فصل: سورة النازعات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.سورة النازعات:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} [1- 5].
{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} يعني الغزاة أو أيديهم، يقال للرامي: نزع في قوسه، إذا مدَّها بالوتر، و: نزع في قوسه فأغرق، و: أغرق النازع في القوس، إذا استوفى مدَّها، ويضرب مثلاً للغلوّ والإفراط. و{غَرْقاً} بمعنى إغراقاً كالسلام بمعنى التسليم، وهو الإغراق بحذف الزوائد. أو {النازعات} الكواكب. من: نزع الفرس سنناً، جرى طلقا، أي: الجاريات على السير المقدر والحدّ المعين، مجدَّةً في السير، مسرعة للغاية.
{وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} أي: الخيل لأنها تخرج من دار إلى دار، من قولهم: ثور ناشط، إذا خرج من بلد إلى بلد. أو هي السهام، يعني خروجها عن أيدي الرماة ونفوذها، وكل شيء حللت فقد نشطته، ومنه: نشاط الرجل وهو انبساطه وخفته، أو الكواكب تنشط من بُرْج على برج.
{وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً} أي: الخيل تسبح في عَدْوها فتسبق إلى العدّو، وهو مستعار من: سبح في الماء، لكنه ألحق بالحقيقة لشهرته. أو هي الكواكب تسبح في الفلك؛ لأن مرورها في الجو كالسبح، كما قال تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]، {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} أي: الخيل تسبق إلى العدوّ في حَوْمة الوَغَى، أو الكواكب السيارة تسبق غيرها في السير، لكونها أسرع حركة.
{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} أي: الخيل. أسند إليها أمر تدبير الظفر مجازاً لأنها سببه. أو المدبرات مثل المعقبات، أي: أنه يأتي في أدبار هذا الفعل- الذي هو نزع السهام وسبح الخيل وسبقها- الأمرُ الذي هو النصر، أو هي الكواكب تدبر أمراً نيط بها، كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات، مجازاً أيضاً. لأنها سببه، أو هي الملائكة تدبر ما نيط بها من أمر الله تعالى. وقد جوّز فيما قبلها أن تكون الملائكة أيضاً. واللفظ الكريم متسع لما ذكر من المعاني بلا تدافع. ولا إمكان للجزم بواحد؛ إذ لا قاطع، ولذا قال ابن جرير: الصواب عندي أن يقال: إنه تعالى أقسم بالنازعات غرقا، ولم يخصص نازعة دون نازعة. فكلُّ نازعة غرقاً، فداخلة في قسَمه مَلَكاً أو نجماً أو قوساً أو غير ذلك. وكذا عم القَسَم بجميع الناشطات من موضع إلى موضع، فكلُّ ناشط فداخل فيما أقسم به، إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها، بأن المعنى بالقسم من ذلك بعض دون بعض، وهكذا في البقية. وكلامه رحمه الله متجه للغاية؛ إذ فيه إبقاء اللفظ على شموله، وهو أعم فائدة وعدم التكلف للتخصيص بلا قاطع. وإن كانت القرائن واستعمال موادها في مثلها وشواهدها، مما قد يخصص الصيغ. إلا أن التنزيل الكريم يُتَوَقَّى في التسرع فيه ما لا يُتَوُقى في غيره.
لطائف:
قال أبو السعود: العطف مع اتحاد الكل، بتنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي كما في قوله:
إلى الملِكِ القَرْمِ وابن الهُمَامِ ** ولَيْث الكتَيبةِ في المُزْدَحَمْ

للإشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور حقيقٌ بأن يكون على حياله مُناطاً لاستحقاق موصوفه للإجلال والإعظام، بالإقسام به من غير انضمام الأوصاف الأخر إليه. والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة.
و{غَرْقاً} مصدر مؤكد بحذف الزوائد. وانتصاب {نَشْطاً} و{سَبْحاً} و{سَبْقاً} أيضاً على المصدرية، وأما {أَمْراً} فمفعول للمدبرات، وتنكيره للتهويل والتفخيم. والمقسم عليه محذوف، تعويلاً على إشارة ما قبله من المقسم به إليه ودلالة ما بعده من أحوال القيامة عليه، وهو: لنبعثنَّ، وبه تعلق قوله تعالى:

