فصل: تفسير الآيات (18- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (18- 21):

القول في تأويل قوله تعالى: {مِنْ أي شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [18- 21].
وقوله تعالى: {مِنْ أي شَيْءٍ خَلَقَهُ} شروع في بيان إفراطه في الكفر، بتفصيل ما أفاض عليه من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره من فنون النِّعم الموجب لقضاء حقها بالشكر والطاعة، مع إخلاله بذلك.
وفي الاستفهام عن مبدأ خلقه، ثم بيانه بقوله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ} تحقير له، أي: من أي: شيء حقير مَهين خلقه؟ من نطفة مذرة خلقه {فَقَدَّرَهُ} أي: فهيَّأه لِما يصلح له ويليق به من الأعضاء والأشكال، أو فقدره أطواراً إلى أن تمَّ خلقه.
{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} أي: سهَّله، وهو مَخرجه من رَحِم أمّه بعد اجتنانه وتعاصيه. أو سبيل الإسلام.
قال ابن زيد: هداه للإسلام الذي يسَّره له وأعلمه به، أي: بما غرز في فطرته من الخير، وأودع في غريزته من وجدان معرفة الخالق. وقال مجاهد: يعني سبيل الشقاء والسعادة وهو كقوله:
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الْإِنْسَاْن: 3]، واختاره أبو مسلم قال: المراد من هذه الآية هو المراد من قوله:
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، فهو يتناول التمييز بين كل خير وشر يتعلق بالدنيا، وبين كل خير وشر يتعلق بالدِّين، أي: جعلناه متمكناً من سلوك سبيل الخير والشر. والتيسير يدخل فيه الإقدار والتعريف والعقل وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب، نقله الرازي.
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي: جعله ذا قبر يوارى فيه، تكرمةً له، ولم يجعله مطروحاً على وجه الأرض للطير والسباع، كالحيوان. قال الفراء: ولم يقل: فقبره؛ لأن القابر هو الدافن بيده، والمقبر هو الله تعالى يقال: قبر الميت، إذا دفنه، و: أقبر الميت، إذا أمر غيرهُ بأن يجعله في القبر.
وقال ابن جرير: القابر هو الدافن الميت بيده، كما قال الأعشى:
ولو أسندت ميتاً إلى نحْرِها ** عاشَ ولم ينقل إلى قابِرِ

