فصل: تفسير الآية رقم (154):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (154):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} [154].
وقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} ينهى تعالى عباده المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتا، بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة، وتصرمت عنهم اللذات، وأضحوا كالجمادات، كما يتبادر من معنى الميت، ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم: الأحياء؛ لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، كما قال تعالى في آل عِمْرَان: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَان: 169- 171]، فقوله في هذه الآية: {عِندَ رَبِّهِمْ} يفسر المراد من حياتهم، أي: إنها لأرواحهم عنده تعالى، وقوله: {وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} أي: بحياتهم الزوجية بعد موتهم؛ إذ لم يظهر منها شيء في أبدانهم، وإن حفظ بعضها عن التلف، كما ترون النيام هموداً لا يتحركون، فلا فخر أعظم من ذلك في الدنيا، ولا عيش أرغد منه في الآخرة.
قال الحراليّ: فكأنه تعالى ينفي عن المجاهد منال المكروه من كل وجه، حتى في أن يقال عنه: ميت. فحماه من القول الذي هو عندهم من أشد غرض أنفسهم، لاعتلاق أنفسهم بجميل الذكر. انتهى.
ولذا قال الأصم: يعني لا تسموهم بالموتى، وقولوا لهم الشهداء الأحياء. وقال الراغب الأصفهانيّ: الحياة على أوجه، وكل واحد منها يقابله موت:
الأولى: هو القوة النامية التي بها الغذاء، والشهوة إليه، وذلك موجود في النبات والحيوان والْإِنْسَاْن، ولذلك يقال: نبات حيّ.
والثانية: في القوة الحاسة التي بها الحركة المكانية، وهي في الحيوان دون النبات.
والثالثة: القوة العاملة العاقلة، وهي في الْإِنْسَاْن دون الحيوان والنبات، وبها يتعلق التكليف، وقد يقال للعلم المستفاد والعمل الصالح: حياة، وعلى ذلك قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] وقيل: المحسن حي وإن كان في دار الأموات، والمسيء ميت وإن كان في دار الأحياء.
قال: ونعود إلى معنى الآية فنقول: قد أجمعوا على أنه لا يثبت لهم الحياة التي بها النموّ والغذاء، ولا الحياة التي بها الحس، فإن فقدانهما عن الميت محسوس ومعقول، فبعض المفسرين اعتبر الحياة المختصة بالْإِنْسَاْن. وقال: إن هذه الحياة مخصصة بالقوة المسماة تارة الروح وتارة النفس. قال: والموت المشاهد هو مفارقة هذه القوة- التي هي الروح- البدنَ. فمتى كان الْإِنْسَاْن محسناً كان منعّماً بروحه مسروراً لمكانه إلى يوم القيامة، وإن كان مسيئاً كان به معذباً، وإلى هذا ذهب الحكماء ودلوا عليه بالبراهين والأدلة، وهو مذهب أصحاب الحديث، ويدل على صحته الأخبار والآيات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم. بل إليه ذهب أصحاب الملل كلها.
ومما دل على صحته خَبَرَا «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» وما روي عن أمير المؤمنين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام». وروي أنه لما قتل من قتل من صناديد قريش- يوم بدر- وجمعوا في قَليب، أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم فخاطبهم بقوله: «هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فأني وجدت ما وعدني ربي حقاً» قيل: يا رسول الله! أتخاطب جيفاً؟ فقال: «ما أنتم بأسمع منهم، ولو قدروا لأجابوا». إلى غير ذلك من الأخبار. وقال تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} وهذا يعني به قبل يوم القيامة؛ لأنه قال في آخر الآية: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]. انتهى.
وفي البيضاوي وحواشيه: إن إثبات الحياة للشهداء في زمان بطلان الجسد، وفساد البنية، ونفي الشعور بها- دليل على أنّ حياتهم ليست الجسد، ولا من جنس حياة الحيوان، لأنها بصحة البنية، واعتدال المزاج وإنما هي أمر يدرك بالوحي لا بالعقل. انتهى.
وقد جاء الوحي ببيان حياتهم- كما أسلفنا- قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح: وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهذه حياة أرواحهم، ورزقها دارٌّ، وإلاّ فالأبدان قد تمزقت، وقد فسّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحياة: بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلّقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطَّلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي: شيء نشتهي؟ ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا...! ففعل بهم ذلك ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يُسألوا- قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى..! فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا. وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم: «إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلُق من ثمر الجنة».- وتعلُق بضم اللام، أي: تأكل العلقة- وهذا صريح في أكلها، وشربها، وحركتها، وانتقالها، وكلامها...! انتهى.