.تفسير الآيات (6- 10):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} [6- 10].
{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} أي: الواقعة التي ترجف عندها الأجرام الساكنة، أي: تتحرك حركة شديدة وتتزلزل زلزلة عظيمة، فالإسناد إليها مجازي لأنها سببه، أو التجوز في الطرف يجعل سبب الرجف راجفاً، أو الراجفة الأجرام الساكنة التي تشتد حركتها حينئذٍ كالأرض والجبال، فتسميتها راجفة باعتبار الأول. قال الشهاب: ولو فسرت الراجفة بالمحركة جاز، وكان حقيقة؛ لأن رجف يكون بمعنى حرّك وتحرّك.
{تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} أي: السماء وما فيها، تردفها فتنشق وتنتثر الكواكب، ولوقوع ذلك فيها بعد الرجفة الأولى جعلت رادفة لها، أو الرادفة النفخة الثانية لبعث يوم القيامة.
قال الحسن: هما النفختان: أما الأولى فتميت الأحياء، وأما الثانية فتحيي الموتى، ثم تلا الحسن:
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68].
{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} أي: شديدة الاضطراب، خوفاً من عظيم الهول النازل.
{أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} أي: أبصار أهلها ذليلة، مما قد علاها من الكآبة والحزن، من الخوف والرعب.
وقوله تعالى: {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} قال ابن جرير: أي: يقول هؤلاء المكذبون بالبعث من مشركي قريش- إذا قيل لهم: إنكم مبعوثون من بعد الموت-: أئنا لمردودون إلى حالنا الأولى قبل الممات، فراجعون أحياءً كما كنا؟ وقال أبو السعود: حكاية لما يقوله المنكرون للبعث المكذبون بالآيات الناطقة به، إثر بيان وقوعه بطريق التوكيد القسمي، وذكر مقدماته الهائلة وما يعرض عند وقوعها للقلوب والأبصار. أي: يقولون- إذا قيل لهم: إنكم تبعثون منكرين له متعجبين منه-: أئنا لمردودون بعد موتنا في الحافرة؟ أي: في الحالة الأولى. يعنون الحياة، من قولهم: رجع فلان في حافرته، أي: في طريقته التي جاء فيها فحفرها، أي: أثر فيها بمشيه. وتسميتها حافرة مع أنها محفورة كقوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21]، أي: منسوبة إلى الحفر والرضا، أو كقولهم: نهاره صائم، على تشبه القابل بالفاعل، أي: شبه القابل للفعل بمن يفعله، لتنزيله منزلته، فالاستعارة في الضمير المستتر، وإثبات الحافرية له تخييل.

