فصل: تفسير الآية رقم (185):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (185):

القول في تأويل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [185].
{شَهْرُ رَمَضَانَ} لأن ذلك أفخم وآكد من تعيينه من أول الأمر.
وقال الراغب: جعل معالم فرضه على الأهلة ليبادر الإِنْسَاْن به في كل وقتٍ من أوقات السنة، كما يدور الشهر فيه من الصيف والشتاء والربيعين.
وفي رفع: {شَهْرُ} وجهان:
أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي شهر، يعني الأيام المعدودات. فعلى هذا يكون قوله: {الَّذِيَ أُنزِلَ} نعتاً للشهر أو لرمضان.
والثاني: هو مبتدأ.
ثم في الخبر وجهان:
أحدهما: {الَّذِيَ أُنزِلَ}.
والثاني: إنّ: {الَّذِيَ أُنزِلَ} صفة، والخبر هو الجملة التي هي قوله: {فَمَن شَهِدَ}.
فإن قيل: لو كان خبراً لم يكن فيه الفاء لأن شهر رمضان لا يشبه الشرط؟!.
قيل: الفاء- على قول الأخفش- زائدة. وعلى قول غيره: ليست زائدة، وإنما دخلت لأنك وصفت الشهر بـ: {الَّذِيَ}، فدخلت الفاء كما تدخل في خبر نفس الذي. ومثله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]. فإن قيل: فأين الضمير العائد على المبتدأ من الجملة؟ قيل: وضع الظاهر موضعه تفخيماً، أي: فمن شهده منكم. كذا في العكبري.
{الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أي: ابتدأ فيه إنزاله، وكان ذلك في ليلة القدر.
قال الرازي: لأن مبادي الملل والدول هي التي يؤرخ بها، لكونها أشرف الأوقات، ولأنها أيضاً أوقات مضبوطة معلومة.
وقال سفيان بن عيينة: معناه: أنزل في فضله القرآن. وهذا اختيار الحسين بن الفضل. قال: ومثله أن يقال: أنزل الله في الصديق كذا آية، يريدون: في فضله.
وقال ابن الأنباري: أنزل- في إيجاب صومه على الخلق- القرآن، كما يقال: أنزل الله في الزكاة كذا وكذا، يريد في إيجابها، وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها. والله أعلم.
قال الحرالي: أشعرت الآية أن في الصوم حسن تلقٍّ لمعناه، ويسراً لتلاوته، ولذلك جمع فيه بين صوم النهار وتهجد الليل، وهو صيغة مبالغة من القرء وهو ما جمع من الكتب والصحف والألواح. انتهى.
وفي مدحه- بإنزاله فيه- مدح للقرآن به، من حيث أشعر أن من أعظم المقاصد بمشروعيته تصفية الفكر لأجل فهم القرآن، ليوقف على حقيقة ما اتبع هذا به من أوصافه التي قررت ما افتتحت به السورة، من أنه لا ريب فيه، وأنه هدى على وجه أعم من ذلك الأول. فقال تعالى: {هُدًى لِّلنَّاسِ} نصب على الحال {وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} عطف على الحال قبله. فهي حال أيضاً. والظرف صفة. أي: أنزل حال كونه هداية للناس، وآيات واضحة مرشدة إلى الحق، فارقة بينه وبين الباطل. ولدفع سؤال التكرار في قوله: {وَبَيِّنَاتٍ} إلخ بعد قوله: {هُدًى لِّلنَّاسِ} حمل بعض المفسرين: {الْهُدَى} الأول بواسطة النكرة على الهدى الذي لا يقدر قدره المختص بالقرآن، أعنى هدايته بإعجازه. والثاني على الهدى الحاصل باشتماله على الواضحات من أمر الدين، والفرقان بين الحلال والحرام والأحكام والحدود والخروج من الشبهات.
وثمَّة وجه آخر نقله الرازي: وهو أن: {الْهُدَى} الثاني المراد به التوراة والإنجيل، قال تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عِمْرَان: 3- 4]. فبين تعالى أن القرآن- مع كونه هدى في نفسه- ففيه أيضاً هدى من الكتب المتقدمة التي هي هدى وفرقان، والله أعلم.
{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} هذا إيجاب حتمٌ على من شهد استهلال الشهر- أي: حضر فيه بأن كان مقيماً في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيح في بدنه- أن يصوم لا محالة. ووضع الظاهر موضع الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان. ثم أعيد ذكر الرخصة بقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لئلا يتوهم من تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير، أن الصوم حتم لا تتناوله الرخصة بوجه، أو تتناوله ولكنها مفضولة. وفيه عناية بأمر الرخصة، وأنها محبوبة له تعالى كما ورد. وفي إطلاقه، إشعار بصحة وقوع القضاء متتابعاً وغير متتابع: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} أي: تشريع السهولة بالترخيص للمريض والمسافر، وبقصر الصوم على شهر: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} في جعله عزيمة على الكل وزيادته على شهر.
قال الحرالي: اليسر: عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم. والعسر: ما يجهد النفس ويضر الجسم.
قال الشعبي: إذا اختلف عليك أمران، فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق، لهذه الآية.
وروى الإمام أحمد مرفوعاً: «إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره».
وروى أيضاً: «إن دين الله في يسر. ثلاثاً».
وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه قال لمعاذ وأبي موسى، حين بعثهما إلى اليمن: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا».
وفي السنن والمسانيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بالحنيفية السمحة».
أي التي لا إصر فيها ولا حرج كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
{وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علل لفعل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره. ولهذه الأمور شرع ذلك. يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخّص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطر. فقوله: {لِتُكْمِلُوا} علة الأمر بمراعاة العدة: {وَلِتُكَبِّرُوا} علّة ما علّم من كيفية القضاء، والخروج عن عهدة الفطر: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علّة الترخيص والتيسير. وهذا نوع من اللف لطيف المسلك، لا يكاد يهتدي إلى تبيّنه إلا النقّاب المحدث من علماء البيان!. وإنما عدّي فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد. كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم. ومعنى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: وإرادة أن تشكروا. ويجوز عطفها على اليسر، أي: يريد بكم لتكملوا... إلخ، كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا} إلخ. [الصف: 8] والمراد بالتكبير: تعظيمه تعالى والثناء عليه. كذا أفاده الزمخشري.
قال الحرّالي: وفي لفظ: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ} إشعارٌ لما أظهرته السنة من صلاة العيد، وأعلن فيها بالتكبير. وكرر مع الجهر فيها لمقصد موافقة معنى التكبير الذي إنما يكون علناً. وجعلت في براحٍ من متسع الأرض لمقصد التكبير، لأن تكبير الله إنما هو بما جلّ من مخلوقاته. انتهى ملخصاً.
وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ}. أي: ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم، كما قال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة: 200] وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] وقال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39- 40] ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات.
وقال ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير.
ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية. حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر، لظاهر الأمر في قوله: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وفي مقابلته مذهب أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يشرع التكبير في عيد الفطر. والباقون على استحبابه. انتهى.
وفي زوائد المشكاة عن عبد الله بن عُمَر أنه كان إذا غدا يوم الأضحى ويوم الفطر يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى. ثم يكبّر حتى يأتي الإمام. وفي رواية: رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رواه الدارقطني. وعن نافع أن ابن عمر كان يغدو إلى المصلى يوم الفطر إذا طلعت الشمس، فيكبّر حتى يأتي المصلّى، ثم يكبر بالمصلّى حتى إذا جلس الإمام ترك التكبير. رواه الشافعي.
قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي: حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعاً صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى، رواه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر من طرقٍ مرفوعاً وموقوفاً، وصحح وقفه. ورواه الشافعي موقوفاً أيضاَ.
وفي الأوسط عن أبي هريرة مرفوعاً: زينوا أعيادكم بالتكبير. إسناده غريب. انتهى.
وفائدة طلب الشكر في هذا الموضع، هو أنه تعالى، لما أمر بالتكبير، وهو لا يتم إلا بأن يعلم العبد جلال الله وكبرياءه وعزته وعظمته، وكونه أكبر من أن تصل إليه عقول العقلاء، وأوصاف الواصفين، وذكر الذاكرين. ثم يعلم أنه سبحانه- مع جلاله وعزته واستغنائه عن جميع المخلوقات، فضلاً عن هذا المسكين- خصه الله بهذه الهداية العظيمة- لابد وأن يصبر ذلك داعياً للعبد إلى الاشتغال بشكره، والمواظبة على الثناء عليه بمقدار قدرته وطاقته، فلهذا قال: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أفاده الرازي.

.تفسير الآية رقم (186):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [186].
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} قال الراغب: هذه الآية من تمام الآية الأولى. لأنه لما حث على تكبيره وشكره على ما قيّضه لهم من تمام الصوم، بيّن أن الذي يذكرونه ويشكرونه قريب منهم، ومجيب لهم إذا دعوه، ثم تمم ما بقي من أحكام الصوم.
قال الرازي: إن السؤال متى كان مبهماً، والجواب مفصلاً، دل الجواب على أن المراد من ذلك المبهم هو ذلك المعيّن. فلما قال في الجواب: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} علمنا أن السؤال كان عن القرب والبعد بحسب الذات، أي: كما صرحت به الرواية السابقة. والقريب من أسمائه تعالى الحسنى. ومعناه القريب من عبده بسماعه دعاءه، ورؤيته تضرعه، وعلمه به، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7].
