فصل: تفسير الآيات (9- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (9- 11):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [9- 11].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} أي: لا يشغلكم الاغتباط بها عن ذكر أمره ونهيه، ووعده ووعيده، أو ذكر ما أنزله وأوحى به. ومنه أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فإن مقتضى الإيمان أن لا يبالي المؤمن بعزة المال والولد، مع عزة الله {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي: المغبونون حظوظهم من كرامة الله ورحمته، كما قال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19].
{وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} أي: أتصدق وأخرج حقوق مالي {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: لن يؤخر في أجل أحد إذا حضر، ولكن يخترمه.
قال القاشانيّ: معنى قوله:
{لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} إن صدقتم في الإيمان، فإن قضية الإيمان غلبة حب الله على محبة كل شيء، فلا تكن محبتهم ومحبة الدنيا، من شدة التعلق بهم وبالأموال، غالبة في قلوبكم على محبة، فتحتجبوا بهم عنه، فتصيروا إلى النار، فتخسروا نور الاستعداد الفطري بإضاعته فيما يفنى سريعاً، وتجردوا عن الأموال بإنفاقها وقت الصحة والاحتياج إليها، ليكون فضيلة في أنفسكم، وهيئة نورية لها، فإن الإنفاق إنما ينفع إذا كان عن ملكة السخاء، وهيئة التجرد في النفس. فأما عند حضور الموت، فالمال للوارث لا له، فلا ينفعه إنفاقه، وليس إلا التحسر والتندم، وتمني التأخير في الأجل بالجهل، فإنه لو كان صادقاً في دعوى الإيمان، وموقناً بالآخرة لتيقن أن الموت ضروري، وأنه مقدر في وقت معين قدره الله فيه بحكمته، فلا يمكن تأخره.
{وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: بأعمالكم ونياتكم، فلا ينفع الإنفاق في ذلك الوقت ولا تمني التأخير في الأجل، ووعد التصدق والصلاح، لعلمه بأنه ليس عن ملكة السخاء، ولا عن التجرد والزكاء، بل من غاية البخل وحب المال، كأنه يحسب أنه يذهب به معه، وبأن ذلك التمني والوعد محض الكذب، ومحبة العاجلة، لوجود الهيئة المنافية للتصدق والصلاح في النفس، والميل إلى الدنيا، كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] والله أعلم.
تنبيه:
قال الإمام إلكيا الهراسي: يدلّ قوله تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية، على وجوب إخراج الزكاة على الفور، ومنع تأخيرها.
وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال: من كان له مال يبلّغه حج بيت ربه، أو تجب عليه فيه زكاة، فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت، فقيل له: إنما يسأل الرجعة الكفار، فقال: سأتلوا عليكم بذلك قرآناً، ثم قرأ هذه الآية.

.سورة التغابن:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 2):

القول في تأويل قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [1- 2].
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ} أي: ملك السماوات والأرض، ونفوذ الأمر فيهما {وَلَهُ الْحَمْدُ} أي: الثناء الجميل، لأنه مولى النعم وموجِدها.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: 5- 6] أي: هو الذي انفرد بإيجادكم في أحسن تقويم، قابل للكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر، جاحد للحق، كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته، ومنكم مختار للإيمان، كاسب له، حسبما تقتضيه خلقته، وكان الواجب عليكم جميعاً أن تكونوا مختارين للإيمان، شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد، وما يتفرع عليها من سائر النعم، فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه، بل تشعبتم شعباً، وتفرقتم فرقاً. وتقديم الكفر لأن الأغلب فيما بينهم، والأنسب بمقام التوبيخ، أفاده أبو السعود {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: فيجازيكم به، فآثروا ما يجديكم، وجانبوا ما يرديكم.

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [3].
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي: بالحكمة البالغة التي ترشد إلى المصالح الدينية والدنيوية {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي: حيث برأكم في أحسن تقويم؛ وذلك أنه تعالى جعل الْإِنْسَاْن معتدل القامة على أعدل الأمزجة، وآتاه العقل وقوة النطق، والتصرف في المخلوقات، والقدرة على أنواع الصناعات {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: مرجعكم للجزاء.

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [4].
{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بخفاياها، وما تنطوي عليه، وفيه تقرير لما قبله، كالدليل عليه، لأنه إذا علم السرائر، وخفيات الضمائر، لم يخف عليه خافية من جميع الكائنات.
قال الزمخشري: نبّه بعلمه ما في السماوات والأرض، ثم بعلمه ما يسرّه العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور، أن شيئاً من الكليات والجزئيات غير خافٍ عليه، ولا عازب عنه فحقه أن يتقى ويحذر، ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه. وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد. وكل ما ذكره بعد قوله تعالى: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} كما ترى، في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصي الخالق، ولا تشكر نعمته. انتهى.