.تفسير الآيات (11- 14):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} [11- 14].
{أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} أي: بالية. وقرئ: {ناخرة} من: نخر العظم، بلي، فصار يمرّ به الريح فيسمع له نخير.
وقوله تعالى: {قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} أي: ذات خسر، أو خاسرة أصحابها، أي: إن صحت فنحن إذاً خاسرون. قال ابن زيد: وأيُّ كرة أخسر منها؟ أحيوا ثم صاروا إلى النار، فكانت كرة سوء. وقال أبو السعود: هذا حكاية لكفر آخر لهم، متفرع على كفرهم السابق، ولعل توسيط {قَالُوا} بينهما للإيذان بأن صدور هذا الكفر عنهم ليس بطريق الاطراد والاستمرار، مثل كفرهم السابق المستمر صدوره عنها في كافة أوقاتهم، حسبما ينبئ عنه حكايته بصيغة المضارع، أي: قالوا ذلك بطريق الاستهزاء، مشيرين إلى ما أنكروه من الردة في الحافرة.
وقوله تعالى {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} تعليل لمقدر يقتضيه إنكارهم لإحياء العظام النخِرة التي عبَّروا عنها بالكرّة، فإن مداره لمَّا كان استصعابهم إياها، رد عليهم ذلك، فقيل: لا تستصعبوها فإنما هي صيحة واحدة، أي: حاصلة بصيحة واحدة وهي النفخة الثانية. وفيه تهوين لأمر الإعادة على وجه بليغ لطيف.
{فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} أي: على ظهر الأرض أحياء.
قال ابن جرير: والعرب تسمي الفَلاة ووجه الأرض ساهرة، قال: وأراهم سموا ذلك بها لأن فيه نوم الحيوان وسهرها، فوصف بصفة ما فيه. وقيل: لأن السراب يَجري فيها، من قولهم: عين ساهرة، للتي يجري ماؤها، وفي ضدها نائمة. والسهر على الأول بمعناه المعروف، والتجوز في الإسناد.
وفي الثاني مجاز على المجاز، لشهرة الأول التي ألحقته بالحقيقة. ثم ذكّر سبحانه الكفرة ما حلَّ بمن هو أشد منهم قوة لمَّا طغوا، ترهيباً وإنذاراً، بقوله تعالى:

.تفسير الآيات (15- 16):

القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [15- 16].
{هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} أي: خبره حين ناجاه ربُّه تعالى. قال أبو السعود: ومعنى {هَلْ أتَاكَ} إن اعتُبر هذا أولُ ما أتاه صلى الله عليه وسلم من حديثه عليه السلام، ترغيب له في استماع حديثه، كأنه قيل: هل أتاك حديثه؟ أنا أخبرك به. وإن اعتُبر إتيانه قبل هذا، وهو المتبادر من الإيجاز في الاقتصاص، حمله صلى الله عليه وسلم على أن يقرّ بأمر يعرفه قبل ذلك، كأنه قيل: أليس قد أتاك حديثه؟
وقال الشهاب: المقصود من الاستفهام التذكير لا التقرير، كما قيل. ولا مجافاة في المعنى على كلٍّ، كما لا يخفى.
{إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} إلى حين ناداه بالوادي المطهَّر المبارك، وهو وادٍ في أسفل جبل طور سَيناء من برِّية فلسطين.
{إِذْ} ظرف للحديث لا للإتيان، لاختلاف وقتيهما {طُوًى} اسم لذلك الوادي، ومصدر لنادى، أو المقدس، أي: ناداه ندائين، أو المقدس مرة بعد أخرى.

.تفسير الآيات (17- 19):

القول في تأويل قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [17- 19].
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أي: عَتا وتجاوز حدَّه في العدوانِ على بني إسرائيل، وانتحالِ صفات الربوبية، ونسبتها إلى نفسه.
{فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أن تَزَكَّى} أي: تتزكى وتتطهر من دنس الشرك والطغيان. و{إِلَى} متعلقة بمبتدأ محذوف. أي: هل لك سبيل أو رغبة إلى أن تتزكى؟
وقال أبو البقاء: لما كان المعنى: أدعوك، جيء بـ: {إِلَى} فجعل الظرف متعلقاً بمعنى الكلام، أو بمقدر يدل عليه.
{وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} أي: أرشدك إلى علم يُرضيه عنك، وذلك الدين القيم {فَتَخْشَى} أي: عقابه من سلب الملك وإذاقة البأس مكان النعم، وذلك بأداء ما ألزمك من فرائضه واجتناب ما نهاك عنه من معاصيه. وفيه إشارة إلى أن الخشية مسبِّبة عن العلم، كما في آية: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28] أي: العلماء به.
قال الزمخشريّ:
ذكر الخشية لأنها ملاك الأمر، مَن خشي اللهَ أتى منه كل خير، ومن أمِن اجترَأ على كلِّ شر. وبدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض، كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلام الرفيق؛ ليستدعيه بالتلطف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوِّه. كما أمر بذلك في قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} [طه: 44]، انتهى.

.تفسير الآيات (20- 26):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى} [20- 26].
{فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} أي: الدلالة الكبرى على أنه لله رسولٌ أرسله إليه. والفاء فصيحة تفصح عن جُمَل قد طويت، تعويلاً على تفصيلها في السور الأخرى، أي: فذهب وبلّغ ورجع وتحدَّى فأراه الآية الكبرى، وهو على ما قاله مجاهد: عصاهُ ويَدهُ، أي: عَصاه إذ تحولت ثعباناً مبيناً، ويده إذ أخرجها بيضاء للناظرين، وإفرادهما لأنهما كالآية الواحدة في الدلالة، أو هي العصا لأنها كانت المقدمة والأصل. والبقية كالتبع. وقيل: وكونها كبرى باعتبار معجزات من قبله من الرسل، أو هو للزيادة المطلقة.
{فَكَذَّبَ وَعَصَى} أي: فكذب فرعون موسى فيما أتاه من الآيات المعجزة، ودعاها سحراً، وعصاه فيما أمره به من طاعة ربِّه وخشيته إياه.
{ثُمَّ أَدْبَرَ} أي: أعرض عما هدي إليه، أو انصرف عن المجلس كِبراً {يَسْعَى} أي: يجدّ في معارضة الآية بالمكايد الشيطانية والحيَل النفسانية، أو أدبر بعد ما رأى الثعبان، مرعوباً مسرعاً في مشيه.
{فَحَشَرَ} أي: جمع السحرة، أو قومه وأتباعه {فَنَادَى} أي: في المجمع بنفسه أو بمنادٍ.
{فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} أي: على كلِّ من يلي أمركم. وفي التنوير: أي: أنا ربكم وربُّ أصنامكم الأعلى فلا تتركوا عبادتها.
قال القاضي: وقد كان الأليق به، بعد ظهور خزيه عند انقلاب العصا حيَّةً، أن لا يقول هذا القول؛ لأن عند ظهور الذلة والعجز كيف يليق أن يقول {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}؟ فدلت هذه الآية على أنه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول. انتهى.
وهذا على أنه أراد بالربِّ الخالق والموجد، والظاهر أن مراده ذو السلطان الأعلى والنفوذ الأقوى، وأنه الذي يستأهل الطاعة دون غيره. ولا يخفى ما فيه من جحود قدرة الله تعالى التي هي فوق قدرته، والكفر بآية موسى والصد عن دعوته، ولذا أُخذ أشد الأخذ، فإنه لم يزل في عتوه حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر، عند خروجهم من مصر، فأغرقه الله تعالى في البحر، وهو معنى قوله تعالى {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} أي: عذبه عذابهما، أي: أن أخذه لم يكن مقصوراً على الإغراق وحده، بل نكّل به وعذبه عذاب يوم القيامة. و{نَكَالَ} مفعول مطلق أخذ، بتأويل في الأول أو في الثاني، والإضافة من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة. وقيل: الآخرة هي قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، والأولى هي تكذيبه موسى حين أراه الآية.
قال القفال: وهذا كأنه هو الأظهر؛ لأنه تعالى قال: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} فذكر المعصيتين ثم قال: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} فظهر أن المراد أنه عاقبه على هذين الأمرين. انتهى.
وما ذكره القفال كان وقع في قلبي قبل أن أراه. وأُراني في إيثار له.
ثم ختم تعالى القصة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى} أي: في أخذه وما أحلَّ به من العذاب والخزي، عظة ومعتبراً لمن يخاف الله ويخشى عقابه، ويعلم أن هذه سنته في كل من يقاوم الحق ويحاربه، فإن نبأ الأولين عبرة للآخرين.