.تفسير الآيات (22- 32):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْبًا وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [22- 32].
{ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} أي: بعثه بعد مماته وأحياه، وإنما قال: {إِذَا شَاء} لأن وقت البعث غير معلوم لأحد، فهو مَوكُول إلى مشيئته تعالى، متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم.
قال الشهاب: وتخصيص النشور به دون الإماتة والإقبار، لأن وقتهما معين إجمالاً، على ما هو المعهود في الأعمار الطبيعية.
{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} قال ابن جرير: أي: ليس الأمر كما يقول الْإِنْسَاْن الكافر، من أنه قد أدّى حقَّ الله عليه في نفسه وماله، فإنه لمّا يؤد ما فرَض عليه من الفرائض ربُّهُ.
وقال القاشاني: لمَّا بين أن القرآن تذكرة للمتذكرين تعجَّب من كفران الْإِنْسَاْن واحتجابه حتى يحتاج إلى التذكير. وعدد النِّعم الظاهرة التي يمكن بها الاستدلال على المنعم بالحس، من مبادئ خلقته، وأحواله في نفسه، وما هو خارج عنه مما لا يمكن حياته إلا به. وقرر أنه مع اجتماع الدليلين، أي: النظر في هذه الأحوال الموجب لمعرفة الموجد المنعم والقيام بشكره، وسماع الوعظ والتذكير بنزول القرآن، لما يقض في الزمان المتطاول ما أمره الله به من شكر نعمته، باستعمالها في إخراج كماله إلى الفعل، والتوصل بها إلى المنعم، بل احتجب بها وبنفسه عنه. انتهى.
ولما فصل تعالى النعم المتعلقة بحدوثه، تأثرها بتعداد النعم المتعلقة ببقائه.
فقال سبحانه: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} أي: فإن لم يشهد خلق ذاته، وعمي عن الآيات في نفسه، وأصر على جحوده توحيدَ ربِّه، فلينظر إلى طعامه ومأكله الذي هو أقرب الأشياء لديه. ماذا صنعنا في إحدائه وتهيئته لأنْ يكون غذاءً صالحاً.
وقوله تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء} أي: من المُزن {صَبّاً} أي: شديداً ظاهراً. وقد قرئ بكسر همزة {إنا} على الاستئناف المبيِّن لكيفية حدوث الطعام، وبالفتح على البدلية، بدل اشتمال، بمعنى سببية الأول للثاني أو تقوم الثاني بالأول. فهو من اشتمال الثاني عليه أو بدل كلّ، ادّعاءً.
{ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً} أي: صدَعْناها بالنبات، أو شققنا أجزاءها بعد الريّ ليتخلل الهواء والضباء في جوفها.
{فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً} يعني حَبَّ الزرع، وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما من الحبوب.
{وَعِنَباً وَقَضْباً} وهو كل ما أكل من النبات رطباً، كالقثاء والخيار ونحوهما. سمي قضباً لأنه يقضب، أي: يقطع مرة بعد أخرى.
{وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ} جمع حديقة وهي البساتين ذوات الأشجار المثمرة، عليها حوائط تحيط بها {غُلْباً} جمع غَلباء، أي: ضخمة عظيمة، وعِظمها إما لاتساعها البالغ حدَّ البصر، أو لغلظ أشجارها وتكاثفها والتفافها.
{وَفَاكِهَةً} أي: ما يؤكل من ثمار الأشجار {وَأَبّاً} وهو المَرعى الذي تأكله البهائم من العُشب والنبات.
{مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} أي: تمتيعاً. مفعول له لأنبتنا، أو مصدر حذف فعله وجُرِدَ من الزوائد، أي: متعكم بذلك متاعاً، وجعلكم تنتفعون به أنتم وأنعامكم.

.تفسير الآيات (33- 42):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [33- 42].
{فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} يعني الداهية الشديدة، وهي صيحة القيامة وصوت زلزالها الهائل المصمّ للآذان. يقال صخّه يصخه، ضرب أذنه فأصمَّها، وصاح بهم صيحة تصخّ الآذان، وقد صخ صخيخاً، وهو صوته إذا قرع. وصخ لحديثه إذا أصاخ له بمعنى: استمع، كما في الأساس، ويجوز على الأخير أن تجعل بمعنى المستمعة، مجازاً في الإسناد. وجواب إذا محذوف يدل عليه ما بعده، كيشتغل كلٌّ بنفسه، أو افترق الناس: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِه} أي: زوجته.
{وَبَنِيهِ} أي: لاشتغاله بنفسه، وعلمه بأنهم لا ينفعونه. قال الشهاب: يعني أن الإقبال عليهم إما للنفع أو للانتفاع، وكلاهما منتفٍ لاشتغاله بنفسه عن نفس غيره، وعلمه بعدم نفعه. وتأخير الأحبّ فالأحب للمبالغة، فهو للترقي، كذا قيل.
قال الشهاب: والظاهر أنه لم يقصد ذلك لاختلاف الناس والطباع فيه.
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أي: يكفيه في الاهتمام به، كأنه ذلك الهم الذي نزل به قد ملأ صدره فلم يبق فيه متسع لهمٍّ آخر، فصار شبيهاً بالغني.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} أي: مضيئة.
{ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} أي: مسرورة بنيل كرامة الله والنعيم المتزايد، وهي وجوه المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقدَّموا من الخير والعمل الصالح ما ملؤوا به صحفَهم.
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} أي: غبار وكدورة.
{تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} أي: تغشاها ظلمة.
{أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} أي: الفسَقة الذين لا يبالون ما أتوا به من معاصي الله، وركبوا من محارمه، فجوزوا بسوء أعمالهم وخبث نياتهم.

