فصل: تفسير الآيات (17- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (17- 20):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [17- 20].
وقوله تعالى: {كَلَّا} ردع عن قولية في حاليه، أعني اعتقاد الإكرام في الإعطاء، والإهانة في المنع، بل لطلب الشكر، وهو صرف النعم إلى ما خلقت له، وإعطاء المال لذويه، وأحقهم الأيتام وهم لا يفعلونه، كما قال: {بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} وهو من فقد كافله ومربيه، فإن من آكد الواجبات القيام على تأديبه وكفالته، صوناً إذا أهمل من فساد طبيعته وعيثه بالضرر في أهل جبلته. ومثلهُ التحاضّ على مواساة البؤساء، وهؤلاء المنعي عليهم ضلالهم في غفلة عنه، كما قال: {وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي: لا يحض بعضكم بعضاً عليه ولا يتواصى به.
قال الإمام: وإنما ذكر التحاض على الطعام، ولم يكتف بالإطعام فيقول: لم تطعموا المسكين؛ ليصرح لك بالبيان الجلي أن أفراد الأمة متكافلون، وأنه يجب أن يكون لبعضهم على بعض عطف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع التزام كلٍّ لما يأمر به، وابتعاده عما ينهى عنه.
لطيفة:
قال القاشاني: في دلالة قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَاْن} أي: الْإِنْسَاْن يجب أن يكون في مقام الشكر أو الصبر بحكم الإيمان، لحديث: «الإيمان نصفان نصف: صبر، ونصف شكر» لأن الله تعالى إما يبتليه بالنعم والرخاء، فعليه أن يشكره باستعمال نعمته فيما ينبغي من إكرام اليتيم وإطعام المسكين وسائر مراضيه. ولا يكفر نعمته بالبطر والافتخار فيقول: أن الله أكرمني لاستحقاقي وكرامتي عنده، ويترفهُ في الأكل ويحتجب بمحبة المال وبمنع المستحقين، أو بالفقر وضيق الرزق فيجب عليه أن يصبر ولا يجزع ولا يقول: إن الله أهانني، فربما كان ذلك إكراماً له بأن لا يشغلهُ بالنعمة عن المنعم، ويجعل ذلك وسيلة له في التوجه إلى الحق والسلوك في طريقه لعدم التعلق، كما أن الأول ربما كان استدراجاً منه. انتهى.
{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً} قال ابن جرير: أي: تأكلون الميراث أكلاً شديداً، لا تتركون منه شيئاً. من قولهم: لممت ما على الخوان أجمعُ فأنا ألمهُ لماًَّ، إذا: أكلت ما عليه فأتيت على جميعه.
قال ابن زيد: كانوا لا يورثّون النساء ولا يورّثون الصغار، وقرأ: {يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} [النساء: 127]، أي: لا تورثوهن أيضاً. وقال بكر بن عبد الله: اللمُّ: الاعتداء في الميراث، يأكل ميراثه وغيره.
{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} أي: جمعه وكنزه، حباً كثيراً شديداً.