قال الطبيّ: قوله صلى الله عليه وسلم: «أرواحهم في جوف طير خضر» أي: يخلق لأرواحهم، بعدما ما فارقت أبدانهم، هياكل تلك الهيئة، تتعلق بها وتكون خلفاً عن أبدانهم، فيتوسلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللذات الحسية. وقال ابن القيم في كتاب لروح: إن الله سبحانه وتعالى جعل الدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكل دار أحكاماً تختص بها، وركب هذا الْإِنْسَاْن من بدن ونفس وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان، والأرواح تبع لها، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمرت النفوس خلافه.
وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبع لها، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا، فتألمت بألمها، والتذّت براحتها، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب- تبعث الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم، فالأبدان هنا ظاهرة، والأرواح خفية. والأبدان كالقبور لها، والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها، فتجري أحكام البرزخ على الأرواح، فترى إلى أبدانها نعيماً وعذاباً، كما جرى أحكام الدنيا على الأبدان فترى إلى أرواحها نعيماً وعذاباً، فأحطْ بهذا الموضع علماً واعرفه كما ينبغي، يَزُلْ عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج. وقد أرانا الله سبحانه، بلطفه، ورحمته وهدايته من ذلك، أنموذجاً في الدنيا من حال النائم، فإن ما ينعم به، أو يعذب في نومه، يجري على روحه أصلاً، والبدن تبع له، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيراً مشاهداً، فيرى النائم أنه في نومه ضُرِبَ، فيصبح وآثار الضرب في جسمه، ويرى أنه قد أكل وشرب، فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب فيه، ويذهب عنه الجوع والظمأ.
وأعجب من ذلك أنك ترى النائم، ثم يقوم من نومه، ويضرب ويبطش ويدافع، كأنه يقظان، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك؛ لأن الحكم، لما جرى على الروح، استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحسّ.
فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم، ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع، فهكذا في البرزخ، بل أعظم، فإن تجرد الروح هناك أكمل وأقوى، وهي متعلقة ببدنها، لم تنقطع عنه كل الانقطاع، فإذا كان يوم حشر الأجساد، وقيام الناس من قبورهم، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهراً بادياً. ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبين لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه، وضيقه وسعته، وضمه، وكونه حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة- مطابق للعقل، وأنه حق لا مرية فيه، وأن من أشكل عليه ذلك، فمن سوء فهمه، وقله علمه. انتهى.

.تفسير الآيات (155- 156):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [155- 156].
وقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ} خطاب لمن آمن مع النبي صلى الله عليه وسلم، خُصّوا به، وإن شمل من ماثلهم، لأنهم المباشرون للدعوة والجهاد، ومكافحة الفجّار، وكل قائم بحق، وداع إليه، معرض للابتلاء بما ذكر، كله أو بعضه. والتن وين للتقليل، أي: بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه، وإنما قَلّل ليؤذن أن كل بلا أصاب الْإِنْسَاْن، وإن جل، ففوقه ما يقل إليه، وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم، وإنما أخبر به قبل الوقوع، ليوطنوا عليه نفوسهم، ويزداد يقينهم، عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به، وليعلموا أنه شيء يسير، له عاقبة حميدة: {مِّنَ الْخَوفْ} أي: خوف العدو والإرجاف به: {وَالْجُوعِ} أي: الفقر، للشغل بالجهاد، أو فقد الزاد، إذا كنتم في سرية تجاهدون في سبيل الله، وقد كان يتفق لهم ذلك أياماً يتبلغون فيها بتمرة: {وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ} أي: لانقطاعهم بالجهاد عن عُمارة بساتينهم، أو لافتقادهم بعضها بسبب الهجرة، وترك شيء منه في البلدة المهاجر منها: {وَالأنفُسِ} بقتلها شهيدة في سبيل الله، أو ذهاب أطرافها فيه: {وَالثَّمَرَاتِ} أي: بأن لا نغلَّ الحدائق كعادتها، للغيبة عنها في سبيل الله، وفقد من يتعاهدها، وخصت بالذكر لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم أخص الناس بهذا الذكر لاسيما في وقت نزول هذه الآيات، وهو أول زمان الهجرة.
فكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده كما قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31]. قال الراغب: هذه الآية مشتملة على محن الدنيا كلها: أي: إذا نظر إلى عموم كل فرد مما ذكر فيها، وقطع النظر عن خصوص حال المخاطبين فيها، بما يدل عليه سابقه.
ثم بين تعالى ما للصابرين عنده بقوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} مكروه، اسم فاعل من أصابته شدة: لحقته. أي: كهذه البلايا: {قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ} أي: ملكاً وخلقاً فلا ينبغي أن نخاف غيره، لأنه غالب على الكل، أو نبالي بالجوع؛ لأن رزق العبد على سيده، فإن مُنِع وقتاً، فلابد أن يعود إليه. وأموالنا وأنفسنا وثمراتنا ملك له، فله أن يتصرف فيها بما يشاء: {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} في الدار الآخرة. فيحصل لنا عنده ما فوّته علينا؛ لأنه لا يضيع أجر المحسنين. فالمصاب يهون عليه خطبه، إذا تسلّى بقوله هذا، وتصور ما خلق له، وأنه رجع إلى ربه، وتذكر نعم الله عليه، ورأى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه. قال الراغب: وليس يريد بالقول اللفظ فقط، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح وتسخط القضاء ليس يغني شيئاً، وإنما يريد تصور ما خلق الْإِنْسَاْن لأجله والقصد له، والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول إليه، فأمر تعالى ببشارة من اكتساب العلوم الحقيقية وتصورها، وقصد هذا المقصد وطن نفسه عليه.
ثم قال: إن قيل: ولم قلت: إن الأمر بالصبر يقتضي العلم؟ قيل: الصبر في الحقيقة إنما يكون لمن عرف فضيلة مطلوبه.

.تفسير الآية رقم (157):

القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [157].
{أُولَئِكَ} إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت: {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ}
قال الراغب: الصلاة، وإن كانت في الأصل الدعاء، فهي من الله البركة على وجه، والمغفرة على وجه. وقال الرازيّ: الصلاة من الله هي الثناء والمدح والتعظيم. قال الراغب: وإنما قال: {صَلَوَاتٌ} على الجمع، تنبيهاً على كثرتها منه وأنها حاصلة في الدنيا توفيقاً وإرشاداً، وفي الآخرة ثواباً ومغفرة: {وَرَحْمَةٌ} عظيمة في الدنيا عوض مصيبتهم: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} أي: إلى الوفاء بحق الربوبية والعبودية، فلابد أن يوفي الله عليهم صلواته ورحمته.
تنبيه:
ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، عند المصائب، وفي أجر الصابرين، أحاديث كثيرة. منها ما في صحيح مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجُرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها، إلا أجَرَهُ الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها». قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: مَن خيرٌ من أبي سلمة: صاحب رسول الله؟ ثم عزم الله لي فقلتها. قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام أحمد عن الحسين بن علي عليهما السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها، وإن طال عهدها، فيحدث لذلك استرجاعاً، إلا جدد الله له عند ذلك، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها».
وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي سنان قال: دفنت ابناً لي، وإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة- يعني الخولانيّ- فأخرجني وقال: ألا أبشرك؟ قال قلت: بلى. قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: يا ملك الموت، قبضت ولد عبدي، قبضتَ قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم. قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع. قال: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد». ورواه الترمذي وقال: حسن غريب.
وروى البخاري: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيراً يصب منه». وروى الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حَزْن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه».
ورويا أيضاً عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به عنه من سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها».
والأحاديث في ذلك متوافرة معروفة في كتب السنة.
وللإمام عز الدين محمد بن عبد السلام، رحمه الله تعالى، كلام على فوائد المحن والرزايا يحسن إيراده هنا. قال عليه الرحمة: للمصائب والبلايا والمحن والرزايا فوائد تختلف باختلاف رتب الناس:
أحدها: معرفة عز الربوبية وقهرها.
والثاني: معرفة ذلة العبودية وكسرها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده، وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره وقضائه وتقديره لا مفر لهم منه ولا محيد لهم عنه.
والثالثة: الإخلاص لله تعالى؛ إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه، ولا معتمد في كشفها إلا عليه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 17]، {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65].
الرابعة: الإنابة إلى الله تعالى والإقبال عليه: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} [الزمر: 8].
الخامسة: التضرع والدعاء: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا} [يونس: 12]،: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 41] {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 63].
السادسة: الحلم ممن صدرت عنه المصيبة: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]، {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53]، وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد قيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى: الحلم والأناة». وتختلف مراتب الحلم باختلاف المصائب في صغرها وكبرها، فالحلم عند أعظم المصائب أفضل من كل حلم.
السابعة: العفو عن جانيها: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عِمْرَان: 134] {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه} [الشورى: 40]. والعفو عن أعظمها أفضل من كل عفو.
الثامنة: الصبر عليها، وهو موجب لمحبة الله تعالى وكثرة ثوابه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عِمْرَان: 146]: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر.
التاسعة: الفرح بها لأجل فوائدها: قال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده! إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء». وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: حبذا المكروهان الموت والفقر. وإنما فرحوا بها؛ إذ لا وقع لشدتها ومرارتها بالنسبة إلى ثمرتها وفائدتها، كما يفرح من عظمت أدواؤه بشرب الأدوية الحاسمة لها، مع تجرعه لمرارتها.
العاشرة: الشكر عليها لما تضمنته من فوائدها، كما يشكر المريض الطبيب القاطع لأطرافه، المانع من شهواته، لما يتوقع في ذلك من البرء والشفاء.
الحادية عشرة: تمحيصها للذنوب والخطايا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير} [الشورى: 30] وكما جاء في الحديث: «ولا يصيب المؤمن وصب ولا نصب حتى الهم يهمه والشوكة يشاكها إلا كفر به من سيئاته».
الثانية عشرة: رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم، فالناس معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء واشكروا الله تعالى على العافية، وإنما يرحم العشاق من عشق.
الثالثة عشرة: معرفة نعمة العافية والشكر عليها، فإن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فقدها.
الرابعة عشرة: ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها.
الخامسة عشرة: ما في طيّها من الفوائد الخفية: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19] {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11].
ولما أخذ الجبار سارة من إبراهيم كان في طيّ تلك البلية أن أخدمها هاجر. فولدت إسماعيل لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فكان من ذرية إسماعيل خاتم النبيين، فأعظم بذلك من خبر كان في طي تلك البلية، وقد قيل:
كَمْ نِعْمَةٍ مَطْوِيَّةٍ ** لَكَ بَيْنَ أَثْنَاْءِ الْمَصَاْئِبِ

وقال آخر:
رُبَّ مَبْغُوْضٍ كَرِيْهِ ** فِيْهِ لِلَّهِ لَطَائِفُ

السادسة عشرة: إن المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر والفخر والخيلاء والتكبر والتجبر، فإن نمرود، لو كان فقيراً سقيماً، فاقد السمع والبصر، لما حاجّ إبراهيم في ربه، لكن حمله بطرُ الملك على ذلك، وقد علل الله سبحانه وتعالى مُحاجّته بإتيانه الملك، ولو ابتلى فرعون بمثل ذلك لما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، {وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74]، {إِنَّ الْإِنْسَاْن لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6- 7] {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27] {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} [هود: 116]، {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 16]: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34].
والفقراء والضعفاء هم الأولياء وأتباع الأنبياء، ولهذه الفوائد الجليلة كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، نُسبوا إلى الجنون: {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]، والسحر: {قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52]، والكهانة: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور: 29]. واستهزئ بهم: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر: 11]. وسخر منهم: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 10]، {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} [الأنعام: 34]. وقيل لنا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين} [البقرة: 155]، {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [آل عِمْرَان: 186]. كالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وتغربوا عن أوطانهم، وكثر عناهم، وأشتدّ بلاهم، وتكاثر أعداهم، فغلبوا في بعض المواطن، وقتل منهم بأُحُد وبئر مَعُونَةَ من قتل.
وشُجّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وقتل أعزاؤه ومُثِّل بهم، فشمتت أعداؤه واغتم أولياؤه، وابتلوا يوم الخندق، وزلزلوا زلزالاً شديداً، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وكانوا في خوف دائم وعري لازم، وفقر مدقع، حتى شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع، ولم يشبع سيد الأولين والآخرين من خبز بُرّ في يوم مرتين، وأوذي بأنواع الأذية حتى قذفوا أحب أهله إليه.
ثم ابتلي في آخر الأمر بمسيلمة وطُلَيْحة والعَنْسي، ولقي هو وأصحابه في جيش العسرة ما لقوه، ومات ودرعه عند يهوديّ على آصع من شعير، ولم تزل الأنبياء والصالحون يتعهدون بالبلاء الوقت بالوقت يبتلي الرجل على قدر دينه، فإن كان صلباً في دينه شدد في بلائه، ولقد كان أحدهم يوضع المنشار على مفرقه فلا يصده ذلك عن دينه. وقال عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمن مثل الزرع، لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء» وقال عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح، تصرعها مرة وتعدلها مرة حتى تهيج» فحال الشدة والبلوى مقبلة بالعبد إلى الله عز وجل، وحال العافية والنعماء صارفة للعبد عن الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12]، فلأجل ذلك تقللوا في المأكل والمشارب والمناكح والمجالس والمراكب وغير ذلك؛ ليكونوا على حالةٍ توجب لهم الرجوع إلى الله تعالى عز وجل والإقبال عليه.
السابعة عشرة: الرضا الموجب لرضوان الله تعالى، فإن المصائب تنزل بالبَرِّ والفاجر، فمن سخطها فله السخط وخسران الدنيا والآخرة، ومن رضيها فله الرضا والرضا أفضل من الجنة وما فيها؛ لقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]، أي: من جنات عدن ومساكنها الطيبة.