فصل: سورة الفلق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.سورة الفلق:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [1- 5].
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} أي: ألوذ به وألتجئ إليه. والفلق فعل بمعنى المفعول، كقصَص بمعنى مقصوص.
قال ابن تيمية: كلُّ ما فلقَه الربُّ فهو فلق. قال الحسن: الفلق كل ما انفلق عن شيء كالصبح والحَب والنَّوى. قال الزجاج: وإذا تأملت الخلق بان لك أن أكثره عن انفلاق كالأرض بالنبات والسحاب بالمطر. وقد قال كثير من المفسرين: الفلق الصبح، فإنه يقال: هذا أبين من فلق الصبح وفرق الصبح.
وقال بعضهم: الفلق الخلق كله، وأما من قال: إنه وادٍ في جهنم أو شجرة في جهنم، أو: إنه اسم من أسماء جهنم، فهذا أمر لا نعرف صحته، لا بدلالة الاسم عليه، ولا بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في تخصيص ربوبيته بذلك حكمة، بخلاف ما إذا قال: رب الخلق أو رب كلِّ ما انفلق أو رب النور الذي يظهره على العباد بالنهار، فإن في تخصيصه هذا بالذكر. ما يظهر به عظمة الرب المستعاذ به. انتهى.
وقوله تعالى: {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} أي: من شر ما خلقه من الثقلين وغيرهم. كائناً ما كان من ذوات الطبائع والاختيار.
وقوله سبحانه: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} قال أبو السعود: تخصيص لبعض الشرور بالذِّكر، مع اندراجه فيما قبله لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة، وأدعى إلى الإعاذة. وقال الإمام ابن تيمية: وإذا قيل: الفلق يعمُّ ويخص، فبعمومه استعيذ من شر ما خلق، وبخصوصه للنور النهاريّ استعيذ من شر غاسق إذا وقب، فإن الغاسق قد فسر بالليل كقوله:
{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]، وهذا قول أكثر المفسرين، وأهل اللغة قالوا: ومعنى {وَقَبَ} دخل في كل شيء. قال الزجاج: الغاسق البارد. وقيل لليل: غاسق؛ لأنه أبرد من النهار. وقد روى الترمذي والنسائي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم «نظر إلى القمر فقال: يا عائشة! تعوَّذي بالله من شره، فإنه الغاسق إذا وقب». وروي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «الغاسق النجم». وقال ابن زيد: هو الثريا، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها. وهذا المرفوع قد ظن بعض الناس منافاته لمن فسره بالليل فجعلوه قولاً آخر، ثم فسروا وقوبه بسكونه. قال ابن قتيبة: ويقال: الغاسق القمر إذا كسف واسودَّ. ومعنى وقب دخل في الكسوف. وهذا ضعيف فإن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعارض بقول غيره، وهو لا يقول إلا الحق، وهو لم يأمر عائشة بالاستعاذة منه عند كسوفه بل مع ظهوره. وقد قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12]، فالقمر آية الليل، وكذلك النجوم إنما تطلع فترى بالليل، فأمره بالاستعاذة من ذلك أمرٌ بالاستعاذة من آية الليل ودليله وعلامته. والدليل مستلزم للمدلول. فإذا كان شر القمر موجوداً، فشر الليل موجود، وللقمر من التأثير ما ليس لغيره. فتكون الاستعاذة من الشر الحاصل عنه أقوى، ويكون هذا كقوله عن المسجد المؤسس على التقوى: «هو مسجدي» هذا مع أن الآية تتناول مسجد قباء قطعاً، وكذلك قوله عن أهل الكساء: «هؤلاء أهل بيتي» مع أن القرآن يتناول نساءه، فالتخصيص لكونه المخصوص أولى بالوصف، فالقمر أحق ما يكون بالاستعاذة، والليل مظلم منتشر فيه شياطين الإنس والجن مالا تنتشر بالنهار، ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار من أنواع الكفر والفسوق والعصيان والسرقة والخيانة والفواحش وغير ذلك، فالشر دائماً مقرون بالظلمة. ولهذا إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم، لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار، ويتوسلون بالقمر وبدعوته وعبادته، وأبو معشر البلخيّ له مصحف القمر يذكر فيه من الكفريات والسِّحريات ما يناسب الاستعاذة منه. انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله.
ثم خص تعالى مخلوقات أُخَر بالاستعاذة من شرها، لظهور ضررها وعسر الاحتياط منها، فلابد من الفزع إلى الله والاستنجاد بقدرته الشاملة على دفع شرها، فقال سبحانه: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} قال ابن جرير: أي: ومن شر السواحر اللاتي ينفثن في عُقد الخيط حين يَرقين عليها، وبه قال أهل التأويل، فعن مجاهد: الرقي في عقد الخيط. وعن طاوس: ما من شيء أقرب إلى الشرك من رقية المجانين، ومثله عن قتادة والحسن. وقال الزمخشري: النفاثات النساء أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط ويَنفثن عليها ويرقين. والنفث: النفخ مع ريق، ولا تأثير لذلك، اللهم إلا إذا كان ثَمَّ إطعام شيء ضار أو سقيه أو إشمامه، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه، ولكن الله عز وجل قد يفعل عند ذلك فعلاً على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام، فينسبه الحشوية والرّعاع إليهن وإلى نفثهن. والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبؤون به.
فإن قلت: فما معنى الاستعاذة من شرهن؟
قلت: فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر، ومن إثمهن في ذلك.
والثاني: أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما يخدعنهم به من باطلهن.
الثالث: أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهن. انتهى.
وفي الآية تأويل آخر، وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله، قال: النفاثات النساء، والعقد عزائم الرجال وآراؤهم، مستعار من عقد الحبال، والنفث وهو تليين العقدة من الحبل بريق يقذفه عليه ليصير حبلهُ سهلاً. فمعنى الآية: أن النساء لأجل كثرة حبِّهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة، فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن. كقوله:
{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]، فكذلك عظم الله كيدهن فقال: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28].
تنبيه:
قال الشهاب: نقل في التأويلات عن أبي بكر الأصم أنه قال: إن حديث «سحره صلوات الله عليه»، المروي هنا، متروك لِما يلزم من قول الكفرة أنه مسحور. وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه. ونقل الرازي عن القاضي أنه قال: هذه الرواية باطلة، وكيف يمكن القول بصحتها، والله تعالى يقول:
{وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وقال: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة، ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم، وكلُّ ذلك باطلٌ، ولكان الكفار يعيرونه بأنه مسحور. فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة، ولحصل فيه- عليه السلام- ذلك العيب. ومعلوم أن ذلك غير جائز. انتهى. ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن عليه، وإن كان مخرَّجاً في الصحاح؛ وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالماً من النقد، سنداً أو معنى، كما يعرفوه الراسخون. على أن المناقشة في خبر الآحاد معروفة من عهد الصحابة.
قال الإمام الغزالي في المستصفى: ما من أحد من الصحابة إلا وقد ردَّ خبر الواحد، كردِّ عليٍّ رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق، وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث. وكردِّ عائشة خبر ابن عمر في «تعذيب الميت ببكاء أهله عليه»، وظهر من عمر نهيه لأبي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك مما ذكر. أورد الغزالي ذلك في مباحث: خبر الآحاد في معرفة شبه المخالفين فيه، وذكر رحمه الله في مباحث الإجماع إجماعَ الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد، لأدلة ظاهرة قامت عندهم.
وقال الإمام ابن تيمية في المسودة: الصواب أن من رد الخبر الصحيح كما كانت الصحابة ترده، لاعتقاده غلط الناقل أو كذبه، لاعتقاد الراد أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق، وإن لم يكن اعتقاده مطابقاً، فقد رد غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث. انتهى.
وقال العلامة الفناري في فصول البدائع: ولا يضلل جاحد الآحاد، والمسألة معروفة في الأصول، وإنما توسعت في نقولها لأني رأيت من متعصبة أهل الرأي مَن أكبر ردَّ خبر رواه مثل البخاري، وضلل منكره، فعلمت أن هذا من الجهل بفنِّ الأصول، لا بأصول مذهبه، كما رأيت عن الفناري. ثم قلت: العهد بأهل الرأي أن لا يقيموا للبخاري وزناً، وقد ردوا المئين من مروياته بالتأويل والنسخ، فمتى صادقوه حتى يضللوا من رد خبراً فيه؟ وقد برهن على مدعاه. وقام يدافع عن رسول الله ومصطفاه.
