فصل: تفسير الآيات (6- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (6- 13):

القول في تأويل قوله تعالى: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [6- 13].
{سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى} أي: سنجعلك قارئاً، بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه، والمعنى: نجعلك قارئاً للقرآن فلا تنساهُ.
قال الزمخشري: بشّره الله بإعطاء آية بيِّنة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي، وهو أميٌّ لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه.
تنبيهات:
الأول: قال الرازي: هذه آية تدل على المعجزة من وجهين:
أحدهما: إنه كان رجلاً أميّاً، فحفظه لهذا الكتاب المطول عن غير دراسة ولا تكرار ولا كتبة، خارق للعادة، فيكون معجزاً.
وثانيهما: أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة. فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة سيقع في المستقبل، وقد وقع، فكان هذا إخبار عن الغيب، فيكون معجزاً.
الثاني: قيل: لا تنسى نهي، والألف للإطلاق في الفاصلة وهو جائز مثل {السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67]، والمعنى لا تغفل قراءته وتكريره فتنساه. فالنهي عنه مجاز عن ترك أسبابه الاختيارية.
قال الرازي: والقول المشهور أن هذا خبر، والمعنى: سنقرئك إلى أن تصير بحيث لا تنسى وتأمن النسيان، كقولك: سأكسوك فلا تعرى، أي: فتأمن العري، قال: واحتج أصحاب هذا القول على ضعف القول الأول بأن ذلك القول لا يتم إلا عند التزام مجازات في هذه الآية:
منها: أن النسيان لا يقدر عليه إلا الله تعالى فلا يصح ورود الأمر والنهي به، فلابد وأن يحمل ذلك على المواظبة على الأشياء التي تنافي النسيان مثل الدراسة وكثرة التذكر، وكل ذلك عدول عن ظاهر اللفظ.
ومنها: أن نجعل الألف مزيدة للفاصلة، وهو أيضاً خلاف الأصل.
ومنها: أنا إذا جعلناه خبراً كان معنى الآية بشارة الله إياه بأني أجعلك بحيث لا تنساه. وإذا جعلناه نهياً كان معناه أن الله أمره بأن يواظب على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة. وهذا ليس في البشارة وتعظيم حاله مثل الأول. ولأنه على خلاف قوله:
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] انتهى.
الثالث: قال البرهان الشافعي في كتاب تفضيل السلف على الخلف: إن بعضهم ذكر أن هذه الآية ناسخة لآية: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} وتحقيق معنى النسخ هنا في غاية الإشكال، لأن قوله: {وَلَا تَعْجَلْ} نهي عن العجلة، وقوله: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى} ليس بأمر بها ليكون ناسخاً للنهي عنها، بل هو خبر عن بقاء الحفظ بعد إقرائه.
وفحواه مؤكد لمعنى الخطاب الآخر؛ لأن تأويله: إنا نحفّظك تحفيظاً لا تخاف معه النسيان، فلا حاجة لك إلى أن تعجل بالقرآن وتحرك به لسانك. ولكنهم سموه نسخاً، لغة لا حقيقةً، على معنى تبدل الحال عنهُ، فإنه ظهر له الأمن عن النسيان بعد خوفه أن ينساه لما كان يحرك به لسانه. انتهى.
وقوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ} استثناء مفرَّغ من أعم المفاعيل، أي: لا تنسى مما تقرؤه شيئاً من الأشياء، إلا ما شاء الله أن تنساه، مما تقتضيه الجبلة البشرية أحياناً.
قال الزجاج: إلا ما شاء الله أن ينسى فإنه ينسى، ثم يتذكر بعد ذلك ولا ينسى نسياناً كلياً دائماً؛ وذلك لأن ما بالجبلة لا يتغير، وإلا لكان الْإِنْسَاْن عالماً آخر.
وقد روى البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله فلاناً، لقد أذكرني كذا وكذا آية، كنت أسقطتهن». ويروى: «أنسيتهن».
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني». رواه الشيخان عن ابن مسعود.
وقيل: الاستثناء مجازي بمعنى القلة المراد بها النفي، وذلك أن المخرج في الاستثناء أقل من الباقي، ولأن: ماشاء الله، في العرف يستعمل للمجهول، فكأنه قيل: إلا أمراً نادراً لا يعلم، فإذا دل مثله على القلة عرفاً، والقلة قد يراد بها النفي في نحو: قلّ من يقول كذا مجازاً، أريد بالاستثناء هنا ذلك. وهذا ما أشار إليه الزمخشري بقوله: أو قال: إلا ما شاء الله، والغرض نفي النسيان رأساً، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سهمي فيما أملك إلا فيما شاء الله، ولا يقصد استثناء شيء، وهو من استعمال القلة في معنى النفي.
وقال الفراء- فيما نقله الرازي- إنه تعالى ما شاء أن يُنسي محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً، إلا المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسياً لقدر عليه، كما قال: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86]، ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك. وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرّفه قدرة ربه حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله وإحسانه، لا من قوته. انتهى.
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} أي: ما يجهر به عباده وما يخفونه من الأقوال والأفعال. وهو تعليل لقوله: {سَنُقْرِؤُكَ} مبين لحكمته، وهو سبق علمه تعالى بحاجة البشر إلى إقرائه الوحي وإخراجهم به من الظلمات إلى النور.
ثم أشار إلى أن هذا المُقْرأ الموحى به للعمل، ليس فيه حرج وعسر، بقوله تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} أي: نوفقك للطريقة اليسرى، أي: الشريعة السَّمحة السهلة، التي هي أيسر الشرائع وأوفقها بحاجة البشر مدى الدهر.
{فَذَكِّرْ} أي: عباد الله عظمته، وعظهم وحذرهم عقوبته {إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} أي: الموعظة، وإن إما بمعنى إذ، كقوله تعالى: {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، أو بمعنى قد، على ما قاله ابن خالويه، ويؤيده قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، وقيل: إن شرطية، والمعنى ذم المذكَّرين واستبعاد تأثير الذكرى فيهم، تسجيلاً بالطبع على قلوبهم، كما تقول للواعظ: عظ المكّاسينَ إن سمعوا منك، قاصداً بهذا الشرط استبعاد ذلك، وأنه لن يكون.
{سَيَذَّكَّرُ} أي: يقبل التذكرة وينتفع بها {مَن يَخْشَى} أي: بخاف العقاب على الجحود والعناد، بعد ظهور الدليل.
{وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} أي: العظمى ألماً وعذاباً.
{ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} أي: لا يهلك فيستريح، ولا يحيى حياة تنفعه. قيل: إن العرب كانت إذا وصفت الرجل بوقوع في شدة شديدة قالوا: لا هو حي ولا ميت، فجاء على مألوفهم في كلامهم. و{ثُمَّ} هنا للتفاوت الرتبيّ، إشارة إلى أن خلوده أفظع من دخوله النار وصليّه.

.تفسير الآيات (14- 19):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [14- 19].
{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} أي: فاز وظفر من تطهر من دنس الشرك والمعاصي، وعمل بما أمره الله به.
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أي: تذكر جلال ربِّه وعظمته، فخشع وأشفق وقام بما له وعليه، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، وجوز أن يحمل {تَزَكَّى} على إيتاء الزكاة، وصلى على إقامة الصلاة كآية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، لما عهد في كلامه تعالى من الجمع بينهما في عدة آيات، لأنهما مبدأ كل خير وعنوان السعادة. لكن قيل عليه، بأن المعهود في التنزيل الكريم تقديم الصلاة. وأجيب بفعل مأخوذ منها، فلا كقوله: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة: 31]. والأول أظهر، لأنه أشمل وأعمّ. وهو أكثر فائدة.
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} قال أبو السعود: إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام، كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح: لا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية فتسعون لتحصيلها. والخطاب إما للكفرة، فالمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا والاطمئنان بها، والإعراض عن الآخرة بالكلية، كما في قوله تعالى: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا} [يونس: 7] الآية، أو للكل، فالمراد بإيثارها ما هو أهم مما ذكر، وما لا يخلو عنه الْإِنْسَاْن غالباً من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادئ. والالتفات على الأول لشديد التوبيخ، وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة، وتشديد العتاب في حق المسلمين. وقرئ: {يؤثرون} بالياء.
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي: أفضل، لخلوصها عما يكدر. وأدوم لعدم انصرام نعيمها. والجملة حال من فاعل {تُؤْثِرُونَ} مؤكدة للتوبيخ والعتاب {إِنَّ هَذَا} أي: ما ذكر في قوله:
{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} أو ما في السورة كلها {لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} أي: ثابت فيها معناه.
{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} بدل من {الصُّحُفِ الْأُولَى}، وفي إبهامها ووصفها بالقدم، ثم بيانها وتفسيرها، من تفخيم شأنها، ما لا يخفى.

.سورة الغاشية:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 9):

القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [1- 9].
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} أي: خبرها وقصتها، وهي القيامة.
وأصل الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها. والاستفهام للتعظيم والتعجب مما في حيزه، مع تقريره.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أي: ذليلة. وهي وجوه أهل الكفر بالحق والجحود له. والمراد بالوجوه الذوات.
{عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} قال القاشاني: أي: تعمل دائباً أعمالاً صعبة تتعب فيها، كالهوي في دركات النار، والارتقاء في عقباتها، وحمل مشاق الصور والهيئات المتعبة المثقلة من آثار أعمالها. أو عاملة من استعمال الزبانية إياها في أعمال شاقة فادحة من جنس أعمالها التي ضريت بها في الدنيا، وأتعابها فيها من غير منفعة لهم منها إلا التعب والعذاب. وجوز أن يكون {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} إشارة إلى عملهم في الدنيا، أي: عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة. فيكون بمنزلة حابطة أعمالها. أو جعلت أعمالها هباءً منثوراً كما يدل عليه آيات أخر، ويؤيده مقابلة هذه الآية، لقوله في أهل الجنة {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} وذلك السعي هو الذي كان في الدنيا. والله أعلم.
{تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} أي: تدخل ناراً متناهية في الحرارة. قال القاشاني: أي: مؤذية مؤلمة بحسب ما تزاولها في الدنيا من الأعمال.
{تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي: بلغت غايتها في شدة الحر.
{لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ} وهو من جنس الشوك، ترعاه الإبل ما دام رطباً، فإذا يبس تحامته، وهو سم قاتل. قال ابن جرير: الضريع عند العرب نبت يقال له: الشبرَق، وتسميه أهل الحجاز الضريع، إذا يبس. ولا منافاة بين هذه الآية وآية:
{وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36]؛ لأن العذاب ألوان، والمعذبون طبقات فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع، وقيل: الضريع مجاز أو كناية، أريد به طعام مكروه حتى للإبل التي تلتذ برعي الشوك، فلا ينافي كونه زقوماً أو غسلينا.
{لَا يُسْمِنُ} أي: لا يخصب البدن {وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ} أي: لا يسكن داعية النفس ولا نهمها من أجله.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ} أي: ذات حسن، على أنه من النعومة، كناية عن حسن المنظر. أو ناعمة بمعنى متنعمة، على أنه من النعيم.
{لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي: لعملها الذي عملته في الدنيا وجدّها في طريق البر واكتساب الفضائل، شاكرة لا تندم ولا تتحسر.

.تفسير الآيات (10- 16):

