاستفهام إشارة إلى ترقّي أحوالهما في الخير والشر، تعجُّباً منه.
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} أي: الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة، بعد ظهور الحق، وأوذوا لأجله، وصبروا على ما أصابهم، وكانوا الدعاة إليه.
فإن قيل: لم خولف بين المذكورين في السابقين، وفي أصحاب اليمين، مع أن كل واحد منهما إنما أريد به التعظيم والتهويل لحال المذكورين؟
فنقول: التعظيم المؤدي بقوله: {السَّابِقُونَ} أبلغ من قرينه، وذلك أن مؤدى هذا أن أمر السابقين، وعظمة شأنه، مسابق. كاد يخفى. وإنما تحير فهم السامع فيه مشهور. وأما المذكور في قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} فإنه تعظيم على السامع بما ليس عنده منه علم سابق، ألا ترى كيف سبق بسط حال السابقين بقوله: {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} فجمع بين اسم الإشارة المشار به إلى معروف، وبين الإخبار عنه بقوله:
{الْمُقَرَّبُونَ} معرفاً بالألف واللام العهدية؟ وليس مثل هذا مذكوراً في بسط حال أصحاب اليمين، فإنه مصدر بقوله:
{فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} أفاده الناصر.
و{السَّابِقُونَ} الثاني إما خبر، أي: الذين عرفت حالهم واشتهرت أوصافهم على حدّ: وشعري شعري، أو تأكيد، والخبر قوله:
{أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} أي: الذين يقربهم الله منه بإعلاء منازلهم {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}

.تفسير الآيات (13- 14):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} [13- 14].
{ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ} أي: هم جماعة كثيرة من الذين سبقوا، لرسوخ إيمانهم وظهور أثره في أعمالهم من العمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على الجهاد في سبيله، إلى غير ذلك من المناقب التي كانت ملكات لهم.
{وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} أي: الذين جاؤوا من بعدهم في الأزمنة التي حدثت فيها الغيَر، وتبرّجت الدنيا لخطَّابها، ونسي معها سر البعثة، وحكمة الدعوة، فما أقلّ الماشين على قّدّم النبي صلى الله عليه وسلم وصحابه! لا جَرمَ أنهم وقتئذ الغُرَباء، لقّلتهم.

.تفسير الآيات (15- 26):

القول في تأويل قوله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً} [15- 26].
{عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} أي: مصفوفة، أو مشبكة بالدرِّ والياقوت أو الذهب. والوَضْنُ التشبيك والنسج.
{مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} أي: بوجوههم، متساوين في الرتب، لا حجاب بينهم أصلاً.
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أي: للخدمة {وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} أي: مبْقَونَ على سنّ واحدة لا يموتون.
{بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} أي: حال الشرب. والكوب إناء لاعروة ولا خرطوم له، والإبريق: إناء له ذلك.
{وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} أي: خمر جارية.
ثم أشار إلى أنها لَذّة كلها، لا ألم معها ولا خمار {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي: لا يصدر عنها صداعهم لأجل الخمار، كخمور الدنيا، والصداع: وجع الرأس. وقرئ بالتشديد من التفعل، أي: لا يتفرقون {وَلَا يُنزِفُونَ} بكسر الزاي وفتحها أي: لا تذهب عقولهم بسكرها.
{وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي: يختارون ويرتضون، وأصله أخذ الخيار والخير.
قال ابن كثير: وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخيّر لها، ثم استشهد له بحديث عكراش لما أتي النبي صلى الله عليه وسلم بثريد، وأقبل عكراش يخبط بيدهْ في جوانبه فقبض النبي صلى الله عليه وسلم بيده وقال: «يا عكراش! كل من موضع واحد، فإنه طعام واحد». ثم أتي بطبق فيه تمر أو رطب، فجعل عكراش يأكلْ من بين يديه، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق فقال: «يا عكراش! كلْ من حيث شئت، فإنه لون واحد» رواه الترمذي واستغربه.
{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} أي: يتمنون {وَحُورٌ عِينٌ} أي: وأزواج بيض واسعة الأعين. عطف على {وِلْدَانِ} أو مبتدأ محذوف الخبر. أي: وفيها. أو ولهم حور. وقرئ بالجرّ عطف على {بِأَكْوَابٍ} قال الشهاب: وحينئذ إما أن يقال: {يَطُوْفُ} بمعنى ينعمون مجازاً أو كناية. على حد قوله:
وزَجّجْنَ الحَوَاجِبَ والْعُيُونا

أو يبقى على حقيقته، وظاهره وأن الولدان تطوف عليهم بالحور أيضاً، لعرض أنواع اللذات عليهم من المأكول والمشروب والمنكوح، كما تأتي الخدام بالسراري للملوك ويعرضونهم عليهم. وإلى هذا ذهب أبو عمرو وقطرب وجوّز جعله من الجر الجواري. قيل: والفصل يأباُه ويضعفه. وأما عطفه على {جَنَّاتٍ} بتقدير مضاف أي: هم في جنات.
ومصاحبة حور فقال أبو حيّان: هو فهم أعجمي، فيه بُعد وتفكيك للكلام المرتبط، وهو ظاهر. ومن عصّبهُ فقد تعصّب.
{كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي: صفاؤهن كصفاء الدّرّ في الأصداف الذي لا تمسّه الأيدي وأصل {الْمَكْنُونِ} الذي صين في كنّ.
{جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: من الصالحات.
{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} أي: هذياناً وكلاماً غير مفيد، باطلاً من القول.
{وَلَا تَأْثِيماً} أي: ما يؤثم من الفحش والكذب والغيبة وأمثالها.
{إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً} قال القاشاني: أي: قولاً هو سلام في نفسه منزّه عن النقائص، مبرأ عن الفضول والزوائد، أو قولاً يفيد سلامة السامع من العيوب والنقائص، ويوجب سروره وكرامته، ويبين كماله وبهجته، لكون كلامهم كله معارف وحقائق، وتحايا ولطائف، على اختلاف وجهي الإعراب، أي: من كون {سَلاَماً} بدلاً من {قِيلاً} أو مفعوله. والتكرير للدلالة على فشوّ السلام بينهم وكثرته، لأن المراد: سلاماً بعد سلاماً، كقرأت النحو باباً باباً، فيدلّ على تكرّره وكثرته.

.تفسير الآيات (27- 40):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاء مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُباً أَتْرَابًا لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} [27- 40].
{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} أي: أي: شيء هم! أي: هم شرفاء، عظماء كرماء، يتعجب من أوصافهم في السعادة.
{فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} أي: لا شوك له، أو موقَر بالثمار.
{وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} يعني شجر الموز الذي نضد ثمره من أسفله إلى أعلاه. قال مجاهد: كانوا يعجبون بوجّ من طلحه وسدره. وشجرة الموز ثمرتها حلوة دسمة لذيذة لا نوى لها.
{وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} أي: ممتد منبسط لا يتقلّص.
{وَمَاء مَّسْكُوبٍ} أي: مصبوب دائم الجريان.
{وفاكهة كثيرة لا مقطوعة} أي: لا تنقطع عنهم متى أرادوها، لكونها غير متناهية، {وَلَا مَمْنُوعَةٍ} أي: لا تمنع عن طالبها. والقصد مباينتها لفاكهة الدنيا، فإنها تنقطع أحياناً، كفاكهة الصيف في الشتاء، وتمتنع أحياناً لعزتها أو جدبها.
{وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} أي: مرتفعة في منازلها، أو على الأرائك للرقود والمضاجعة. وقد يؤيده تأثره بوصف من يضاجعهن فيها. وهو قوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء} أي: بديعاً فائق الوصف. فالضمير يعود على ما فهم من السياق والسباق. وقيل: قد يكنى عن الحور بالفرش، كما يكنى عنهن باللباس، فالضمير المذكور على طريق الاستخدام، إذ عاد إلى الفرش بمعنى النساء، بعد إرادة معناها المعروف منها. وقيل: على طريق الحقيقة، أي: مرفوعة على الأرائك. كآية {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ} [يس: 56].
{فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} أي: لم يطمثن.
{عُرُباً} جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها المحبوبة لتبعلها {أَتْرَاباً} أي: على سن واحدة.
{لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ}، متعلق بـ أنشأنا، أو جعلنا، أو صفة لـ: {أَبْكَاراً} أو خبر لمحذوف، مثل هن.
{ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} أي: جماعة وأمّة من المتقدمين في الإيمان، وممن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان من هذه الأمة. والكثرة ظاهرة لوفرة أصحاب اليمين في أواخرهم دون السابقي، كما بينا أولاً.

.تفسير الآيات (41- 48):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} [41- 48].
{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} أي: حر نار ينفذ في المسامّ.
{وَحَمِيمٍ} أي: ماء متناهي الحرارة.
{وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} أي: من دخان أسود، طبق أهويتهم المردية، وعقائدهم الفاسدة، وهيئات نفوسهم المسودة، بالصفات المظلمة، والهيئات السود الرديئة.
{لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} أي: ليس له صفتا الظل الذي يأوي إليه الناس من الروح، ونفع من يأوي إليه بالراحة، بل له إيذاء وإيلام وضرّ، بإيصال التعب واللهب والكرب.
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} أي: منهمكين في اللذات والشهوات، منغمسين في الأمور الطبيعية، والغواشي البدنية، فبذلك اكتسبوا هذه الهيئات الموبقة، والتبعات المهلكة.
{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} أي: الذنب العظيم من الأقاويل الباطلة والعقائد الفاسدة، التي استحقوا بها العذاب المخلد، والعقاب المؤبد. وفسرهُ السبكي بالقسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ} [النحل: 38]، قال الشهاب: وهو تفسير حسن، لأن الحنث، وإن فسر بالذنب مطلقاً أو الذنب العظيم، فالمعروف استعماله في عدم البر بالقسم، ولذا تأثره بما كانوا يعتقدونه من إنكار البعث بقوله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ}

.تفسير الآيات (49- 56):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [49- 56].
{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} أي: معين عنده تعالى، وهو يوم القيامة.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} أي: الجاهلون المصرُّون على جهالاتهم، والجاحدون للبعث.
{لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} وهو من أخبث شجر البادية في المرارة، وبشاعة المنظر، ونتن الريح.
{فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} أي: من ثمراتها الوبيئة البشعة المرقة.
{فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} أي: الماء الذي انتهى حرهُ وغليانهُ. قال الزمخشري: وأنث ضمير الشجر على المعنى، وذّكره على اللفظ في قوله: {مِنْهَا} و{عَلَيْهِ}
{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} أي: الإبل التي بها الهيام، وهو داء لا ريّ معه، لشدة الشغف والكلب بها.
{هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أي: جزاؤهم في الآخرة، وفيه مبالغة بديعة، لأن النزل ما يعدّ للقادم عاجلاً إذا نزلْ، ثم يؤتى بعده بما هو المقصود من أنواع الكرامة، فلما جعل هذا، مع أنه أمر مهول، كالنزل، دلّ على أن بعده ما لا يطيق البيان شرحه، وجعله نزلاً مع أنه ما يكرم به النازل متهكماً، كما في قوله:
وكنا إذا الجبارُ بالجيش ضافَنا ** جعلنا القَنَا والمرْهَفَاتِ لهُ نُزْلاً