وبعد، فالبحث في هذا الحديث شهير قديماً وحديثاً، وقد أوسع المقال فيه شراح الصحيح وابن قتيبة في شرح تأويل مختلف الحديث والرازي. والحق لا يخفى على طالبه. والله أعلم.
{وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} قال الزمخشري: أي: إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه من بغي الغوائل للمحسود. لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره، فلا ضرر يعود منه على حسده بل هو الضار لنفسه، لاغتمامه بسرور غيره.

.سورة الناس:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 6):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ والنَّاسِ} [1- 6].
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} أي: ألجأ إليه وأستعين به، و{رَبِّ النَّاسِ} الذي يُربيهم بقدرته ومشيئته وتدبيره، وهو رب العالمين كلِّهم والخالق للجميع.
{مَلِكِ النَّاسِ} أي: الذي ينفذ فيهم أمرُه وحكمه وقضاؤه ومشيئته دون غيره.
{إِلَهِ النَّاسِ} أي: معبودهم الحق وملاذهم إذا ضاق بهم الأمر، دون كل شيء سواه. والإله المعبود الذي هو المقصود بالإرادات والأعمال كلها.
{مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ} أي: الشيطان ذي الوسوسة. وقد زعم الزمخشري ومن تبعه، أن الوسواس مصدر أريد به الموسوس أو بتقدير: ذي. وحقق غير واحد أنه صفة كالثرثار، وأن فعلالاً مصدر: فعلل بالكسر، والمفتوح شاذ، وقد بسط الكلام في ذلك الإمام ابن القيم في بدائع الفوائد.
{الْخَنَّاسِ} أي: الذي عادته أن يخنس- أي: يتأخر- إذا ذكر الْإِنْسَاْنُ ربَّه، لأنه لا يوسوس إلا مع الغفلة، وكلَّما تنبَّه العبدُ فذكر اللهَ خنس.
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} أي: بالإلقاء الخفيّ في النفس، إما بصوت خفيّ لا يسمعهُ إلا من ألقي إليه، وإما بغير صوت.
قال ابن تيمية: والوسوسة من جنس الوشوشة بالشين المعجمة، يقال: فلان يوسوس فلاناً، وقد وشوشته إذا حدثه سراً في أذنه، وكذلك الوسوسة، ومنه وسوسة الحليّ، لكن هو بالسين المهملة، أخص.
وقال الإمام: إنما جعل الوسوسة في الصدور، على ما عهد في كلام العرب من أن الخواطر في القلب، والقلب مما حواه الصدر عندهم، وكثيراً ما يقال: إن الشك يحوك في صدره، وما الشك إلا في نفسه وعقله، وأفاعيل العقل في المخ، وإن كان يظهر لها أثر في حركات الدم وضربات القلب وضيق الصدر أو انبساطه.
وقوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيان للذي يوسوس على أنه ضربان: ضرب من الجِنَّة وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم، وإنما نجد في أنفسنا أثراً ينسب إليهم، وضرب من الإنس كالمضلِّلين من أفراد الْإِنْسَاْن، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام: 112]، وإيحاؤهم هو وسوستهم.
قال ابن تيمية: فإن قيل: فإن كان أصل الشر كلّه من الوسواس الخناس، فلا حاجة إلى ذكر الاستعاذة من وسواس الناس، فإنه تابع لوسواس الجن؟ قيل: بل الوسوسة نوعان: نوع من الجن، ونوع من نفوس الإنس. كما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16]، فالشر من الجهتين جميعاً. والإنس لهم شياطين كما للجن شياطين.
وقال أيضاً: الذي يوسوس في صدور الناس نفسه لنفسه، وشياطين الجن وشياطين الإنس، فليس من شرط الموسوس أن يكون مستتراً عن البصر، بل قد يشاهد.
لطائف:
الأولى: قال ابن تيمية: إنما خص الناس بالذكر؛ لأنهم المستعيذون، فيستعيذون بربهم الذي يصونهم، وبملكهم الذي أمرهم ونهاهم وبإلههم الذي يعبدونه من شر الذي يحلُّ بينهم وبين عبادته، ويستعيذون أيضاً من شر الوسواس الذي يحصل في نفوس منهم ومن الجِنَّة، فإنه أصل الشر الذي يصدر منهم والذي يرد عليهم.
وقال الناصر: في التخصيص جرى على عادة الاستعطاف. فإنه معهُ أتمّ.
الثانية: تكرر المضاف إليه وهو: الناس باللفظ الظاهر؛ لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة، فإن الإظهار أنسب بالإيضاح المسوق لهُ عطف البيان، وأدل على شرف الْإِنْسَاْن. وقيل: لا تكرار لجواز أن يراد بالعام بعض أفرادهُ، فالناس الأول بمعنى الأجنة والأطفال المحتاجين للتربية، والثاني الكهول والشبان، لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم، والثالث الشيوخ لأنهم المتعبدون المتوجهون لله.
قال الشهاب: وفيه تأمّل.
الثالثة: في تعداد الصفات العليا هنا إشارة إلى عِظَم المستعاذ منه، وأن الآفة النفسانية أعظم من المضار البدنية، حيث لم يكرر ذلك المستعاذ به في السورة قبلُ، وكررهُ هنا إظهاراً للاهتمام في هذه دون تلك. نقله الشهاب.
الرابعة: قال ابن تيمية: الوسواس من جنس الحديث والكلام، ولهذا قال المفسرون في قوله:
{مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} قالوا: ما تحدث به نفسه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي ما تحدِّث به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به»، وهو نوعان: خبر وإنشاء، فالخبر إما عن ماض وإما عن مستقبل، فالماضي يذكره والمستقبل يحدثه بأن يفعل هو أموراً، أو أن أموراً ستكون بقدر الله أو فعل غيره، فهذه الأمانيّ والمواعيد الكاذبة، والإنشاء أمر ونهي وإباحة.
الخامسة: قال ابن تيمية: الفرق بين الإلهام المحمود وبين الوسوسة المذمومة هو الكتاب والسنة، فإن كان مما ألقى في النفس مما دل الكتاب والسنة على أنهُ تقوى لله، فهو من الإلهام المحمود، وإن كان مما دلّ على أنهُ فجور، فهو من الوسواس المذموم، وهذا الفرق مطرد لا ينقض.
وقد ذكر أبو حازم في الفرق بين وسوسة النفس والشيطان، فقال: ما كرهتهُ نفسك لنفسك فهو من الشيطان، فاستعِذ بالله منه، وما أحبَّتهُ نفسك لنفسك فهو من نفسك فانهها عنهُ.
السادسة: قال الإمام الغزالي في الإحياء في بيان تفصيل ما ينبغي أن يحضر في القلب عند كلِّ ركن وشرط من أعمال الصلاة، ما مثاله: وإذا قلت:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فاعلم أنه عدوك ومرصد لصرف قلبك عن الله عز وجل، حسداً لك على مناجاتك مع الله عز وجل وسجودك له، مع أنه لعن بسبب سجدة واحدة تركها ولم يوفَّق لها، وإنَّ استعاذتك بالله سبحانه منه بترك ما يحبه، بما يحب الله عز وجل لا بمجرد قولك، فإن من قصده سبُعٌ أو عدوٌّ ليفترسه أو ليقتله فقال:
أعوذ منك بهذا الحصن الحصين- وهو ثابت على مكانه ذلك- لا ينفعه، بل لا يفيده إلا بتبديل المكان، فكذلك من يتبع الشهوات التي هي محابُّ الشيطان ومكاره الرحمن، فلا يغنيه مجرد القول، فليقترن قوله بالعزم على التعوذ بحصن الله عز وجل عن شر الشيطان، وحصنه: لا إله إلا الله إذ قال عز وجل فيما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم: «ولا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي». والمتحصن به من لا معبود له سوى الله سبحانه، فأما من اتخذ إلهه هواه، فهو في ميدان الشيطان لا في حصن الله عز وجل. انتهى.