.تفسير الآيات (5- 6):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [5- 6].
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أي: معشر الكفرة الفجرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أي: كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} من عذاب الاستئصال. والوبال الثقل، والشدة المترتبة على أمر من الأمور. و{أَمْرُهُمْ} كفرهم، عبر عنه بذلك، للإيذان بأنه أمر هائل، وجناية عظيمة {وَلَهُمْ} أي: في الآخرة {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} أي: ذلك المذكور من ذوقهم وبال أمرهم في الدنيا، وما أعد لهم من عذاب الأخرى، بسبب أنه أتتهم رسلهم بالواضحات من الأدلة والأعلام، على حقيقة ما يدعونهم إليه، فنبذوها، واتبعوا أهواءهم، واستهزؤوا برسلهم، وقالوا: أبشر يهدوننا؟
قال ابن جرير: استكباراً منهم أن تكون رسل الله إليهم بشراً مثلهم، واستكباراً عن إتباع الحق من أجل أن بشراً مثلهم دعاهم إليه.
وجمع الخبر عن البشر فقيل {يَهْدُونَنَا}، ولم يقل: يهدينا؛ لأن البشر وإن كان في لفظ الواحد، فإنه بمعنى الجميع. انتهى.
وقال القاشاني: لمّا حجبوا بصفات نفوسهم عن النور الذي هو به يفضل عليهم بما لا يقاس، ولم يجدوا منه إلا البشرية، أنكروا هدايته، فإن كل عارف لا يعرف معروفه إلا بالمعنى الذي فيه، فلا يوجد النور الكمالي إلا بالنور الفطري، ولا يعرف الكمال إلا الكامل، ولهذا قيل: لا يعرف الله إلا الله، وكل طالب وجد مطلوبه بوجه ما دالاً لما أمكن به التوجه نحوه، وكذا كل مصدق بشيء فإنه واجد للمعنى المصدق به، بما في نفسه من ذلك المعنى. فلما لم يكن فيهم شيء من النور الفطري أصلاً، لم يعرفوا منه الكمال فأنكروه، ولم يعرفوا من الحق شيئاً، فيحدث فيهم طلب، فيحتاجوا إلى الهداية، فأنكروا الهداية.
{فَكَفَرُوا} أي: بالحق والدين والرسول {وَتَوَلَّواْ} أي: عن التدبر في الآيات البينات، {وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ} أي: أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم، حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا غناه تعالى عنهم لما فعل ذلك. فـ: {اسْتَغْنَى} معطوف على ما قبله، وجوز جعله حالاً بتقدير قد. أي: وقد استغنى بكماله، عرفوا أو لم يعرفوا.
{وَاللّهُ غَنِيٌّ} أي: بذاته عن العالمين، فضلاً عن إيمانهم، لا يتوقف كمال من كمالاته عليهم، ولا على معرفتهم له.
{حَمِيدٌ} أي: يحمده كل مخلوق، أو مستحق للحمد بنفسه، وإن لم يحمده حامد.

.تفسير الآية رقم (7):

القول في تأويل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [7].
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} أي: من قبوركم {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} أي: في الدنيا {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: هين لقبول المادة، وثبوت القدرة الكاملة.
قال ابن كثير: وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه عز وجل، على وقوع المعاد ووجوده، فالأولى في يونس: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53]، والثانية في سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]. والثالثة هذه الآية.

.تفسير الآية رقم (8):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [8].
{فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ} أي: إذا كان الأمر كذلك، فآمنوا بالله وحده وبرسوله فيما يخبركم به من البعث والجزاء وغيره {وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} يعني القرآن الحكيم. والالتفات إلى نور العظمة، لإبراز كمال العناية بأمر الإنزال {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}

.تفسير الآية رقم (9):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [9].
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} ظرف لـ: {تُنَبَّؤُنَّ} أو لـ: {خَبِيرٌ} لما فيه من معنى الوعيد. كأنه قيل: والله مجازيكم يوم يجمعكم، أو مفعول لاذكر {لِيَوْمِ الْجَمْعِ} أي: ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون، أي: لأجل ما فيه من الحساب والجزاء {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} قال الزمخشري: التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضاً، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء، وفيه تهكم بالأشقياء لأن نزولهم ليس بغبن، انتهى.
ومما حسن إطلاق التغابن على ما ذكر، وورد البيع والاشتراء في حق الفريقين، فذكر تعالى في حق الكافرين أنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، واشتروا الضلالة بالهدى، وذكر أنهم ما ربحت تجارتهم، فكأنهم غبنوا أنفسهم. ودل المؤمنين على تجارة رابحة فقال: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} [الصف: 10] الآية. وذكر أنهم باعوا أنفسهم بالجنة، فخسرت صفقة الكفار، وربحت صفقة المؤمنين.
وقال القاشاني: أي: ليس التغابن في الأمور الدنيوية، فإنها أمور فانية سريعة الزوال، ضرورية الفناء، لا يبقى شيء منها لأحد، فإن فات شيء من ذلك، أو أفاته أحد، ولو كان حياته، فإنما فات أو أفيت ما لزم فواته ضرورة، فلا غبن ولا حيف حقيقة، وإنما الغبن والتغابن في إفاته شيء لو لم يفته لبقي دائماً، وانتفع به صاحبه سرمداً، وهو النور الكمالي والاستعدادي، فتظهر الحسرة والتغابن هناك، في إضاعة الربح ورأس المال في تجارة الفوز والنجاة، كما قال: {فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]، فمن أضاع استعداده ونور فطرته، كان مغبوناً مطلقاً، كمن أخذ نوره وبقي في الظلمة. ومن بقي نور فطرته ولم يكتسب الكمال اللائق به الذي يقتضيه استعداده، أو اكتسب منه شيئاً، ولم يبلغ غايته، كان مغبوناً بالنسبة إلى الكامل التام، فكأنما ظفر بذلك الكامل بمقامه ومرامه، وبقي هذا متحيراً في نقصانه، انتهى.
{وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}