فصل: تفسير الآيات (21- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (21- 26):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [21- 26].
{فَذَكِّرْ} أي: من أرسلت إليه بآياته تعالى التي تسوق إلى الإيمان بخالقها الفطرة {إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ} أي: مبلغ ما نسي من أمره تعالى: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} أي: بمتسلط تقهرهم على الإيمان. وقرئ بالصاد على إبدالها من السين.
{إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} وهو عذاب جهنم. والاستثناء منقطع، أي: لكن من تولى وكفر، فإن لله الولاية والقهر، فهو يعذبه العذاب الأكبر على جحده الحق.
{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} أي: رجوعهم ومعادهم بالموت والبعث. والجملة تعليل لتعذيبه تعالى بالعذاب الأكبر. وجمع الضمير فيه وفيما بعده، باعتبار معنى {مَن} كما أن إفراده قبل باعتبار لفظها.
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} أي: فنجازيهم بالعذاب الأكبر، فإن القهر والغلبة له تعالى وحده.

.سورة الفجر:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} [1- 5].
{وَالْفَجْرِ} أي: الصبح كقوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] أقسم تعالى بآياته، لما يحصل به من انقضاء الليل وظهور الضوء وانتشار الناس وسائر الحيوانات، لطلب الأرزاق؛ وذلك مشاكل لنشور الموتى من قبورهم. وفيه عبرة لمن تأمل.
{وَلَيَالٍ عَشْرٍ} هي- على قول ابن عباس ومجاهد- عشر ذي الحجة؛ لأنها أيام الاهتمام بنسك الحج. وفي البخاري عن ابن عباس مرفوعاً: «ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام» يعني عشر ذي الحجة.
وحكى ابن جرير: أنه قيل: عني بها عشر المحرم. والرازي قولاً أنها العشر الأواخر من رمضان، لما فيه من ليلى القدر، ولما صح أنه صلوات الله عليه «كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان شدّ مئزره وأحيى ليله وأيقظ أهله». وثمة وجه آخر في العشر. وهو أنها الليالي التي ُيحلولك فيها الليل ويشتد ظلامه ويغشى الأفق سواده، وتلك خمس من أوائله وخمس من أواخره. وإن لفظة {عَشْرٍ} بمثابة قوله في السور الآتية {إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] {إِذَا سَجَى} [الضحى: 2] مما يبّين وجه العبرة ويجلّيها أتم الجلاء، ولا بعد في هذا المعنى، بل فيه توافق لبقية الآيات. وبالجملة فأوضح المخصصات ما عضدهُ دليل أو أيدته قرينة أو حاكى نظائره. والله أعلم.
{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} يعني الخلق والخالق. فالشفع بمعنى جميع الخلق، للازدواج فيه كما في قوله تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]، قال مجاهد: كل خلق الله شفع: السماء والأرض، والبر والبحر، والجن والإنس، والشمس والقمر، والكفر والإيمان، والسعادة والشقاوة، والهدى والضلالة، والليل والنهار.
{وَالْوَتْرِ} هو الله تعالى لأنه من أسمائه وهو بمعنى الواحد الأحد. فأقسم الله بذاته وخلقه. وقيل: المعنى بالشفع والوتر، جميع الموجودات من الذوات والمعاني؛ لأنها لا تخلو من شفع ووتر.
قال القاضي: ومن فسرهما بالبروج والسيارات أو شفع الصلوات ووترها أو بيومي النحر وعرفة، فلعله أفرد بالذكر من أنواع المدلول ما رآه أظهر دلالة على التوحيد، أو مدخلاً في الدين، أو مناسبة لما قبلهما.
قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالشفع والوتر، ولم يخصص نوعاً من الشفع ولا من الوتر، دون نوع، بخبر ولا عقل، وكل شفع ووتر، فهو مما أقسم به. مما قال أهل التأويل أنه داخل في قسمه هذا، لعموم قسمه بذلك.
وقد قرئ: {الوتر} بفتح الواو وكسرها، وهما لغتان.
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} أي: إذا يمضي، كقوله: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33]، والتقييد بذلك لما في التعاقب من قوة الدلالة على كمال القدرة ووفور النعمة، ففي الليل الراحة التي هي من أعظم النعم، وفي النهار المكاسب وغيرها. وحذف الياء للتخفيف ولتتوافق رؤوس الآي. ومن القراء من حذفها، أصلاً ووقفاً. ومنهم من خصه بأحدهما، كما فصل في كتب الأداء.
{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} قال ابن جرير: أي: هل فيما أقسمت به من هذه الأمور مقنع لذي حجر، وإنما عُني بذلك: أن في هذا القسم مكتفى لمن عقل عن ربه، مما هو أغلظ منه في الإقسام.
وقال الرازي: المراد من الاستفهام التأكيد، كمن ذكر حجة باهرة ثم قال: هل فيما ذكرته حجة؟ والمعنى أن من كان ذا لبّ علم أن ما أقسم الله تعالى به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية. فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه، أي: على طريقة قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76]، وإنما أوثرت هذه الطريقة هضماً للخلق، وإيذاناً بظهور الأمر. والحجر العقل؛ لأنه يحجر صاحبه، أي: يمنعه من ارتكاب ما لا ينبغي، والمقسم عليه محذوف وهو: ليعذبن كما ينبئ عنه قوله تعالى:

