فصل: تفسير الآية رقم (160):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (160):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [160].
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ}- أي: عن الكتمان-: {وَأَصْلَحُواْ}- أي: عملوا صالحاً-: {وَبَيَّنُواْ}- ما كانوا كتموه فظهرت توبتهم بالإقلاع-: {فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ}- أي: أقبل توبتهم بإفاضة المغفرة والرحمة عليهم-: {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمر به الحال إلى كفره بقوله:

.تفسير الآيات (161- 162):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} [161- 162].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا}- أي: في اللعنة، أو في النار، على أنها أضمرت من غير ذكرٍ تفخيماً لشأنها وتهويلاً لأمرها-: {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}- إما من الإنظار بمعنى التأخير والإمهال. أي: لا يمهلون عن العذاب ولا يؤخر عنهم ساعة بل هو متواصل دائم، أو من النظر بمعنى الرؤية أي: لا ينظر إليهم نظر رحمة كقوله: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عِمْرَان: 77].

.تفسير الآية رقم (163):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [163].
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} يخبر تعالى بخطابه كافة الناس عن تفرده بالإلهية، وأنه لا شريك له ولا عديل.
قال الراغب: يجوز أن يكون قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} خطاباً عاماً، أي: المستحق منكم العبادة هو إله واحد لا أكثر، ويجوز أن يكون خطاباً للمؤمنين، والمعنى: الذي تبعدونه إله واحد، تنبيهاً أنكم لستم كالكفار الذين يعبدون أصناماً آلهة والشيطان والهوى وغير ذلك. إن قيل: ما فائدة الجمع بين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وبين: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} وأحدهما يبنى على الآخر؟ قيل: لما بيّن بقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أنه المقصود بالعبادة أو المستحق لها- وكان يجوز أن يتوهم أنه يوجد إله غيره، ولكن لا يعبد ولا يستحق العبادة- أكده بقوله: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} وحقّ لهذا المعنى أن يكون مؤكداً وتكرر عليه الألفاظ؛ إذ هو مبدأ مقصود العبادة ومنتهاه. انتهى.
وقال الرازي: إنما خص سبحانه وتعالى هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين؛ لأن ذكر الإلهية والفردانية يفيد القهر والعلو، فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحاً للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية، وإشعاراً بأن رحمته سبقت غضبه، وأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان. انتهى.
ولما كان مقام الوحدانية لا يصح إلا بتمام العلم وكمال القدرة، نصب تعالى الأدلة، من العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات، على ذلك تبصيراً للجهّال وتذكيراً للعلماء بقوله:

.تفسير الآية رقم (164):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [164].
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}- في ارتفاع الأولى ولطافتها واتساع وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها، وفي انخفاض الثانية وكثافتها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيه من المنافع-: {وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: اعتقابهما وكون كل منهما خلفاً للآخر، فيجيء أحدهما ثم يذهب ويخلفه الآخر يعقبه لا يتأخر عنه لحظة. كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان: 62]، أو اختلاف كل منهما في أنفسهما ازدياداً وانتقاصاً كما قال: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الحج: 61]، أي: يزيد من هذا في هذا ومن هذا في ذاك {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} أي: في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى آخر لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل إقليمٍ لغيره.
قال الراغب: ولما لم يكن فرق بين أن يقال: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} وبين أن يقال: والبحر الذي يجري فيه الفلك، في أن القصد الأول بالآية أن يعرف منفعة البحر، وإن أخر في اللفظ، قدم ذكر الفلك الذي هو من صنعتنا. ولما كان سبيلنا إلى معرفتها أقرب منه إلى معرفة صنعه- قدم ذكر الفلك لينظر منها إلى آثار خلق الله تعالى {وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء} أي: المزن: {مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ} بأنواع النبات والأزهار وما عليها من الأشجار: {بَعْدَ مَوْتِهَا} باستيلاء اليبوسة عليها: {وَبَثَّ فِيْهَا} أي: نشر وفرق: {مِنْ كُلِّ دَاْبَّةٍ} من العقلاء وغيرهم: {وَتَصْرِيْفِ الرِّيَاْحِ} أي: تقليبها في مهابها: قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً، وفي أحوالها: حارةً وباردةً وعاصفةً ولينة، فتارة مبشرة بين يدي السحاب، وطوراً تسوقه، وآونةً تجمعه، ووقتاً تفرقه، وحيناً تصرفه.