.سورة التكوير:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 9):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [1- 9].
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} أي: أزيلت من مكانها، وُألقيت عن فلكها، ومُحي ضوؤها.
{وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} أي: تنثرت وانقضّت.
{وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} أي: رفعت عن وجه الأرض ونُسفت، من أثر الرجفة والزلزال الذي قطع أوصالها.
{وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} أي: تُركت مهملة لا راعي لها ولا طالب. والعشار جمع عُشَرَاءَ وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر، وخصها لأنها أنفس أموالهم، أي: فإذا هذه الحوامل التي يتنافس فيها أهلها أهملت، فتركت من شدة الهول النازل بهم، فكيف بغيرها؟!
{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} أي: جمعت من كل جانب واختلطت، لِما دهم أوكارها ومكامِنها من الزلزال والتخريب، فتخرج هائمة مذعورة من أثر زلزال الأرض وتقطع أوصالها.
{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أي: ملئت بتفجير بعضها إلى بعض، حتى تعود بحراً واحداً. من: سجر التنور، إذا ملأه بالحطب. كقوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} وقيل: المعنى تأججت ناراً، قال القفال: يحتمل أن تكون جهنم في قعور البحار، فهي الآن غير مسجورة لقوام الدنيا، فإذا انتهت مدة الدنيا، أوصل الله تأثير تلك النيران إلى البحار، فصارت بالكلية مسجورة بسبب ذلك. وأوضحه الإمام بقوله: وقد يكون تسجيرها إضرامها ناراً. فإن ما في بطن الأرض من النار يظهر إذ ذاك بتشققها وتمزق طبقاتها العليا، أما الماء فيذهب عند ذلك بخاراً ولا يبقى في البحار إلا النار. أما كون باطن الأرض يحتوي على نار فقد ورد به بعض الأخبار. ورد أن «البحر غطاء جهنم»، وإن لم يعرف في صحيحها. ولكن البحث العلمي أثبت ذلك. ويشهد عليه غليان البراكين وهي جبال النار. انتهى.
قال الرازي: واعلم أن هذه العلامات الستة يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا، ويمكن وقوعها أيضاً بعد قيام القيامة، وليس في اللفظ ما يدل على أحد الاحتمالين، أما الستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة. انتهى.
{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أي: قرنت الأرواح بأجسادها، أو ضمت إلى أشكالها في الخير والشر، وصُنِّفَت أصنافاً ليحشر كل إلى من يجانسه من السعداء والأشقياء.
{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} يعني البنات التي كانت طوائف العرب يقتلونهن، قال السيد المرتضى في أماليه: الموءودة هي المقتولة صغيرة، وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات، بأن يدفنوهنَّ أحياء، وهو قوله تعالى {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل: 59]، وقوله تعالى {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 140]، ويقال أنهم كانوا يفعلون ذلك لأمرين: أحدهما أنهم كانوا يقتلونهن خشية الإملاق. قال الله تعالى {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ} [الأنعام: 151]. قال المرتضى: وجدت أبا علي الجبائيّ وغيرَه يقول: إنما قيل لها: موءودة؛ لأنها ثقلت بالتراب الذي طرح عليها حتى ماتت، وفي هذا بعض النظر؛ لأنهم يقولون من الموءودة وَأَدَ يَئِدُ وَأْداً، والفاعل وائِد، والفاعلة وائِدة، ومن الثقل يقولون: آدَني الشيء يؤودني، إذا أثقلني، أَوْداً. انتهى.
وإنما قال: بعض النظر؛ لأن القلب معهود في اللغة، فلا يبعد أن يكون وأد مقلوباً من آد. وقال المرتضى: فإن سأل سائل: كيف يصح أن يسأل من لا ذنب له ولا عقل، فأي فائدة في سؤالها عن ذلك، وما وجه الحكمة فيه؟ والجواب من وجهين:
أحدهما: أن يكون المراد أن قاتلها طولب بالحجة في قتلها، وسئل عن قتله لها بأي ذنب كان، على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجة. فالقتَلة هاهنا هم المسؤولون على الحقيقة، لا المقتولة، وإنما المقتولة مسؤول عنها. ويجري هذا مجرى قولهم: سألت حقي، أي: طالبت به ومثله، على تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34] أي: مطالَباً به مسؤولاً عنه.