.تفسير الآيات (21- 26):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكًّا وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [21- 26].
{كَلَّا} ردع لهم عن ذلك، وإنكار لفعلهم، وما بعده وعيد عليه بالإخبار عن ندمهم وتحسرهم حين لا ينفعهم الندم {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً} أي: دكاً بعد دك حتى عادت هباءً منثوراً.
قال الشهاب: ليس الثاني تأكيداً، بل التكرير للدلالة على الاستيعاب، كقرأت النحو باباً باباً، وجاء القوم رجلاً رجلاً. والدك قريب من الدق، لفظاً ومعنى.
{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} قال ابن كثير: أي: وجاء الرب، تبارك وتعالى، لفصل القضاء، كما يشاء والملائكة بين يديه صفوفاً صفوفاً.. وسبقه ابن جرير على ذلك وعضدهُ بآثار عن ابن عباس وأبي هريرة والضحاك «في نزوله تعالى من السماء يومئذ في ظلل من الغمام، والملائكة بين يديه، وإشراق الأرض بنور ربها». ومذهبُ الخلف في ذلك معروف، من جعل الكلام على حذف مضاف، للتهويل، أي: جاء أمرهُ وقضاءهُ. أو استعارة تمثيلية لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره وسلطانه.
قال الزمخشري: مثلت حاله في ذلك، بحال الملك إذا حضر بنفسه، ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم. انتهى.
وكأنّ الخلاف بين المذهبين لفظي، إذ مبنى مذهب الخلف على أن الظاهر غير مراد. ويعنون بالظاهر ما للخلق مما يستحيل على الخالق، فوجب تأويله. وأما السلف فينكرون أن معنى الظاهر منها ما للخلق، بل هو ما يتبادر إلى فهم المؤمن الذي يعلم أن ذاته تعالى، كما أنها لا تشبه الذوات، فكذلك صفاتُ لا تشبه الصفات؛ لأنها لا تكيف ولا تعلم بوجه ما، فهي حقيقة النسبة إليه سبحانه على ما يليق به، كالعلم والقدرة، لا تمثيل ولا تعطيل.
قال الإمام ابن تيمية رضي الله عنه: واعلم أن من المتأخرين من يقول: إن مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد. وهذا لفظ مجمل، فإن قولهُ ظاهرها غير مراد، يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين، مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلّي، أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه، و: إن الله معنا، ظاهره أنه إلى جانبنا، ونحو ذلك. فلا شك أن هذا غير مراد، ومن قال: إن مذهب السلف أن هذا غير مراد، فقد أصاب في المعنى، لكن أخطأ في إطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث، فإن هذا المجال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع، اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس فيكون القائل لذلك مصيباً بهذا الاعتبار، معذوراً في هذا الإطلاق، فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس، وهو من الأمور النسبية. انتهى.
وقد بسط رحمه الله الكلام على ذلك في الرسالة المدنية وأوضح أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذي حذوه ويتبع فيه مثاله. فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية.
وقال رحمه الله في بعض فتاويه: نحن نقول بالمجاز الذي قام دليله، وبالتأويل الجاري على نهج السبيل، ولم يوجد في شيء من كلامنا وكلام أحد منا، أنا لا نقول بالمجاز والتأويل، والله عند لسان كل قائل، ولكن ننكر من ذلك ما خالف الحق والصواب، وما فتح به الباب، إلى هدم السنة والكتاب واللحاق بمحرّفة أهل الكتاب، والمنصوص عن الإمام أحمد وجمهور أصحابه، أن القرآن مشتمل على المجاز. ولم يعرف عن غيره من الأئمة نص في هذه المسألة. وقد ذهب طائفة من العلماء من أصحابه وغيرهم، كأبي بكر بن أبي داود، وأبي الحسن الخرزيّ، وأبي الفضل التميميّ، وابن حامد، فيما أظن، وغيرهم، إلى إنكار أن يكون في القرآن مجاز، وإنما دعاهم إلى ذلك ما رأوه من تحريف المحرفين للقرآن بدعوى المجاز، فقابلوا الضلال والفساد، بحسم الموادّ. وخيار الأمور التوسط والاقتصاد. انتهى.
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} أي: أظهرت حتى رآها الخلق وعلم الكافر أن مصيرهُ إليها. فمجيئها متجوز به عن إظهارها، كما صرح به آية {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} [النازعات: 39]، {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَاْن} تفريطه في الدنيا في طاعة الله وفيما يقرب إليه من صالح الأعمال {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} أي: منفعتها، فالمراد بتذكره ندامته على تفريطه في الصالحات من الأعمال التي تورثه نعيم الأبد، كما فسره بقوله تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} أي: أسلفت من الأعمال الصالحة لحياتي هذه، فاللام للتعليل، أو: قدمت وقت حياتي، فاللام بمعنى وقت، والحياة هي التي في الدنيا.
{فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} أي: لا يعذب كعذاب الله، أحد في الدنيا.
{وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} أي: لا يوثق كوثاقه يومئذ أحد في الدنيا. وقرئ {يعذّب} و{يوثق} على بناء المجهول.
قال السمين: وعذاب ووثاق في الآية، واقعان موقع تعذيب وإيثاق، والمعنى: لا يعذب أحد تعذيباً مثل تعذيب الله هذا الكافر، ولا يوثق أحد إيثاقاً مثل إيثاق الله إياه بالسلاسل والأغلال، فالوثاق في الآية بمعنى الإيثاق، كالعطاء بمعنى الإعطاء.
ثم أشار إلى ما يقال لمن آمن وعمل صالحاً، في مقابلة من تقدم، بقوله تعالى:

.تفسير الآيات (27- 30):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [27- 30].
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} أي: الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، وهي التي كان قلبها اطمأن بذكر الله وطاعته وخشية من الاضطراب.
{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} أي: وعده وثوابه.
{رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} أي: راضية بما أوتيت، مرضيةً عند ربها.
{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أي: في زمرتهم، وهم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
{وَادْخُلِي جَنَّتِي} أي: معهم. وهذا القول إما عند الموت أو البعث أو دخول الجنة.
ومن غرائب المأثور هنا تأويل النفس بالروح، والرب بصاحبها، أي: ارجعي إلى جسد صاحبك إيذاناً بأن الأرواح المطمئنة تردّ يوم القيامة في الأجساد، وأن لها مقراً قبل تعلقها بالبدن في عالم الملكوت. والمسألة من الغوامض بل من الغيوب. وبمعرفة نظائر التنزيل، يظهر بعدُ هذا التأويل.

.سورة البلد:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [1- 3].
{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} تقدم في مواضع متعددة من التنزيل الكريم تفسير {لَا أُقْسِمُ} و{البلد} هو مكة. وقيد القسم بقوله تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} عناية بالنبي صلوات الله عليه، فكأنه إقسام به لأجله، مع تعريض بعدم شرف أهل مكة، وأنهم جهلوا جهلاً عظيماً، لهمهم بإخراج من هو حقيق به، وبه يتم شرفه.
قال الشهاب: والحِل صفة مصدر بمعنى الحالّ على هذا الوجه. ولا عبرة بمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة. وقيل: معناه وأنت يستحل فيه حرمتك، وتعرض لأذيتك. ففيه تعجيب من حالهم في عداوته، وتعريض بتجميعهم وتفريقهم بأنه لا يستحل فيه الحَمام، فكيف يستحل فيه دم مرشد الأنام، عليه الصلاة والسلام؟
وقيل: معناهُ وأنت حل به في المستقبل، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر، إشارة إلى ما سيقع من فتح مكة وإحلالها له ساعة من نهار، يقتل ويأسر، مع أنها ما فتحت على أحد قبلهُ، ولا أحلت له، ففيه تسلية له، ووعد بنصره، وإهلاك عدوه. والحل على هذين الوجهين ضد الحرمة، وفيهما- كما قالوا- بعدٌ، لاسيما إرادة الاستقبال في الوجه الأخير، فإنه غير متبادر منه. وإنما كان الأول أولى لتشريفه عليه السلام، بجعل حلوله به مناطاً لإعظامه، مع التنبيه من أول الأمر على تحقق مضمون الجواب، بذكر بعض موادّ المكايدة، على نهج براعة الاستهلال، وإنه كابد المشاق، ولاقى من الشدائد، في سبيل الدعوة إلى الله، ما لم يكابده داع قبله، صلوات الله عليه وسلامه.
{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} عطف على هذا البلد، داخل في المقسم به. قيل: عني بذلك آدم وولده، وقيل: إبراهيم وولدهُ. والصواب- كما قال ابن جرير- أن المعني به كل والد وما ولد. قال: وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل، ولا خبر بخصوص ذلك ولا برهان، يجب التسليم له بخصوصه. فهو على عمومه كما عمهُ.
وإيثار {ما} على من؛ لإرادة الوصف. فيفيد التعظيم في مقام المدح، وأنه مما لا يكتنه كنهه لشدة إبهامها. ولذا أفادت التعجب أو التعجيب، وإن لم يكن استفهاماً كما في قوله تعالى: {وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] أي: أي: مولود عظيم الشأن وضعتهُ. وهذا على كون المراد إبراهيم والنبيّ عليهما الصلاة والسلام، ظاهر، أما على أن المراد به آدم وذريته، فالتعجب من كثرتهم، أو مما خص به الْإِنْسَاْن من خواص البشر، كالنطق والعقل وحسن الصورة. حكاه الشهاب.

.تفسير الآيات (4- 7):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَدًا أَيَحْسَبُ أن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [4- 7].
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} أي: في شدة، يكابد الأمور يعالجها في أطواره كلها، من حمله إلى أن يستقر به القرار: إما في الجنة وإما في النار.
قال الزمخشري: الكبد أصله من قولك: كبد الرجل كبداً، فهو أكبد، إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة. كما قيل: كبته بمعنى أهلكه. وأصله كبدهُ إذا أصاب كبدهُ. قال لبيد:
يَا عينُ هَلاَّ بَكَيْتِ أرْبدَ إذ** قُمْنا وَقَامَ الخُصُومُ في كَبَدِ

أي: في شدة الأمر وصعوبة الخطب. انتهى.
وفيه تسلية للنبيّ صلوات الله عليه، مما يكابدهُ من قريش، من جهة أن الْإِنْسَاْن لم يخلق للراحة في الدنيا، وأن كل من كان أعظم فهو أشد نصباً. هذا خلاصة ما قالوه.
وقال القاشاني: {فِي كَبَدٍ} أي: مكابدة ومشقة من نفسه وهواه، أو مرض باطن وفساد قلب وغلظ حجاب؛ إذ الكبد في اللغة غلظ الكبد الذي هو مبدأ القوة الطبيعية وفسادهُ وحجاب القلب وفسادهُ من هذه القوة، فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل.
{أَيَحْسَبُ} أي: لغلظ حجابه ومرض قلبه لاحتجابه بالطبيعة {أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} أي: أن لن تقوم قيامة، ولن يقدر على مجازاته وقهره وغلبته، مع أن ما هو فيه من المكابدة يكفي لإيقاظه من غفلته واعترافه بعجزه.
{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} أي: كثيراً، من: تلبد الشيء، إذا اجتمع. والمراد ما أنفقه للافتخار والمباهاة والرياء. كقولهم: خسرت عليه كذا وكذا، إذا أنفق عليه، يتفضل على الناس بالتبذير والإسراف، ويحسبه فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة وجهله. ولهذا قال: {أَيَحْسَبُ أن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} أي: أيحسب أن لم يطلع الله تعالى على باطنه ونيته، حين ينفق ماله في السمعة والرياء والمباهاة، لا على ما ينبغي في مراضي الله، وهي رذيلة على رذيلة فكيف تكون فضيلة؟