وملخصه أن التعوذ ليس هو مجرد القول، بل القول عبارة عما كان للمتعوذ من ابتعاده بالفعل عما يتعوذ منه، فكان ترجمة لحالهم. وهذا المعنى كان يلوح لي من قبل أن أراه في كلام حجَّة الإسلام، حتى رأيته فحمدت الله على الموافقة.
السابعة: قال الإمام الغزالي في الإحياء أيضاً، في بيان تسلط الشيطان على القلب بالوسواس: ومعنى الوسوسة وسبب غلبتها، ما مثاله:
اعلم أن القلب في مثال قبَة مضروبة لها أبواب تنصبُّ إليه الأحوالُ من كل باب، ومثالهُ أيضاً مثال هدف تنصبُّ إليه السهام من الجوانب. أو هو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف السور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورة ولا يخلو عنها. أو مثال حوض تصبُّ فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه. وإنما مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال، إما من الظاهر فالحواس الخمس، وإما من الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الْإِنْسَاْن، فإنه إذا أدرك بالحواس شيئاً حصل منه أثر في القلب، وكذلك إذا هاجت الشهوة مثلاً بسبب كثرة الأكل وسبب قوة المزاج، حصل منها في القلب أثر، وإن كف عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر.
والمقصود أن القلب في التغير والتأثر دائماً من هذه الأسباب، وأخص الآثار الحاصلة في الخواطر، وأعني الخواطر ما يحصل فيه من الأفكار والأذكار، وأعني به إدراكاته علوماً، إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر، فإنها تسمى خواطر من حيث إنها تخطر بعد أن كان القلب غافلاً عنها.
والخواطر هي المحركات للإرادات، فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوي بالبال لا محالة. فمبدأ الأفعال الخواطر. ثم الخاطر يحرك الرغبة، والرغبة تحرك العزم، والعزم يحرك النية، والنية تحرك الأعضاء. والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو للشر، أعني إلى ما يضر في العاقبة، وإلى ما يدعو إلى الخير، أعني إلى ما ينفع في الدار الآخرة. فهما خاطران مختلفان. فافتقرا إلى اسمين مختلفين. فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً والخاطر المذموم، أعني الداعي إلى الشر، يسمى وسواساً. ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة، ثم أن كل حادث فلابد له من محدث، ومهما اختلفت الحوادث دلَّ ذلك على اختلاف الأسباب، هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب. فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار، وأظلم سقفه واسودّ بالدخان، علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة، وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان: فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكاً، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً. واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخبر يسمى توفيقاً، والذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمى إغوائاً وخذلاناً. فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامٍ مختلفة، والملك عبارة عن خلق خلقه الله تعالى، شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالخير والأمر بالمعروف، وقد خلقه وسخره لذلك. والشيطان عبارة عن خلق شأنهُ ضد ذلك، وهو الوعد بالشر والأمر بالفحشاء والتخويف عند الهم بالخير بالفقر، فالوسوسة في مقابلة الإلهام. والشيطان في مقابلة الملك، والتوفيق في مقابلة الخذلان.
ثم قال الغزالي: ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذِكر سوى ما يوسوس به؛ لأنه إذا خطر في القلب ذكر شيء انعدم منه ما كان من قبل. ولكن كل شيء سوى الله تعالى وسوى ما يتعلق به، فيجوز أيضاً أن يكون مجالاً للشيطان. وذكر الله تعالى هو الذي يؤمن جانبه ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال، ولا يعالج الشيء إلا بضده. وضد جميع وساوس الشيطان ذكر الله بالاستعاذة والتبرؤ عن الحَوْل والقوة، وهو معنى قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وذلك لا يقدر عليه إلا المتَّقون الغالب عليهم ذِكْرُ الله تعالى، وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
ثم قال: فالوسوسة هي هذه الخواطر، والخواطر معلومة، فإذن الوسواس معلوم بالمشاهدة، وكل خاطر فله سبب، ويفتقر إلى اسم يعرّفه، فاسم سببهُ الشيطان، ولا يتصور أن ينفك عنه آدميّ، وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته، فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام، والملك والشيطان والتوفيق والخذلان. انتهى.
??

??

??

??