قال الثعالبي: إذا جاءت الريح بنَفَس ضعيف، ورَوْح فهي النسيم، فإذا كانت شديدة فهي العاصف، فإذا حركت الأغصان تحريكاً شديداً وقلعت الأشجار فهي الزعزَعان والزعزع، فإذا جاءت بالحصباء فهي الحاصبة، فإذا هبت من الأرض نحو السماء كالعمود فهي الإعصار، ويقال لها زوبعة أيضاً، فإذا هبت بالغبرة فهي الهَبْوة، فإذا كانت باردة فهي الصرصر، فإذا كان مع بردها ندى فهي البليل، فإذا كانت حارة فهي الحَرُور والسّموم، فإذا لم تُلقح شجراً ولم تحمل مطراً فهي العقيم، ومما يذكر منها بلفظ الجمع: الأعاصير وهي التي تهيج بالغبار، واللواقع التي تلقح الأشجار، والمعصرات التي تأتي بالأمطار، والمبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث.
{وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} أي: فلا يهوي إلى جهة السفل مع ثقله يحمله بخار الماء- كما تهوي بقية الأجرام العالية- حيث لم يكن لها ممسك محسوس، ولا يعلو، ولا ينقشع، مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاثة: فالكثيف يقتضي النزول، واللطيف يقتضي العلو، والمتوسط يقتضي الانقشاع. ذكره البقاعي.
لطيفتان:
الأولى: قال الثعالبي: أول ما ينشأ السحاب فهو النَّشْءُ، فإذا انسحب في الهواء فهو السحاب، فإذا تغيرت له السماء، فهو الغمام، فإذا أظلّ فهو لعارض، فإذا ارتفع وحمل الماء وكثُف وأطبق فهو العماء، فإذا عنّ فهو العَنان، فإذا كان أبيض فهو المزن.
الثانية: قال الراغب: التسخير القهر على الفعل، وهو أبلغ من الإكراه، فإنه حمل الغير على الفعل بلا إرادة منه على وجه، كحمل الرحى على الطحن، وقوله تعالى: {لآيات}: أي: عظيمة كثيرة، فالتنكير للتفخيم كَمّاً وكيفاً: {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: يتفكرون فيها وينظرون إليها بعين العقول، فيستدلون على قدرته، سبحانه، القاهرة، وحكمته الباهرة، ورحمته الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به جل شأنه.
قال البقاعي: وسبب تكثير الأدلة أنّ عقول الناس متفاوته فجعل سبحانه العالَمَ- وهو الممكنات الموجودة، وهي جملة ما سواه، الدالّة على وجوده وفعله بالاختيار- على قسمين: قسم من شأنه أن يدرك بالحواس الظاهرة، ويسمى في عرف أهل الشرع: الشهادة والخلق والملك، وقسم لا يدرك بالحواس الظاهرة ويسمى: الغيب والأمر والملكوت. والأول يدركه عامة الناس، والثاني يدركه أولو الألباب الذين عقولهم خالصة عن الوهم والوساوس. فالله تعالى- بكمال عنايته ورأفته ورحمته- جعل العالم بقسميه محتوياً على جمل وتفاصيل من وجوهٍ متعدّدة، وطرق متكثرة، تعجز القوى البشرية، عن ضبطها، يستدلّ بها على وحدانيته، بعضها أوضح من بعض، ليشترك الكل في المعرفة، فيحصل لكلٍّ بقدر ما هُيِّئَ له، اللهم إلا أن يكون ممن طُبع على قلبه، فذلك- والعياذ بالله- هو الشقي انتهى.
قال المهايمي: وكيف ينكرون وجود الله، وتوحيده، ورحمانيته، ورحيميته، وقد دلّ عليها دلائل العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات؟ ثم قال:
أما دلالة السماء والأرض على وجود الإله فلأنهما حادثان؛ لأن لهما أجزاء يفتقران إليها، فلابد لها من محدث ليس بعضَ أجزائهما، لأنه دخله التركيب الحادث، والقديم لا يكون محلاً للحوادث، والمحدث لابد أن يكون قديماً قطعاً للتسلسل، وعلى التوحيد، فلأن إله السماوات لو كان غير إله الأرض لم يرتبط منافع أحدهما بالآخر، وعلى الرحمتين لأنه عز وجل جعل في الأرض موادّ قابلة للصور المختلفة وأفاضها واحدة بعد أخرى بتحريك السماوات.
وأما دلالة اختلاف الليل والنهار على وجود الإله فلحدوثهما من حركات السماوات، ولابد لها من محرك، فإن كان حادثاً فلابد له من محدث، وعلى التوحيد، فلأن إله الليل لو كان غير إله النهار لأمكن كل واحد أن يأتي بما هو له في وقت إتيان الآخر بما هو له، فيلزم اجتماعهما وهو محال. فإن امتنع لزم عجز أحدهما أو كليهما، وعلى الرحمتين، فلأن الاعتدال الذي به انتظام أمر الحيوانات إنما يكون من تعاقبهما، إذْ دوام الليل مبرِّد للعالم في الغاية، ودوام النهار مسخِّن له في الغاية.