.تفسير الآيات (6- 8):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [6- 8].
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} أي: ألم تعلم علماً يقينياً كيف عذب ربك عاداً، فيعذب هؤلاء أيضاً، لاشتراكهم فيما يوجبهُ من جحود الحق والمعاصي. وعاد: قبيلة من العرب البائدة، وتلقب بإرم أيضاً، وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هوداً عليه السلام، فكذبوه فأهلكهم بريح صرصر عاتية. فقوله تعالى: {إِرَمَ} عطف بيان لعاد {ذَاتِ الْعِمَادِ} أي: ذات الخيام المعمّدة، لأنهم كانوا أهل عمد ينتجعون الغيوث وينتقلون إلى الكلأ حيث كان، ثم يرجعون إلى منازلهم في الأحقاف في حضرموت. وقيل: كنيَ بالعماد عن العلوّ والشرف والقوة، إلا أنه الأشبه- كما قال ابن جرير- بظاهر التنزيل هو الأول، وهو أنهم كانوا عمد سيارة؛ لأن المعروف في كلام العرب من العماد، ما عُمد به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل عليها البناء. ثم قال: وتأويل القرآن إنما يوجهُ إلى الأغلب الأشهر من معانيه، ما وجد إلى ذلك سبيل، دون الأنكر.
{الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} أي: في العِظم والبطش والأيدي.
قال ابن كثير: كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشاً، ولهذا ذكّرهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم. فقال: {وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69]. وقال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15].
تنبيه:
قال الإمام الدرّاكة ابن خلدون في مقدمة تاريخه في سياق الأخبار الواهية للمؤرخين ما مثاله: وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير سورة الفجر في قوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} فيجعلون لفظه {إِرَمَ} اسماً لمدينة وصفت بأنها ذات عماد، أي: أساطين، وينقلون أنه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان، هما شديد وشداد، ملكا من بعده، وهلك شديد فخلص الملك لشداد، ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنة فقال لأبنيّن مثلها، فبنى مدينة إرم في صحارى عدن في مدة ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة، ولما تمَّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته، حتى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة، بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا كلهم. ذكر ذلك الطبريّ والثعالبي والزمخشري وغيرهم من المفسرين. وينقلون عن عبد الله بن قلابة- من الصحابة- أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها وحمل منها ما قدر عليه، وبلغ خبره إلى معاوية فأحضره وقص عليه، فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال: هي {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا واللهِ ذاك الرجل.
قال ابن خلدون: وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض، وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زآل عمرانه متعاقباً والأدلاء تقص طرقهُ من كل وجه. ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الأخباريين ولا من الأمم، ولو قالوا: إنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبهُ، إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة، وبعضهم يقول: إنها دمشق، بناء على أن قوم عاد ملكوها. وقد انتهى الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة، وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر. مزاعم كلها أشبهُ بالخرافات. والذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظه: {ذَاتِ الْعِمَادِ} أنها صفة {إِرَمَ} وحملوا العماد على الأساطين، فتعين أن يكون بناء، ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير: {عاد إرم} على الإضافة من غير تنوين. ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات، وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام. وإن أريد بها الأساطين، فلا بدع في وصفهم بأنهم أهل بناء وأساطين على العموم، بما اشتهر من قوتهم، لا أنه بناء خاص في مدينة معينة أو غيرها. وإن أضيفت، كما في قراءة ابن الزبير، على إضافة الفصيلة إلى القبيلة، كما تقول: قريش كنانة وإلياس مضر، وربيعة نزار. وأي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصحة؟ انتهى. وسبقه الحافظ ابن كثير في تفسيره حيث قال: ومن زعم أن المراد بقوله:
{إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} مدينة إما دمشق أو اسكندرية، ففيه نظر، فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا إن جعل {إِرَمَ} بدلاً أو عطف بيان؟ فإنه لا يتسق الكلام حينئذ. ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يردّ، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم.
قال: وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية، من ذكر مدينة يقال لها: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} مبنية بلبن الذهب والفضة إلخ، فإن هذا كله من خرافات الإسرائيلين، من وضع بعض زنادقتهم ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس إن صدقهم في جميع ذلك. وحكاية عبد الله بن قلابة الأعرابي ليس يصح إسنادها، ولو صح إلى ذلك الأعرابي، فقد يكون اختلق ذلك، أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج، وليس كذلك، وهذا مما يقطع بعدم صحته، وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتخيلين، ومن وجود مطالب تحت الأرض فيها قناطير الذهب والفضة وألوان الجواهر واليواقيت واللآلئ والإكسير الكبير، لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها، فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء، فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير، ونحو ذلك من الهذيانات، ويطنزون بهم، والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب. انتهى.