القول في تأويل قوله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [10- 16].
{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أي: مرتفعة المحل. أو رفيعة القدر، من علوّ المكانة.
{لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} أي: لغواً، أو كلمةً ذات لغو، أو نفساً تلغو؛ لأن كلامهم الحكمة والعلوم والتسبيح والتحميد.
{فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} أي: لا انقطاع لها.
{فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} أي: مرتفعة ليروا إذا جلسوا عليها جميع ما خولوه من النعيم والملك.
{وَأَكْوَابٌ} جمع كوب، وهو إناء لا أذن له {مَّوْضُوعَةٌ} أي: بين أيديهم لا يعوزهم تفقدها.
{وَنَمَارِقُ} أي: وسائد {مَصْفُوفَةٌ} أي: فوق الأسِرّة أو في جوانب المساكن للاستناد إليها.
{وَزَرَابِيُّ} أي: بسط {مَبْثُوثَةٌ} أي: مفروشة. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (17- 20):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [17- 20].
{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} قال أبو السعود: استئناف مسوق لتقدير ما فصل من حديث الغاشية وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون، بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره. والهمزة للإنكار والتوبيخ. والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وكلمة {كَيْفَ} منصوبة بما بعدها، معلقة لفعل النظر. والجملة في حيز الجر على أنها بدل اشتمال من {الْإِبِلِ} أي: أينكرون ما ذكر من البعث وأحكامه، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل، فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين، إلى أنها كيف خلقت خلقاً بديعاً معدولاً به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات، في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيئتها اللائقة بتأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة، كالنوء بالأوقار الثقيلة وجرِّ الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة، وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى إن إظماءها لتبلغ العشر فصاعداً واكتفائها باليسير، ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك، مما لا يكاد يرعاهُ سائر البهائم، وفي انقيادها مع ذلك الْإِنْسَاْن في الحركة والسكون والبروك والنهوض، حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء، ويقتادها كلّ صغير وكبير.
{وَإِلَى السَّمَاء} التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار {كَيْفَ رُفِعَتْ} أي: رفعت كواكبها رفعاً سحيق المدى، وأمسك كل منها في مداره إمساكاً لا يختل سيره ولا يفسد نظامه.
{وَإِلَى الْجِبَالِ} أي: التي ينزلون في أقطارها {كَيْفَ نُصِبَتْ} أي: أقيمت منتصبة لا تبرح مكانها، حفظاً للأرض من الميدان.
{وَإِلَى الْأَرْضِ} أي: التي يضربون فيها ويتقلبون عليها {كَيْفَ سُطِحَتْ} أي: بسطت ومهدت، حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق.
قال الزمخشري: والمعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق، حتى لا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه.
لطيفة:
ذكر السكاكي في المفتاح في بحث الجامع الخيالي، أن جمعهُ على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في استيداع الصور خزانة الخيال، وأنه إذا لم يوفه حقه من التيقظ وأنه من أهل المدر، أنى يستحلى كلام ربِّ العزة مع أهل الوبر، حيث يبصرهم الدلائل ناسقاً ذلك النسق {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}
الآيات؛ لبعد البعير عن خياله في مقام النظر، ثم لبعده في خياله عن السماء، وبعد خلقه عن رفعها، وكذا البواقي. لكن إذا وفاهُ حقهُ بتيقظه لما عليه تقلبهم في حاجاتهم، جاء الاستحلاء؛ وذلك إذا نظر أن أهل الوبر، إذا كان مطعمهم ومشربهم وملبسهم من المواشي، كانت عنايتهم مصروفة لا محالة إلى أكثرها نفعاً وهي الإبل، ثم إذا كان انتفاعهم بها لا يتحصل إلا بأن ترعى وتشرب، كان جلّ مرمى غرضهم نزول المطر، وأهم مسارح النظر عندهم السماء، ثم إذا كانوا مضطرين إلى مأوى يؤويهم وإلى حصن يتحصنون فيه، ولا مأوى ولا حصن إلا الجبال.
لنا جبلٌ يحتلُّه من نجيرهُ ** منيعٌ يردُّ الطرفَ وهو كليلُ

فما ظنك بالتفات خاطرهم إليها؟ ثم إذا تعذر طول مكثهم في منزل- ومن لأصحاب مواش بذاك- كان عقد الهمة عندهم بالتنقل من أرض إلى سواها من عزم الأمور، فعند نظره هذا، أيرى البدوي إذا أخذ يفتش عما في خزانة الصور له، لا يجد صورة الإبل حاضرة هناك أو لا يجد صورة السماء لها مقارنة، أو تعوزه صورة الجبال بعدهما، أو لا تنصّ إليه صورة الأرض تليها بعدهن؟ لا، وإنما الحضري، حيث لم تتآخذ عنده تلك الأمور، وما جمع خيالهُ تلك الصور على ذلك الوجه وإذا تلا الآية قبل أن يقف على ما ذكرت، ظن النسق بجهله معيباً للعيب فيه. انتهى.