فصل: تفسير الآيات (14- 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (14- 15):

القول في تأويل قوله تعالى: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [14- 15].
{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} يريدون موافقتهم في الظاهر {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} أي: محنتموها بالنفاق وأهلكتموها {وَتَرَبَّصْتُمْ} أي: بالمؤمنين الدوائر، ليظهر الكفر فتظهروا ما في أنفسكم {وَارْتَبْتُمْ} أي: في توحيد الله ونبوة نبيّه، أو في البعث بعد الموت، أو في قوله {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] و[الفتح: 28]، ووعده بنصر المؤمنين، أو في جميع ذلك.
{وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} أي: طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار، أو قولهم: {سَيُغْفَرُ لَنَا}
{حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ} يعني: الموت، أو مصداق وعده بنصرة رسوله وإظهار دينه، أو عذاب النار {وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي: الشيطان، فأطمعكم بالنجاة والفوز والغلبة. وقرئ: {الغرور} بالضم.
{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} هذا من تتمة قول المؤمنين للمنافقين بعد أن ميز بينهم، أي: فاليوم لا يقبل منكم ما يفتدى به، بدلاً من عذابكم، وعوضاً من عقابكم {وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني المجاهرين بالكفر من المحادّين لله ولرسوله {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ} أي: أولى بكم، أو تتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: النار.
ثم نعى عليهم رخاوة عقدهم فيما ندبوا إليه من التصدق في سبيل الله، بأن ذلك من أثر قلة العناية بالخضوع لذكره وتنزيله، تعريضاً بالمنافقين، وسوقاً للمؤمنين إلى الكمال، فقال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (16):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [16].
{أَلَمْ يَأْنِ} أي: لم يحن، من: أنى الأمر يأنى، إذا جاء إناه، أي: وقته {لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} أي: أن تلين وترقّ وتخلص قلوبهم لذكر اسمه الكريم وما يوجبه من الوجَل منه والخشية، أو لذكر وعده ووعيده {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} يعني القرآن الذي لو أنزل على جبل لتصدع. قال أبو السعود: ومعنى الخشوع له، الانقياد التامّ لأوامره ونواهيه، والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام التي من جملتها ما سبق وما لحق من الإنفاق في سبيل الله تعالى. وقد قيل: إن عطفه على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر، وأن ذكر الله ككلام الله، بمعنى القرآن، وكذا ما نزل من الحق، فالعطف لتغاير العنوانين، فإنه ذكر وموعظة، كما أنه حق نازل {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} أي: الأجل والإمهال والاستدراج {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: لزوال الخشية والروعة التي كانت تأتيهم من الكتابين {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: خارجون عن دينهم، نابذون لما في كتابهم.
تنبيه:
قال ابن كثير: في الآية نهي للمؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، فإنهم لما تطاول عليهم الأمد، وبدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فقست قلوبهم، وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، ولهذا نهى المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية، ونظير الآية قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} [النساء: 155]، و[المائدة: 13]، إلى آخرها.

.تفسير الآية رقم (17):

القول في تأويل قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [17].
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: فهو محييكم بعد مماتكم ومحاسبكم، فلا منتدح لكم عن الجزاء، أي: فاحذروا مغبة القسوة والفسق.
{قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} أي: الحجج وضروب الأمثال {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: لتثوبوا إلى عقولكم ومراشدكم.

.تفسير الآيات (18- 19):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [18- 19].
{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} أي: المتصدقين والمتصدقات في سبيل الله {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ واَلشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي: لتصديقهم بجميع أخبار الله وأحكامه، وشهادتهم بحقية جميع ذلك. وقد جوز في {اَلشُّهَدَاء} وجهان:
أحدهما: أن يكون معطوفاً على ما قبله، أخبر عن الذين آمنوا أنهم صديقون شهداء، وهو الظاهر، لأن الأصل الوصل لا التفكيك.
والثاني: أن يكون مبتدأ، خبره {لَهُمْ أَجْرُهُمْ}، و{الشُّهَدَاء} حينئذ إما الأنبياء الذين يشهدون على قومهم بالتبليغ أو الذين يشهدون للأنبياء على قومهم، أو الذين قتلوا في سبيل الله. واختار الوجه الثاني ابن جرير، قال: لأن الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم شهيد، لا بمعنى غيره، إلا أن يراد به شهيد على ما آمن به وصدقه، فيكون ذلك وجهاً، وإن كان فيه بعض البعد، لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه إذا أطلق بغير وصل فتأويل قوله: {وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ} إذن والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، أو أهلكوا في سبيله، عند ربهم، لهم ثواب الله في الآخرة ونورهم. انتهى.
ثم رأيت لابن القيم في طريق الهجرتين بسطاً لهذين الوجهين في بحث الصديقية، ننقله لنفاسته، قال رحمه الله في مراتب المكلفين في الآخرة وطبقاتهم:
الطبقة الرابعة: ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملاً، ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسل والنبوة، وهي مرتبة الصديقية، ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء، فقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69]، فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة، وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون العلم، وهم الوسائط بين الرسول وأمته، فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه، وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} قيل: إن الوقف على قوله:
{هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ثم يبتدئ: {وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ} فيكون الكلام جملتين، أخبر في إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون، والإيمان التام يستلزم العلم والعمل، والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه. وأخبر في الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء ولهذا قدمهم عليهم في الآيتين، هنا وفي سورة النساء، وهكذا جاء ذكرهم مقدماً على الشهداء في كلام النبي في قوله: «اثبت أحد فإنما عليك نبيّ وصديق وشهيد». ولهذا كان نعت الصديقية وصفاً لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين أبي بكر الصديق، ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتاً له رضي الله عنه.
وقيل: إن الكلام جملة واحدة، أخبر عن المؤمنين أنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم، وعلى هذا فالشهداء هم الذين يستشهدهم الله على الناس يوم القيامة، وهي قوله:
{لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، وهم المؤمنون، فوصفهم بأنهم صديقون في الدنيا، وشهداء على الناس يوم القيامة، ويكون الشهداء وصفاً لجملة المؤمنين الصديقين.
وقيل: الشهداء هم الذين قتلوا في سبيل الله، وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين، ويكون قوله:
{وَالشُّهَدَاء} مبتدأ خبره ما بعده، لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيداً في سبيل الله، ويرجحه أيضاً أنه لو كان {الشُّهَدَاء} داخلاً في جملة الخبر، لكان قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} داخلاً أيضاً في جملة الخبر عنهم، ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء:
أحدها: أنهم هم الصديقون.
والثاني: أنهم هم الشهداء.
والثالث: أن لهم أجرهم ونورهم.
وذلك يتضمن عطف الخبر الثاني على الأول، ثم ذكر الخبر الثالث مجرداً عن العطف، وهذا كما تقول: زيد كريم وعالم له مال. والأحسن في هذا تناسب الأخبار، بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعاً، فقول: زيد كريم عالم له مال، أو كريم وعالم وله مال، فتأمله! ويرجحه أيضاً أن الكلام يصير جملاً مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء، وهم الصديقون والشهداء والصالحون، وهم المذكورون في الآية، وهم المتصدقون الذين أقرضوا الله قرضاً حسناً، فهؤلاء ثلاثة أصناف، ثم ذكر الرسل في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25]، فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكورة في سورة النساء فهؤلاء هم السعداء، ثم ذكر الأشقياء وهم نوعان: كفار ومنافقون، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ} الآية، وذكر المنافقين في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} [الحديد: 13] الآية، فهؤلاء أصناف العالم كلهم. وترك سبحانه ذكر المخَلّط صاحب الشائبتين، على طريق القرآن في ذكر السعداء والأشقياء، دون المخلطين غالباً، لسّر اقتضته حكمته، فليحذر صاحب التخليط، فإنه لا ضمان له على الله، فلا هو من أهل وعده المطلق، ولا ييأس من روح الله، فإنه ليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب، ولكنه بين الجنة والنار واقف بين الوعد والوعيد، كل منهما يدعوه إلى موجبه لأنه أتى بسببه، وهذا هو الذي لحظه القائلون بالمنزلة بين المنزلتين، ولكن غلطوا في تخليده في النار، ولو نزلوه بين المنزلتين، ووكلوه إلى المشيئة لأصابوا. انتهى كلام ابن القيم، وفيه موافقة لما اختاره ابن جرير في الآية.
ولما ذكر تعالى السعداء ومآلهم، عطف بذكر الأشقياء، وبين حالهم بقوله:
{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ثم حقر تعالى أمر الدنيا، وبين حاصل أمرها عند أهلها، بقوله:

.تفسير الآية رقم (20):

القول في تأويل قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [20].
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} أي: تفريح للنفس {وَلَهْوٌ} أي: باطل {وَزِينَةً} أي: منظر حسن {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} أي: في الحسب والنسب {وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ} أي: مطر {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} أي: الزراع {نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ} أي: يجف بعد خضرته ونضرته {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} أي: من اليبس {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} أي: هشيما متكسراً، وكذلك الدنيا لا تبقى كما لا يبقى النبات {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي: لمن ترك طاعة الله ومنع حق الله {وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} أي: في الآخرة لمن أطاع الله، وأدى حق الله من ماله {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} قال المهايميّ: يأخذ صاحبها ملاعب الدنيا بدل ملاعب الحور العين، ولهوها بملاذ الجنة، وزينتها بزينة الجنة، والتفاخر بدل التفاخر بجوار الله والقرب، والتكاثر بالأموال والأولاد بدل نعم الله والولدان المخلدين في الجنة.
ولما حقر الحياة الحسية النفسية الفانية، وصورها في صورة الخضراء السريعة الانقضاء، دعاهم إلى الحياة الباقية، فقال تعالى:

.تفسير الآية رقم (21):

القول في تأويل قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [21].
{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي: بادروا بالتوبة من ذنوبكم إلى نيل مغفرة وتجاوز عن خطيئاتكم من ربكم {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي: الإيمان اليقينيّ.
{ذَلِكَ} أي: المغفرة والجنة {فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} أي: ممن كان أهلاً له {وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} قال ابن جرير: أي: بما بسط لخلقه من الرزق في الدنيا، ووهب لهم من النعم، وعرفهم موضع الشكر، ثم جزاهم في الآخرة على الطاعة، ما وصف أنه أعده لهم.

.تفسير الآيات (22- 24):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [22- 24].
{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} أي: من قحط وجدب ووباء وغلاء {وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ} أي: من خوف ومرض وموت أهل وولد، وذهاب مال {إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} أي: إلا في علم أزلي من قبل خلق المصيبة أو الأنفس. وما علم الله كونه فلابد من حصوله {إِنَّ ذَلِكَ} أي: حفظه وتقديره على الأنفس المبروءة ما قدر، {عَلَى اللّهِ يَسِيرً} أي: لسعة علمه وإحاطته.
{لِكَيْلَا تَأْسَوْا} أي: تحزنوا {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أي: من عافية ورزق ونحوهما {وَلَا تَفْرَحُوا} أي: تبطروا {بِمَا آتَاكُمْ} أي: من نعم الدنيا. والمعنى: أعلمناكم بأنا قد فرغنا من التقدير، فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير، فلا الحزن يدفعه، ولا السرور يجلبه ويجمعه. قال القاشانيّ: أي: لتعلموا علماً يقينياً أن ليس لكسبكم وحفظكم وحذركم وحراستكم فيما آتاكم، مدخل وتأثير، ولا لعجزكم وإهمالكم وغفلتكم وقلة حيلتكم وعدم احترازكم واحتفاظكم فيما فاتكم مدخل، فلا تحزنوا على فوات خير، ونزول شر، ولا تفرحوا بوصول خير وزوال شر؛ إذ كلها مقدرة {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} أي: متبختر من شدة الفرح بما آتاه {فَخُورً} أي: به على الناس لعدم يقينه وبعده عن الحق بحب الدنيا واحتجابه بالظلمات عن النور.
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} أي: بالإنفاق في سبيل الله، لشدة محبة المال {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي: لاستيلاء الرذيلة عليهم، والموصول إما مبتدأ وخبره محذوف، أي: لهم وعيد شديد، أو خبر ومبتدؤه محذوف، أي: هم اللذين، أو بدل من كل.
{وَمَن يَتَوَلَّ} أي: يعرض عن ذكر الله وما أمر به {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} أي: عنه، لاستغنائه بذاته {الْحَمِيدِ} أي: لاستقلاله بكماله، وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق، لا لما يعود عليه تعالى، فإنه الغنيّ المطلق.