والوجه الآخر أن يكون السؤال توجه إليها على الحقيقة، على سبيل التوبيخ له، والتقريع له، والتنبيه له، على أنه لا حجة له في قتلها. ويجري هذا مجرى قوله تعالى لعيسى عليه السلام:
{أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ} [المائدة: 116] على طريق التوبيخ لقومه، وإقامة الحجة عليهم. فإن قيل على هذا الوجه: كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم؟ فالجواب أن في الناس من زعم أن الغرض بهذا القول، إذا كان تبكيت الفاعل وتهجينه وإدخال الغم عليه في ذلك الوقت على سبيل العقاب، لم يمتنع أن يقع، وإن لم يكن من الموءودة فهم له؛ لأن الخطاب، وإن علق عليها وتوجه إليها، والغرض في الحقيقة به غيرها، قالوا: وهذا يجري مجرى من ضرب ظالم طفلاً من ولده فأقبل على ولده يقول له: ُضربتَ ما ذنبك وبأي شيء استحلَّ هذا منك؟ فغرضه تبكيت الظالم لا خطاب الطفل. والأولى أن يقال في هذا: أن الأطفال، وإن كانوا من جهة العقول لا يجب في وصولهم إلى الأغراض المستحقة، أن يكونوا كاملي العقول، كما يجب مثل ذلك في الوصول إلى الثواب، فإن كان الخير متظاهراً والأمَّة متفقة على أنهم في الآخرة وعند دخولهم الجنان يكونون على أكمل الهيئات وأفضل الأحوال، وأن عقولهم تكون كاملة، فعلى هذا يحسن توجه الخطاب إلى الموءودة؛ لأنها تكون في تلك الحال ممن تفهم الخطاب وتعقله. وإن كان الغرض منه التبكيت للقاتل وإقامة الحجة عليه. انتهى.
قال الشهاب: والتبكيت قرره الطيبيّ، بأن المجنيّ عليه إذا سئل بمحضر الجاني ونسبت له الجناية دون الجاني، بعث ذلك الجاني على التفكّر في حاله وحال المجني عليه. فيرى براءة ساحته وأنه هو المستحق للعقاب والعذاب. وهذا استدراج على طريق التعريض، وهو أبلغ من التصريح. والمراد بالاستدراج سلوك طريق توصيل إلى المطلوب بسؤال غير المذنب ونسبة الذنب له، حتى يبين من صدر عنه ذلك، كما سئل عيسى دون الكفَرة، وهو فنٌّ من البديع بديع. انتهى.
وقال الزمخشريّ: وإنما قيل: {قُتِلَتْ} بناءً على أن الكلام إخبار عنها.
تنبيه:
قال السيوطي في الإكليل: في الآية تعظيم شأن الوأد، وهو دفن الأولاد أحياءً. وأخرج مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال: «الوأد الخفيّ. وهي: إذا الموءودة سئلت». انتهى.
وقد روى عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب في هذه الآية قال: جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني وأدت بنات لي في الجاهلية. قال: «أعتق عن كل واحدة منهن رقبة». قال: يا رسول الله! إني صاحب إبل. قال: «فانحر عن كل واحدة منهن بَدنَةَ».
وروى الدارمي في أوائل مسنده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان، فكنا نقتل الأولاد، وكانت عندي ابنة لي، فلما أجابت، وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها، فدعوتها يوماً فاتبعتني، فمررت حتى أتيتُ بئراً من أهلي غير بعيد فأخذت بيدها فرديتها في البئر، وكان آخر عهدي بها أن تقول: يا أبتاهُ يا أبتاهُ «فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكفَ دمعُ عينيه». فقال له رجل من جلساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحزنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفَّ فإنه يسأل عمَّا أهمه». ثم قال له: «أعد عليَّ حديثك». فأعاده. «فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكف الدمع من عينيه على لحيته». ثم قال له: «إن الله قد وضع عن الجاهلية ما عملوا، فاستأنف عملك».
وكان للعرب تفنن في الوأد، فمنهم من إذا صارت ابنته سداسية يقول لأمها: طيّبيها وزيِّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها- وقد حفر لها بئراً في الصحراء- فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها ويُهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض.
ومنهم من كان إذا قربت امرأته من الوضع، حفر حفرة لتتمخّض على رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابناً حبسته. وقد اشتهر صعصعة بن ناجية بن عقال- جد الفرزدق بن غالب- بأنه كان ممن فدى الموءودات في الجاهلية، ونهى عن قتلهن، قيل: إنه أحيا ألف موءودة، وقيل دون ذلك، وقد افتخر الفرزدق بهذا في قوله:
ومنا الذي منع الوائداتِ ** وأحيا الوئيدَ فَلَمْ يُوأَدِ

وفي قوله أيضاً:
أنا ابنُ عِقالٍ وابن ليلى وغالبِ ** وفَكَّاكُ أغلال الأسير المكفَّرِ

وكان لنا شيخانِ ذو القبر منهما ** وشيخٌ أجار الناسَ من كل مَقْبَرِ

على حينِ لا تُحْيَى البناتُ وإذ همُ ** عُكُوف على الأصنام حولَ المدوَّرِ

أنا ابن الذي ردّ المنيةَ فضلُهُ ** وما حسبٌ دافعتُ عنهُ بِمُعْوِرِ

أَبي أَحَدُ الغَيْثَيْنَ صعصعةُ الذي ** متى تُخْلِفِ الجوزاءُ والنجمُ يُمْطِرِ

أجارَ بناتِ الوائدين ومن يُجِرْ ** على القبر، يعلمْ أنه غير مُخْفِرِ

وفارق ليلٍ من نساء أتت أبى** تُعالج ريحاً ليلها غير مُقْمِرِ

فقالت أجر لي ما ولدتُ فإنني** أتيتك من هَزْلى الحمولة مُقْتِرِ

رأى الأرض منها راحة فرمى بها ** إلى خُدَدٍ منها وفي شر مَحْفَرِ

فقال لها نامي فأنت بذمتي ** لبنتك جارٌ من أبيها القَنَوَّرِ

وروى أبو عبيدة: أن صعصعة هذا وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم. قال: وكان صعصعة منع الوأد في الجاهلية، فلم يدع تميماً تئدُ وهو يقدر على ذلك، فجاء الإسلام وقد فدى في بعض الروايات أربعمائة موءودة، وفي أخرى ثلاثمائة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي! أوصني. فقال: «أوصيك بأمك وأبيك، وأختك وأخيك، وأدانيك أدانيك»، فقال: زدني. فقال عليه الصلاة والسلام: «احفظ ما بين لحييك ورجليك». ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ما من شيء بلغني عنك فعلته»؟ فقال: يا رسول الله! رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الصواب، غير أني علمت أنهم ليسوا عليه، فرأيتهم يئدون بناتهم، فعرفت أن ربهم عزَّ وجل لم يأمرهم بذلك فلم أتركهم، ففديت ما قدرت عليه.
ويقال: إنه اجتمع جرير والفرزدق يوماً عند سليمان بن عبد الملك فافتخرا. فقال الفرزدق: أنا ابن محيي الموتى، فقال له سليمان: أنت ابن محيي الموتى؟ فقال: إن جدي أحيا الموءودة، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32]، وقد أحيا جدي اثنتين وتسعين موءودة، فتبسم سليمان، وقال: إنك مع شعرك لفقيه. نقله المرتضى في أماليه وبالجملة، فكان الوأد عادة من أشنع العوائد في الجاهلية، مما يدل على نهاية القسوة وتمام الجفاء والغلظة.
قال الإمام: انظر إلى هذه القسوة وغلظ القلب وقتل البنات البريئات بغير ذنب سوى خوف الفقر والعار، كيف استبدلت بالرحمة والرأفة بعد أن خالط الإسلام قلوب العرب؟ فما أعظم نعمة الإسلام على الْإِنْسَاْنية بأسرها بمحوه هذه العادة القبيحة. انتهى.
ومن أثر نعمته أن صار أدباء الصدر الأول يَصوغون في مدحهن ما هو أبهى من عقود الجُمان، فمن ذلك قول معن بن أوس:
رأيتُ رجالاً يكرهون بناتِهِمْ ** وفيهن لا نُكْذَبْ نساء صوالحُ

وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ** خوادِمُ لا يَمْلَلْنَهُ ونوائحُ

وقال العلويّ الجمانيّ في صديق له ولدت له بنت فسخطها، شعراً:
قالوا له ماذا رُزقْتَا ** فأصاخ ثُمَّتَ قال بنتا

وأجلّ من ولد النساء ** أبو البنات فلِمْ جزعتا

إن الذين تودّ من ** بين الخلائق ما استطعتا

نالوا بفضل البنتِ ما ** كَبَتُوا به الأعداء كبتاً

وحكي أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ابنته، فقال: من هذه يا معاوية؟ فقال: هذه تفاحة القلب وريحانة العين وشمامة الأنف. فقال: أَمِطْها عنك. قال: وَلِمَ؟ قال: لأنهن يلدن الأعداء، ويقرّبنَ البعداء، ويُورِثْنَ الشحناء، ويُثْرنَ البغضاءَ. قال: لا تقل ذلك يا عمرو! فوالله ما مَرّض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الزمان، ولا أذهب جيش الأحزان مثلهن، وإنك لواجدٌ خالاً قد نفعه بنو أخته، وأباً قد رفعه نسل بنيه. فقال: يا معاوية! دخلت عليك وما على الأرض شيء أبغض إليّ منهن، وإني لأخرج من عندك وما عليها شيء أحب إلىّ منهن.
وفي رقعة للصاحب بالتهنئة بالبنت: أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء وأم الأبناء وجالبة الأصهار والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون ونجباء يتلاحقون:
فلو كان النساء كمن وَجَدْنا ** لَفُضِّلَت النساءُ على الرجالِ

وما التأنيثُ لاسمِ الشمس عَيْبٌ ** وما التذكير فَخْرٌ للهلالِ

والله تعالى يعرفك البركة في مطلعها والسعادة بموقعها، فادّرع اغتباطاً واستأنف نشاطاً، فالدنيا مؤنثة والرجال يخدمونها والذكور يعبدونها، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان وملاك الحيوان، والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام ولا عرف الأنام، والجنة مؤنثة وبها وُعِد المتقون وفيها ينعم المرسلون، فهنيئاً لك هنيئاً بما أوتيتَ، وأوزعك الله شكرَ ما أعطيت.
ونسختُ رقعة لأبى الفرج الببغاء: اتصل بي خبر المولودة المسعودة كرَّم الله عرقها، وأنبتها نباتاً حسناً، وما كان من تغيُّرك عند اتصال الخبر وإنكارك ما اختاره الله لك في سابق القدر، وقد علمت أنهن أقرب من القلوب، وأن الله بدأ بهن في الترتيب فقال عز من قائل:
{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ} [الشورى: 49]، وما سماه الله تعالى هبة فهو بالشكر أولى وبحسن التقبُّل أحْرَى، فهنأك الله بورود الكريمة عليك، وثمرتها إعداد النسل الطيب لديك.
والنوادر في هذا لا تحصى، وكلها من بركة الإسلام وفضله.
وقوله تعالى: