فصل: تفسير الآية رقم (7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (7):

القول في تأويل قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [7].
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} أي: من سعة ماله وغناه على امرأته البائنة في أجر رضاع ولده منها، وعلى ولده الصغير {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي: ضيق عليه {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} أي: على قدر ماله وطاقته {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} يعني: وسعها وطاقتها، فلا يكلف الفقير نفقة الغنيّ، ولا أحداً إلا فرضه الذي وجب عليه {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي: سيؤتي المقلّ بعد ضيق فرجاً، وبعد فقر غنى، تسلية للمعسرين من فقراء الأزواج، وتصبير لمطلقاتهم، وتطيب لقلوب الجميع، وتبشّر عام.
تنبيه:
في الإكليل: فيه أن النفقة يراعى فيها حال المنفق يساراً وإعساراً، وإن نفقة المعسر أقل من نفقة الموسر، لا حال المنفق عليه، واستدل بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} من قال: لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة. وفي الآية استحباب مراعاة الْإِنْسَاْن نفسه في النفقة والصدقة. ففي الحديث: «إن المؤمن أخذ عن الله أدباً حسناً: إذا هو وسع عليه وسع، وإذا هو قتر عليه قتر».
روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب سأل عن أبي عبيدة فقيل له: إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول: انظر ماذا يصنع إذا هو أخذها، فما لبث أن لبس ألين الثياب، وأكل أطيب الطعام، فجاء الرسول فأخبره، فقال رحمه الله: تأول هذه الآية {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}
ثم حذر تعالى من عصيانه وتعدي حدوده فيما شرعه، عناية بما مرّ من الأحكام، بقوله سبحانه:

.تفسير الآيات (8- 9):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [8- 9].
{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} أي: أعرضت عنه على وجه العتوّ والعناد، {وَرُسُلِهِ} أي: وعن أمر رسله كذلك {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً} أي: على ما قدمت، فلم نغادر لها منه شيئا {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً} أي: منكراً.
{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أي: عاقبة ما اكتسبت وجزاءه {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} قال ابن جرير: أي: غبناً، لأنهم باعوا نعيم الآخرة بخسيس من الدنيا قليل، وآثروااتباع أهوائهم على اتباع أمرالله.

.تفسير الآية رقم (10):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} [10].
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} يعني عذاب النار المعدّ في القيامة {فَاتَّقُواْ اللّهَ} أي: خافوه واحذروا بطشه بأداء فرائضه. واجتناب معاصيه {يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} أي: العقول {الَّذِينَ آمَنُوا} أي: صدقوا الله ورسله. نعت للمنادى، أو عطف بيان له {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً}

.تفسير الآية رقم (11):

القول في تأويل قوله تعالى: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} [11].
يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، وجعله نفس الذكر مبالغة، لذلك أبدل منه {يتلوا عليكم ايات الله مبينات} أي: لمن سمعها وتدبرها أنها حق من عند الله {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي: من الضلال إلى الهدى {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} أي: طيبه، وفيه تعجيب له وتعظيم.

.تفسير الآية رقم (12):

القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [12].
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي: المعبود المستحق للعبادة، من هذا خلقه، لا ما يشرك معه. وهاهنا لطائف:
الأولى: قال الزمخشريّ: قيل ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه. انتهى.
قال بعض علماء الفلك: أما كون الأرضين سبعاً كالسماوات، فهو أمر نجهله ولا نفهمه إلا إذا أريد به أن للأرض سبع طبقات، قال: والحق يقال أن كون الأرضين سبعاً، وهو كما يظهر لنا وهم من أوهام القدماء، ولذلك لم يرد في القرآن الشريف لفظ الأرض مجموعاً- أي: أرضين- ولم يرد فيه مطلقاً أن الأرضين سبع، مع أنه ذكر أن السماوات سبع، مراراً عديدة وفي كل مرة يذكر معها الأرض بالأفراد. نعم! ورد فيه قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} وهي الآية الوحيدة التي فهموا منها أن الأرضين سبع. وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقاً.
قال: ولنا في تفسيرها وجهان:
أما أن تكون {مَنِ} في قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ} زائدة، وإما أن تكون غير زائدة.
أما على الوجه الأول: فتقدير الآية هكذا: الله الذي خلق سبع سماوات والأرض خلقها مثلهن. وعلى تفسيرنا هذا تكون هذه الآية دالة على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه. أي: أنها إحدى السيارات، وهو أمر ما كان معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يخطر ببال أحد من العرب، وذلك من دلائل صدق القرآن. والأرض مثل السيارات الأخرى في المادة، وكيفية خلقها، وكونها تسير حول الشمس، وتستمد النور والحرارة منها، وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى، وكونها كروية الشكل، فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه، وكلها مخلوقة من مادة واحدة، وهي مادة الشمس، وعلى طريقة واحدة، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} [الأنبياء: 30]. أي: شيئاً واحداً {فَفَتَقْنَاهُمَا} أي: فصلنا بعضهما عن بعض، فالأرض خلقها الله تعالى مثل السماوات تماماً.
وأما على الوجه الثاني: وهو أن {مَنِ} غير زائدة، فتقدير الآية هكذا: الله الذي خلق سبع سماوات وخلق من الأرض أرضاً مثلهن، فالآية واردة على طريقة التجريد، كقولك: اتخذت لي سبعة أصدقاء، ولي من فلان صديق مثلهم. أي: مثلهم في الصداقة. أو التقدير: وبعض الأرض مثلهن في مادتها وعناصرها. وعليه، فليس في القرآن الشريف أدنى دليل على أن الأرضين سبع كما يزعمون. انتهى.
الثانية: ذكر ابن الأثير في المثل السائر في النوع السادس، في اختلاف صيغ الألفاظ واتفاقها وتفاوتها في الحسن فيه، ما مثاله:
وفي صدد ذلك ما ورد استعماله من الألفاظ مفرداً، ولم يرد مجموعاً، كلفظة الأرض، فإنها لم ترد في القرآن إلا مفردة. فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة معها في كل موضع من القرآن. ولما أريد أن يؤتى بها مجموعة قيل:
{وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} انتهى.
الثالثة: قرئ {مِثْلَهُنَّ} بالنصب، عطفاً على {سَبْعَ} بالرفع على الابتداء، وخبره {مِّنَ الأَرْضِ}
{يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} أي: يجري أمر الله وحكمه بينهن، وملكه ينفذ فيهن. وقوله:
{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} علة لـ: {خَلَقَ} ول- {يَتَنَزَّلُ} أو لمضمر يعمهما، كفعل ما فعل لتعلموا... إلخ، فإن كلاً منها يدل على كمال قدرته وعلمه.
قال ابن جرير: أي: فخافوا أيها الناس المخالفون أمر ربكم، عقوبته، فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع. وهو على ذلك قادر ومحيط أيضاً بأعمالكم فلا يخفى عليه منها خاف. وهو محصيها عليكم ليجازيكم به، يوم تجزى كل نفس ما كسبت.

.سورة التحريم:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [1].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال المهايميّ: ناداه ليقبل إليه بالكلية، ويدبر عن كل ما سواه من الأزواج وغيرهن. وعبّر عنه بالمبهم إشعاراً منه بأنه من غاية عظمته، بحيث لا يعلم كنهه. وأتى بلفظ: {النَّبِيُّ} إشعاراً بأنه الذي نبئ بأسرار التحليل والتحريم الإلهيّ. والمراد بتحريمه ما أحلّ له امتناعه منه، وحظره إيّاه على نفسه. وهذا المقدار مباح ليس في ارتكابه جناح، وإنما قيل له: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} رفقاً به، وشفقة عليه، وتنويهاً لقدره ولمنصبه صلى الله عليه وسلم، أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشقّ عليه، جرياً على ما ألف من لطف الله تعالى نبيّه، ورفعه عن أن يحرج بسبب أحد من البشر الذين هم أتباعه، ومن أجله خلقوا، ليظهر الله كمال نبوته، بظهور نقصانهم عنه، كما أفاده الناصر.
تنبيهان:
الأول: للأثريين في هذا الذي حرمه صلوات الله عليه على نفسه روايات.
فروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش، ويمكث عندها، فتواطأتُ أنا وحفصة أن أيّتنا دخل عليها فلتقل له: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له فقال: «بل شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش، فلن أعود له، وقد حلفت! لا تخبري بذلك أحداً»، فنزلت الآية.
وروى الشيخان أيضاً عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحَلواء والعسل، وكان إذا صلى العصر دار على نسائه، فيدنو من كل واحدة منهن، فدخل على حفصة بنت عمر، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت إليها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: والله لنحتالنَّ له! فذكرت ذلك لسودة، وقلت لها: إذا دخل عليك، ودنا منك، فقولي له: يا رسول الله! أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا! فقولي له: وما هذه الريح؟ و«كان صلى الله عليه وسلم يكره أن يوجد منه الريح الكريه»! فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: أكلت نحلُه العُرفطَ، حتى صار فيه- أي: في العسل- ذلك الريح الكريه، وإذا دخل عليّ فسأقول له ذلك، وقولي أنت يا صفية ذلك. فلما دخل على سودة، قالت له مثل ما علمتها عائشة، وأجابها بما تقدم. فلما دخل على صفية، قالت له مثل ذلك، فلما دخل على عائشة قالت له مثل ذلك، فلما كان اليوم الآخر ودخل على حفصة قالت له: يا رسول الله! ألا أسقيك منه؟ قال: «لا حاجة لي به». قالت: إن سودة تقول: سبحان الله! لقد حرمناه منه، فقلت لها: اسكتي.
والمغافير صمغٌ حلو له رائحة كريهة ينضحه شجر، يقال له: العرفط بضم العين المهملة والفاء.
وفي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة، وفي سابقتها أنها زينب. والاشتباه في الاسم لا يضر، بعد ثبوت أصل القصة.
وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: كانت حفصة وعائشة متحابتين، وكانتا زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبت حفصة إلى أبيها، فتحدثت عنده، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته، فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة، فرجعت حفصة، فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها، وغارت غيرة شديدة، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته، ودخلت حفصة، فقالت: قد رأيت من كان عندك، واللهِ لقد سؤتني! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «واللهِ لأرضينك، فإني مسرّ إليك سراً فاحفظيه»! قالت: ما هو؟ قال: «إني أشهدك أن سريَّتي هذه عليّ حرام، رضا لك»- وكانت حفصة وعائشة تظاهران على نساء النبي صلى الله عليه وسلم- فانطلقت عائشة فأسرت إليها أن أبشري، إن النبي صلى وسلم قد حرم عليه فتاته. فلما أخبرت بسرِّ النبي صلى الله عليه وسلم، أظهر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله على رسوله لما تظاهرتا عليه:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآيات.
وروي أيضاً عن الضحاك قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتاة يغشاها، فبصرت به حفصة، وكان اليوم يوم عائشة، وكانتا متظاهرتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتمي عليّ، ولا تذكري لعائشة ما رأيت»، فذكرت حفصة لعائشة، فغضبت عائشة، فلم تزل بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها أبداً، فأنزل الله هذه الآية، وأمره أن يكفِّر يمينه ويأتي جاريته.
وروى النسائي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمَة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرَّمها، فأنزل الله هذه الآية.
ولم يرجح ابن جرير أحد السببين المرويين في نزولها على الآخر، بل وقف على إجمال الآية، على عادته في أمثالها، ولذا قال: الصواب أن يقال: كان الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئاً كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته، وجائز أن يكون شراباً من الأشربة، وجائز أن يكون غير ذلك، غير أنه، أي: ذلك كان، فإنه كان تحريم شيء كان له حلالاً، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه كما كان له قد أحله، وبيَّن له تحلة يمينه. انتهى.
والذي يظهر لي هو ترجيح روايات تحريم الجارية في سبب نزولها، وذلك لوجوه:
منها: أن مثله يبتغي به مرضاة الضرات، ويهتم به لهن.
ومنها: أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن، بل فيه أنه حلف لا يشربه أنفة ًمن ريحه، ثم رغب إلى عائشة أن لا تحدث صاحبته به شفقة عليها، إلا أن يكنَّ عاتبنه في ذلك، ولم يحتمل لطف مزاجه الكريم ذلك، فحرمه.
ولكن ليس في الرواية ما يشعر به. وما زاد على ذلك فمن اجتهاد الرواة.
ومنها: أن الاهتمام بإنزال سورة على حدة، لتقريع أزواجه صلى الله عليه وسلم وتأديبهن في المظاهرة عليه، وإيعادهن على الإصرار على ذلك، بالاستدلال بهن، وإعلامهن برفعة مقامه، وأن ظهراءَهُ مولاه وجبريل والملائكة والمؤمنون، كل ذلك يدل على أن أمراً عظيماً دفعهن إلى تحريمه ما حرم وما هو إلا الغيرة من مثل ما روي في شأن الجارية، فإن الأزواج يحرصن أشد الحرص على ما يقطع وصلة الضرة الضعيفة ويبترها من عضو الزوجية. هذا ما ظهر لي الآن.
وأما تخريج رواية العسل في هذه الآية، وقول بعض السلف نزلت فيه، فالمراد منه أن الآية تشمل قصته بعمومها، على ما عرف من عادة السلف في قولهم: نزلت في كذا، كما نبهنا عليه مراراً. وكأنه عليه السلام كان حرم ذلك الشراب، ثم أخبر الرواةُ بأن مثله فرضت فيه التحلة، فلا مانع من العود إلى شربه، والله أعلم.
الثاني: في الإكليل: استدل بها على أن من حرم على نفسه أمة أو طعاماً أو زوجة، لم تحرم عليه، وتلزمه كفارة يمين.
وروى البخاري عن ابن عباس قال: في الحرام يكفَر؛ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
وذهب ابن جرير إلى أنه كان مع التحريم يمين، ورد كون التحريم بمجرَّده يميناً، وفيه نظر، لأن اليمين في عرفهم أعم من القسم بالله، كما ذهب إليه ابن عباس والحسن وقتادة وابن جبير وغيرهم.
قال قتادة: إن النبي صلى الله علبيه وسلم حرمها، يعني جاريته، فكانت يميناً- رواه ابن جرير- وسيأتي ما يؤيده. وقوله تعالى: