فصل: تفسير الآية رقم (171):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (171):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [171].
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} أي: يصيح، يقال: نعق الراعي بغنمه: صاح بها وزجرها. وقوله تعالى: {بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء} أي: بالبهائم التي لا تسمع إلاّ دعاء الناعق ونداءه- الذي هو تصويت بها، وزجرٌ لما- ولا تفقه شيئاً آخر، ولا تعي كما يفهم العقلاء ويعون. وقد أفهم هذا الإيجاز البليغ تمثيلين في مثل واحد. فكأن وفاء اللفظ: مثل الذين كفروا ومثل داعيهم كمثل الراعي ومثل ما يرعى من البهائم. وهو من أعلى خطاب فصحاء العرب، ومن لا يصل فهمه إلى جمع المثلين، يقتصر على تأويله بمثل واحد، فيقدر في الكلام: ومثل داعي الذين كفروا. أشار لذلك الحراليّ فيما نقله البقاعي عنه.
وقال الفراء: أضاف تعالى المثل إلى الذين كفروا، ثمّ شبههم بالراعي ولم يقل كالغنم. والمعنى والله أعلم: مثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فأضاف التشبيه إلى الراعي والمعنى في المرعيّ. قال: ومثله في الكلام: فلان يخافك كخوف الأسد. المعنى كخوفه الأسد، لأن الأسد معروف أنه المَخُوف.
وقيل: أريدَ تشبيه حال الكافر في دعائه الصنم بحال من ينعق بما لا يسمعه. والمعنى: مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء، غير أنّه هو في دعاء ونداء. وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء. وقال ابن القيم في أعلام الموقعين: ولك أن تجعل هذا من التشبه المركّب، أن تجعله من التشبيه المفرّق. فإن جعلته من المركّب: كان تشبيهاً للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئاً غير الصوت المجرّد الذي هو الدعاء والنداء. وإن جعلته من التشبيه المفرق: فالذين كفروا بمنزلة البهائم، ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها، ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق، وإدراكهم مجرّد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرّد صوت الناعق. والله أعلم.
قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى اتّباع ما أنزل الله، تركوا النظر والتدبّر، وأخلدوا ِإلى التقليد، وقالوا: بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا، ضَرَبَ لهم هذا المثل تنبيهاً للسامعين لهم إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه: بسبب ترك الإصغاء، وقلة الاهتمام بالدين، فصيرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام...! ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار، ويحقّر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسراً لقلبه، وتضييقاً لصدره حيث صيّره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقة في التقليد. ثمّ زاد في تبكيتهم فقال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} فهم بمنزلة الصم: في أنّ الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه، وبمنزلة البُكْم: في أنهم لم يستجيبوا لما دُعوا إليه، وبمنزلة العُمْيِ: من حيث إنهم أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها. ولمّا كان طريق اكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاثة، فلمّا أعرضوا عنها، فقدوا العقل المكتسب. ولهذا قيل: من فقد حسّاً فقد علماً..!

.تفسير الآية رقم (172):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [172].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي: ما أخلصناه لكم من الشبه، ولا تعرضوا لما فيه دنس كما أحلّه المشركون من المحرّمات، ولا تحرموا ما أحلّوا منها من السائبة وما معها: {وَاشْكُرُواْ لِلّهِ} الذي رزقكم هذه النعم: {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ} أي: وحده: {تَعْبُدُونَ} أي: إن صَحَّ أنكم تخصونه بالعبادة، وتقرّون أنه سبحانه هو المنعم لا غير.