.تفسير الآيات (9- 14):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [9- 14].
{وَثَمُودَ} وهم قوم صالح عليه السلام {الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي: قطعوا صخر الجبال، واتخذوا فيها بيوتاً. كما في قوله: {وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} [الحجر: 82]، والباء ظرفية. والمجرور متعلق بـ: {جَابُوا} أو هو حال من الفاعل أو المفعول. وقرئ بالياء وبإسقاطها، كما في {يَسْرِ} والوادي هو وادي القرى كانت منازلهم فيه، كما قاله ابن إسحاق.
{وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} أي: الجنود الذين يشدون له أمره. أو هي أوتاد يشد بها من يعذبه. أو القوى والعَدد والعُدد التي تم لهُ بها ملكهُ، ورسخ بطشه وسلطانه، ومنه قولهم لمن تمكن في أرضٍ ما: ضرب بها أوتاداً.
{الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} صفة للمذكورين: عاد وثمود وفرعون، أي: تجاوزوا ما وجب عليهم إلى ما حظر من الكفر بالحق والعتو والتمرّد والبغي في بلادهم، اغتراراً بالقوة وعظم السلطان.
{فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} أي: الضرر والإيذاء وهضم الحقوق.
{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} أي: أنزل بهم عذابه، وأحلّ بهم نقمته، بما طغوا في البلاد وأفسدوا فيها. وقد بين تعالى إهلاكهم مفصلاً في غير ما سورة وآية. والسوط إما مصدر: ساطه، أي: خلطه كما في قول كعب:
لكنها خُلَّةٌ قد سِيطَ من دَمِها ** فَجْعٌ ووَلْعٌ وَإخْلافٌ وتَبْديلُ

أريد به المفعول هنا أي: أنزل عليهم ما خلط لهم من أنواع العذاب. قيل: وبما ذكر سميت الآلة المعروفة، وهو الجلد المضفور الذي يضرب به، لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض. وإما أن يكون السوط الآلة المعروفة، استعيرت لعذاب أدون من غيره، وهو ما اختارهُ الزمخشري حيث قال: وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعذّ لهم في الآخرة، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به.
وقيل: هو من قبيل: لجين الماء، أي: عذاباً كالسوط في شدته، وهو ما يقتضيه كلام الطبري، حيث زعم أن السوط مَثل لشدة العذاب.
قال الشهاب: وأما استعارة الصبّ للعذاب فشائعة، كالإذاقة. يقال: صبّ عليه السوط، وقنّعهُ به وغشّاهُ. وهو تمثيل وتصوير لحلوله أو تتابعه عليه وتكرره.
{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} أي: لهؤلاء الذين قصّ نبأ هلاكهم، ولضربائهم من الكفرة بالحق والعاثين بالفساد.
والمرصاد اسم مكان للذي يترقب فيه الرصد- جمع راصد- أو صيغة مبالغة. كمطعام ومطعان. فالياء تجريدية وفيه استعارة تمثيلية، شبه كونه تعالى حافظاً لأعمال العباد، مترقباً لها ومجازياً على نقيرها وقطميرها بحيث لا ينجو منه أحد بحال من قعد على الطريق مترصداً لمن يسلكها، ليأخذ فيوقع به ما يريد. ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر.

.تفسير الآيات (15- 16):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [15- 16].
ثم أشار إلى غفلة الْإِنْسَاْن في حالي غناه وفقره، ونعى عليه شأنه فيهما، بما يقرر ما تقدم من استحقاقه صبّ العذاب، بقوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} أي: بالغنى واليسار {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} أي: فضّلني، لما لي عندهُ من الكرامة.
{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي ضيقه عليه وقتره، فلم يكثر مالهُ ولم يوسع عليه {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} أي: أذلني بالفقر؛ وذلك لسوء فكره وقصور نظره في الحالين، فإنه إنما ابتلاه بالغنى ليقوم بواجبه ويعرف حق الله فيه، وبالفقر ليظهر بمظهر العفاف ويتخلق بخلق الصبر على الكفاف. ففي كل ابتلاء وامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب، ونظير الآية، آية:
{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] وآية: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55- 56] وآية: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19- 22].