وأما دلالة الفُلْك على وجود الإله، فلأنها أثقل من الماء فحقّها الرسوب فيها، فإمساكها فوق الماء من الله، ودخول الهواء فيها- وإن كان من الأسباب- فلا يتم عند امتلاء الفلك بالأمتعة الكثيرة، إذ يقلّ الهواء جدًّا فيضعف أثره في إمساك هذا الثقيل جدًّا، فلا ينبغي أن ينسب إلاّ إلى الله تعالى من أوَّل الأمر، وعلى التوحيد، فلأن إله الفُلْك لو كان غير إله البحر لربما منع أحدهما الآخر من التصرف في ملكه، وهو يفضي إلى اختلال نظام العالم لاختلاف المنافع المنوطة بالفلك، وعلى الرحمتين فلأنه رحم المسافرين بالتجارات، والمسافَر إليهم بالأمتعة التي يحتاجون إليها.
وأما دلالة إنزال الماء على وجود الإله، فلأنه أثقل من الهواء، فوجوده في مركزه لا يكون إلا من الله، وعلى التوحيد، فلأنّ إله الماء لو كان غير إله الهواء، لمنع من التصرف في ملكه، وعلى الرحمتين، فلأنّه أحْيَى به الأرض معاشاً للحيوانات، وبثّ به الدواب تكميلاً لمنافع الْإِنْسَاْن.
وأما دلالة تصريف الرياح على وجود الإله، فلأنها حادثة تحدث هذه مرة وهذه أخرى، وقد يعدم الكلّ، فلابد من محدث، فإنْ كان حادثاً افتقر إلى قديم، وعلى التوحيد، فلأنّه لو كان لكلّ ريح إله لأمكن للكلّ أن يأتي بما له، فيلزم اجتماع الرياح المختلفة وهو مخل بالنظام، وعلى الرحمتين، فلأنها تحرك الفلك والسحب وتنمي الأشجار والثمار.
وأما دلالة السحاب على وجود الإله، فلأنه لو كان ثقيلاً لنزل، أو كان خفيفاً لصعد، لكنه يصعد تارةً وينزل أخرى فهو من الله تعالى، وأما على التوحيد، فلأن إله السحاب، لو كان غير إله السحاب الآخر، لأمكن لكل واحد أن يجعل سحابه في مكان سحاب الآخر، فيلزم تداخل الأجسام أو العجز، وعلى الرحمتين فلأن منها الأمطار.
وله وجوه آخر من الدلالات، وفوائد غير محصوبة، قنعنا بما ذكرنا.
قال القاضي عبد الجبار: الآية تدلّ على أمورٍ:
أحدها: لو كان الحق يدرك بالتقليد، واتباع الآباء، والجري على الإلف والعادة، لما صح ذلك.
وثانيها: لو كانت المعارف ضرورية وحاصلة بالإلهام لما صحّ وصف هذه الأمور بأنها آيات؛ لأن المعلوم بالضرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات.
وثالثها: أنّ سائر الأجسام والأعراض، وإن كانت تدلّ على الصانع، فهو تعالى خصّ هذه الثمانية بالذكر لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعماً على المكلفين على أوفر حظّ ونصيب، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشدّ تأثيراً في الخواطر. نقله الرازي.
ثم إن الله تعالى إنما أظهر هذه الآيات الدالة على وجوده، وتوحيده، رحمته، ليخصّه الخلق بالمحبة والعبادة.

.تفسير الآية رقم (165):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [165].
{وَ} لكن: {مِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً} أي: أمثالاً. مع أن الآيات منعت من أن يكون له ندّ واحد فضلاً عن جماعتها يسوّون بينهم وبين الله إذ: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} أي: يعظمونهم ويخضعون لهم كتعظيم الله والخضوع له. والأنداد هي: إما الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى، ورجوا منها النفع والضرّ، وقصدوها بالمسائل، ونذروا لها النذور وقرّبوا لها القرابين. وإمّا الرؤساء الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون، لاسيما في الأوامر والنواهي، ورجح هذا؛ لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166] وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ الرجال أنداداً، وأمثالاً لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون من الانقياد لله تعالى: {والذين آمنوا أشد حباً لله} من المشركين لأندادهم، لأنّ أولئك اشركوا في المحبة، والمؤمنون أخلصوها كلّها لله، ولأنهم يعلمون أن جميع الكمالات له ومنه، ولأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره، بخلاف المشركين فكانوا يعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره أو يأكلونه، كما أكلت باهلة إلهها من حيسٍ، عام المجاعة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في شرح المنازل في باب التوبة:
أما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة، وهو أن يتخذ من دون الله ندّاً يحبه كما يحب الله تعالى، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97- 98] مع إقرارهم بأن الله تعالى وحده خالق كل شيء، وربه، ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تميت ولا تحيي، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة، والتعظيم، والعبادة، كما هو حال أكثر مشركي العالم..! بل كلهم يحبون معبوديهم، ويعظمونها، ويوادونها من دون الله تعالى..! وكثير منهم- بل أكثرهم- يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله تعالى..! ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله تعالى..! ويغضبون بتنقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم ما يغضبون إذا انتقص أحدٌ رب العالمين..! وإذا انتقصت حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث أو الكلب..! وإذا انتهكت حرمات الله تعالى لم يغضبوا لها. بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئاً رضوا عنه، ولم تنكر له قلوبهم..! قد شاهدنا نحن وغيرنا هذا منهم.. انتهى.
وقال الإمام تقي الدين أحمد بن علي المقريزيّ رحمه الله:
ومن أجلّ الشرك، وأصله الشرك في محبة الله، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] الآية، فأخبر سبحانه أن من أحب مع الله شيئاً غيره، كما يحبه، فقد اتخذ ندّاً من دونه! وهذا على أصح القولين في الآية أنهم يحبونهم كما يحبون الله، وهذا هو العدل المذكور في قوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، والمعنى على أصح القولين: أنهم يعدلون به غيره في العبادة فيسوون بينه وبين غيره في الحب والعبادة، وكذلك قوله المشركين في النار لأصنامهم: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97- 98]، ومعلوم قطعاً أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونهم خالقيهم، فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مقرّين بأن الله تعالى وحده هو رَبُّهم وخالقهم، وأنّ الأرض ومن فيها لله وحده، وأنه ربّ السموات وربُّ العرش العظيم، وأنّه هو الذي بيده ملكوت كلّ شيء، وهو يجير ولا يجار عليه.... وإنما كانت هذه التسوية بينهم وبين الله تعالى في المحبّة والعبادة، فمن أحبّ غير الله تعالى، وخافه، ورجاه، وذلّ له كما يحبّ الله ويخافه ويرجوه فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى...! فعياذاً بالله! من أنْ ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام، كانسلاخ الحيّة من قِشرها، وهو يظن أنّه مسلم موحدٌ...!
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه:
والمتّخذ إلهه هواه، له محبة كمحبة المشركين لآلهتهم، ومحبّة عُبّاد العجل له، وهذه محبّة مع الله لا محبّة لله! وهذه محبّة أهل الشرك...! والنفوس قد تدّعي محبّة الله، وتكون في نفس الأمر محبة شرك تحب ما تهواه، وقد أشركته في الحب مع الله! وقد يخفى الهوى على النفس، فإن حبك الشيء يعمي وبصمّ..! وهكذا الأعمال التي يظنّ الْإِنْسَاْن أنه يعملها لله وفي نفسه شرك قد خفي عليه وهو يعلمه، إما لحبّ رياسة، وإمّا لحبّ مال، وإما لحبّ صورة...!.
ولهذا قالوا: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعةً وحميّةً ورياءً، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله...! فلمّا صار كثير من الصوفية النسّاك المتأخّرين يدّعون المحبّة- ولم يزنوها بميزان العلم والكتاب والسُّنة- دخل فيها نوعٌ من الشرك واتّباع الأهواء، والله تعالى قد جعل محبته موجبة لاتباع رسوله، فقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عِمْرَان: 31]، وهذا، لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبّه الله، وليس شيء يحبّه الله إلا والرسول يدعو إليه...! وليس شيءٌ يدعو إليه الرسول إلاّ والله يحبه...! فصار محبوب الربّ ومَدَعُوُّ الرسول متلازمين، بل هذا هو هذا في ذاته، وإنْ تنوعت الصفات...! انتهى.
{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي: باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود: {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} المعد لهم يوم القيامة: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} أي: القدرة كلها لله، على كل شيء، من العقاب والثواب، دون أندادهم: {وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} أي: العقاب للظالمين. وفائدة عطفها على ما قبلها: المبالغة في تهويل الخطب، وتفظيع الأمر، فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدّة العذاب، لجواز تركه عفواً مع القدرة عليه. وجواب لو: محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان، إما لعدم الإحاطة بكنهه، وإما لضيق العبارة عنه، وإمّا لإيجاب ذكره ما لا يستطيعه المعبّر أو المستمع من الضجر والتفجّع عليه، أي: لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم. ونظيره- في حذف الجواب- قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ} [الأنعام: 27] وقولهم: لو رأيت فلاناً والسياط تأحذه. وقرئ: {وَلَوْ تَرَىْ} بالتاء على خطاب الرسول أو كلّ مخاطب، أي: ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً في الفظاعة والهول.