قال الإمام ابن تيمية في جواب أهل الإيمان: الطيبات التي أباحها هي المطاعم النافعة للعقول والأخلاق، والخبائث هي الضارة في العقول والأخلاق، كما أن الخمر أم الخبائث لأنها تفسد العقول والأخلاق. فأباح الله الطيبات للمتّقين التي يستعينون بها على عُبَاْدَة ربهم التي خلقوا لها. وحرّم عليهم الخبائث التي تضرّهم في المقصود الذي خلقوا له، وأمرهم مع أكلها بالشكر، ونهاهم عن تحريمها، فمن أكلها ولم يشكر ترك ما أمر الله به واستحق العقوبة، ومن حرّمها كالرهبان فقد تعدّى حدود الله فاستحق العقوبة.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله ليرضى عن العبد أنْ يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها». وفي حديث آخر: «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر».
وقال تعالى: {لتسألن يومئذ عن النعيم} [التكاثر: 8]. أي: عن شكره، فإنّه لا يبيح شيئاً ويعاقب من فعله، ولكن يسأله عن الواجب الذي أوجبه معه، وعمّا حرّمه عليه، هل فرّط بترك مأمور أو فعل محظور؟ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 78].
ولما قيد تعالى الإذن لهم بالطيب من الرزق، افتقر الأمر إلى بيان الخبيث منه ليجتنب، فبين صريحاً ما حرّم عليهم مما كان المشركون يستحلّونه ويحرّمون غيره وأفهم حلّ ما عداه، وأنه كثيرٌ جدًّا ليزداد المخاطب شكراً، فقال:

.تفسير الآية رقم (173):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [173].
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} وهي في عرف الشرع: ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة، إما في الفاعل أو في المفعول فدخل فيها: المنخنقة والموقوذة، والمتردّية، والنطيحة، وما عدا عليها السبُع.
قال ابن كثير: وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر، لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96]، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وحديث العنبر في الصحيح.
وفي المسند، والموطّأ، والسنن: قوله صلى الله عليه وسلم في البحر: «هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته».
وروى الشافعيّ وأحمد وابن ماجة والدارقطني حديث ابن عمر: «أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان الحوت والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال» {وَالدَّمَ} وهو المسفوح أي: الجاري، كما صرّح بذلك في الآية الأخرى والمفسّر قاضٍ على المبهم، وكان بعض العرب يجعل الدم في المصارين ثم يشويها ويأكلها ويسمونه الفصد. وفي القاموس وشرحه: والفصيد دمٌ كان يوضع في الجاهلية في معىً مِنْ فصد عرق البعير، ويشوى، وكان أهل الجاهلية يأكلونه ويطعمونه الضيف في الأزمة.
ويحكى: أنه بات رجلان عند أعرابيَّ فالتقيا صباحاً، فسأل أحدهما صاحبه عن القرى، فقال: ما قريت وإنما فُصْدَ لي. فقال لم يُحْرَمْ من فُصد له- بسكون الصاد- فجرى ذلك مثلاً لمن نال بعض المقصد، وسكّن الصاد تخفيفاً، أي: لم يحرم القرى من فصدت له الراحلة فحظي بدمها. ويروى: من فزْد له بالزاي بدل الصاد وتعضهم يقول: من قصد له- بالقاف- أي: من أعطى قصداً أي: قليلاً. وكلام العرب بالفاء. وقال يعقوب: تأويل هذا أنَّ الرجل كان يضيف الرجل في شدّة الزمان، فلا يكون عنده ما يقريه، ويشحّ أن ينحر راحلته، فيفصدها، فإذا خرج الدم سخّنه للضيف إلى أن يجمد ويقوى فيطعمه إيّاه {وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} ويدخل شحمه وبقية أجزائه في حكم لحمه: إما تغليباً، أو لأنّ اللحم يشمل ذلك لغةً، لأنه ما لَحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه، وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلده، وعرف غلبة استعماله على رطبه الأحمر، وهو هنا على أصله في اللغة، وإما بطريق القياس على رأيٍ؛ لأنه إذا حرّم لحمه الذي هو المقصود بالأكل وهو أطيب ما فيه كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم، ولمّا حرّم ما يضرّ الجسم ويؤذي النفس، حرّم ما يرين على القلب، فقال: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ} أي: ذُبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له. وأصل الإهلال: رفع الصوت أي: رفع به الصوت للصنم ونحوه، وذلك كقول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزّى.
وذكر القرطبيّ عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنه سئل عن امرأة عملت عرساً للُعَبِها، فنحرت فيه جزوراً، فقال: لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم. وذكر أيضاً عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عمّا يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم. والقَصْدُ سَدُّ ما كان مظنّةً للشرك.
قال النووي في شرح مسلم: فإن قصد الذابح مع ذلك تعظيم المذبوح له، وكان غير الله تعالى والعبادة له، كان ذلك كفراً، فإن كان الذابح مسلماً، قبل ذلك، صار بالذبح مرتداً. ذكره في الكلام على حديث علي رضي الله عنه: «لعن الله من ذبح لغير الله».
قال الحراليّ: وذَكْرُ الإهلال إعلامٌ بأنّ ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشدّ المحرم، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يُعلم من خفي الذكر. وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوماً يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سموا عليه أنتم وكلوه». قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر. فكأنَّ المحرّم ليس ما لم يعلم أنّ اسم الله ذكر عليه، بل الذي علم أنّ اسم الله قد أعلن به عليه.
وروي عن علي رضي الله عنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم فكلوا، فإن الله قد أحلّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
فصل فيما لتحريم هذه المذكورات من الحكم والأسرار الباهرات:
فأما الميتة: فقال الحراليّ: هي ما أدركه الموت من الحيوان عن ذبول القوّة وفناء الحياة، وهي أشد مفسد للجسم، لفساد تركيبها بالموت، وذهاب تلزز أجزائها، وعفنها، وذهاب روح الحياة والطهارة منها.
وقال المهايميّ في تفسيره: ثم أشار تعالى إلى أنه إنما يقطع محبته أكل ما حرّم، وهو الميتة وما ذكر معها. فأما الميتة فلأنها خبثت بنزع الروح منها بلا مطهر من الذبح باسم الله، تحقيقاً أو تقديراً فتتعلّق أرواحكم بالخبيث فتخبث، فينقطع عنها محبة الله. وإنما أبيح ميتة السمك لأن أصله الماء المطهر، فكما لا يؤثر فيه النجاسة، لا يؤثر نزع الروح فيما حصل منه، والجراد لأنّه حصل من غير تولد ولا خبث في ذاته كسائر الحشرات.
وأمّا خبث الدم فلأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام، ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء فهو ميتة.
وقال الإمام ابن تيمية: حرّم الدم المسفوح لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية، وزيادته توجب طغيان هذه القوى، وهو مجرى الشيطان من البدن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم».
وأما خبث لحم الخنزير: فَلأَذاه للنفس، كما حرّم ما قبله لمضرّتها في الجسم لأن من حكمة الله في خلقه: أن من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسانيته بنفسانية ذلك الشيء: «الكبر والخيلاء في الفدّادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم». فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة، حرّم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق. نقله البقاعيّ.
وقد كُشف لأطباء هذا العصر من مضار لحم الخنزير المبنية على التجارب الحسّية غير ما قالوه القدماء. فمن مضارّه: أنه يورث الدودة الوحيدة المتسبب من وجودها في الأمعاء أعراض كثيرة: كالمغص، والإسهال، والقيء، وفقد شهوة الطعام، أو النهم الشديد، وآلام الرأس، والإغماء، والدوار، واضطراب الفكر، وعروض نوبات صرعية، وتشنجات عصبية، وإصابة مرض دودة الشعر الحلزونية الذي يفوق الحمّى، ويودي بحياة المصاب...... إلى غير ذلك من التعب وعسر الهضم، ومضار سواها.
قال حكيم: فالإسلام لم يأت لإصلاح الروح فقط، بل لإصلاح الروح والجسم معاً..! فلم يترك ضارّاً لأحدهما إلا ونّبه عليه تصريحاً أو تلويحاً... وقد بسط الحكماء المتأخرون الكلام على مضرات لحم الخنزير في مقالات عديدة.
وأما خبث المهلّ به لغير الله: فلأنه يرين على القلب، لأنه تقرب به لغير موجده وخالقه تقرُّبَ عُبَاْدَة، وذلك من صريح الإشراك والاعتماد على غيره تعالى، فكان خبثه معنوياً لتأثيره على النفوس والأخلاق كتأثير المضر بالجسم والبدن، والشرع جاء للحفظ عما يضرّ مطلقاً، ولصيانة مقام التوحيد.
ولما كان هذا الدين يُسراً لا عُسرَ فيه ولا حَرَجَ، رفع حكم هذا التحريم عن المضطر. فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ} أي: ألجاه ملجئ بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأنْ أشرف على التلف، فأكل من شيء منه حال كونه: {غَيْرَ بَاغٍ} أي: غير طالب له راغب فيه لذاته. من بغى الشيء وابتغاه طلبه وحرص عليه {ولا عاد} أي: مجاوزٍ لسدّ الرمق وإزالة الضرورة: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وإن بقيت حرمته، لأنه إذا تناوله حال الاضطرار لا يؤثر فيه الخبث لأنه كارهٌ بالطبع. وقال الراغب: واختلف إذا اضطر إلى ذلك في دواء لا يسدّ غيره مسدّه. والصحيح أنه يجوز له تناوله للعلّة المذكورة، يعني: إبقاء روحه بجهة ما رآه أقرب إلى إبقائه، وهي التي أجيز تناوله ما ذكر له للجوع.
{إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ} لما أكله حال الضرورة: {رَّحِيمٌ} حيث رخّص لعباده في ذلك إبقاءً عليهم.
ثم أعاد تعالى وعيد كاتمي أحكامه، إثْر ما ذكره من الأحكام، تحذيراً لهذه الأمة أن يسلكوا سبيل من عنوا به، وهم أهل الكتاب، فقال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (174):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [174].
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} أي: من حدوده وأحكامه وغير ذلك مما أشارت إليه الآية الأولى بالبيّنات والهدى: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} أي: يأخذون بدله: {ثَمَناً قَلِيلاً} أي: مما يتمتعون به من لذات العاجلة، وقَلَّلَهَ لحقارته في نفسه، ففيه إشعار بدناءة نفوسهم حيث رضيت بالقليل، أو بالنسبة لما فَوَّتوه على انفسهم من نعيم الآخرة الذي لا يُحاط بوصفه: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} أي: ما يَسْتَتْبِعُ النارَ ويستلزمها، فكأنه عينُ النار، وأكلُهُ أكْلُهَا، و{فِي بُطُونِهِمْ} متعلق بـ: {يأكلون} وفائدته: تأكيد الأكل، وتقريره ببيان مقرّ المأكول.
قال الراغب: أكل النار: تناول ما يؤدي إليها، وذكر الأكل لكونه المقصود الأول بتحصيل المال، وذكر: {فِي بُطُونِهِمْ} تنبيهاً على شرههم وتقبيحاً لتضييع أعظم النعم لأجل الطعم الذي هو أحسّ متناولٍ من الدنيا....!
{وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال الراغب: لم يعن نفي الكلام رأساً، فقد قال: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، وقال: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ} [الكهف: 52]. وإنما أراد كلاماً يقتضي جدوى، ولهذا قال الحسن: معناه يغضب عليهم تنبيهاً أنهم بخلاف من قال فيهم: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}. وقيل: حقيقة: {كلمته} حملتُه على الكلام، نحو حركته، لأنّ مَنْ كلمتَه فقد استدعيت كلامه، فكأنه قيل: لا يستدعي كلامهم نحو قوله: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36].
{وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي: يطهرهم من دنس الذنوب لغضبه عليهم لأنهم كتموا، وقد علموا، فاستحقّوا الغضب: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: مؤلم.