قال الإمام تقي الدين ابن تيمية، عليه الرحمة، في عقيدته الواسطية:
ودخل- فيما ذكرناه من الإيمان بالله- الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة. من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه، عليٌّ على خلقه. وهو معهم سبحانه أينما كانوا. يعلم ما هم عاملون. كما جمع بين ذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة. وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق. بل القمر- آية من آيات الله- من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر أينما كان. وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش، وأنه معنا- حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة. ودخل في ذلك: الإيمان بأنه قريب من خلقه، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته». وما ذكر في الكتاب والسنة- من قربه ومعيته- لا ينافي ما ذكر من علوّه وفوقيته..! فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته. وهو عليٌّ في دنوه، قريب في علوه...!. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وقوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} تقرير للقرب وتحقيق له، ووعد للداعي بالإجابة. وقد قرئ في السبع بإثبات الياء في {الداع} و{دعان} في الوصل دون الوقف، وبالحذف مطلقاً.
تنبيهات:
الأول: في معنى الدعاء.
قال في القاموس وشرحه: الدعاء: الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير، والابتهال إليه بالسؤال، ويطلق على العبادة والاستغاثة.
الثاني: فيما فسر به قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ}.
قال ابن القيم في زاد المعاد في هديه صلى الله عليه وسلم في سجوده ما نصه: وأمر يعني النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء في السجود، وقال: إنه ضمن أن يستجاب لكم. وهل هذا أمر بأن يكثر الدعاء في السجود؟ أو أمر بأن الداعي إذا دعا في محل فليكن في السجود؟ وفرق بين الأمرين.! وأحسن ما يحمل عليه الحديث، أن الدعاء نوعان: دعاء ثناء، ودعاء مسألة. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في سجوده من النوعين. والدعاء الذي أمر به في السجود يتناول النوعين. والاستجابة- أيضاً- نوعان: استجابة دعاء الطالب بإعطائه سؤاله، واستجابة دعاء المثني بالثواب. وبكل واحدٍ من النوعين فسر قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. والصحيح أنه يعم النوعين. انتهى.
الثالث: فيمن هو الداعي المجاب:
قال الراغب: بين تعالى- في هذه الآية- إفضاله على عباده، وضمن أنهم إذا دعوه أجابهم، وعليه نبّه بقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. إن قيل: قد ضمن في الآيتين أن من دعاه أجابه، وكم رأينا من داع له لم يجبه؟! قيل: إنه ضمن الإجابة لعباده، ولم يرد بالعباد من ذكرهم بقوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم: 93]. وإنما عنى به الموصوفين بقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]، وقوله: {وَعِبَادُالرَّحْمَنِ} [الفرقان: 63] الآيات. وللدعاء المجاب شرائط وهي: أن يدعو بأحسن الأسماء، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] ويخلص النية، ويظهر الافتقار، ولا يدعو بإثم، ولا بما يستعين به على معاداته. وأن يعلم أن نعمته فيما يمنعه من دنياه كنعمته فيما خوله وأعطاه. ومعلوم أن من هذا حاله فمجاب الدعوة..!
وقال ابن القيم، عليه الرحمة، أيضاً في أول كتابه: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ما نصه، بعد جمل: وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب. ولكن قد يتخلف عنه أثره، إما لضعفه في نفسه، بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان. وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدًّا. فإن السهم يخرج منه خروجاً ضعيفاً. وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام والظلم ورين الذنوب عن القلوب واستيلاء الغفلة والسهو اللهو وغلبتها عليه، كما في صحيح الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ!». فهذا دواء نافع مزيل للداء. ولكن غفلة القلب عن الله، تبطل قوته. وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثم ذكر: الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك..؟!». وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه: أصاب بني إسرائيل بلاء، فخرجوا مخرجاً، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم: إنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إليَّ أكفاً قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن حين اشتد غضبي عليكم؟! ولن تزدادي مني إلا بعداً..!.
ثم قال ابن القيم رحمه الله: والدعاء من أنفع الأدوية. وهو عدو البلاء، يدافعه، ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن. كما روى الحاكم في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين، ونور السموات والأرض»، وله مع البلاء ثلاث مقامات: أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه. الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفاً. الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه....
وقد روى الحاكم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة»!. وفيه أيضاً، من حيث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. فعليكم عَبَّاد الله، بالدعاء»!.
وفيه أيضا: من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه»!.
ثم قال ابن القيم رضي الله عنه: ومن أنفع الأدوية الإلحاح في الدعاء. وقد روى ابن ماجة في سننه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه»! وفي صحيح الحاكم من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تعجزوا في الدعاء فإنه لا يهلك مع الدعاء أحد». وذكر الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب الملحّين في الدعاء»؟ وفي كتاب الزهد للإمام أحمد عن قتادة قال: قال مورّق: ما وجدت للمؤمن مثلاً إلا رجل في البحر على خشبة، فهو يدعو: يا رب! لعل الله عز وجل أن ينجيه..!.
ثم قال ابن القيم نوّر الله ضريحه: ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه، أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة، فيستحسر ويدع الدعاء. وهو بمنزلة من بذر بذرا أو غرس غرساً، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله..!. وفي البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي»!. وفي صحيح مسلم عنه: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل»! قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: «يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أر الله يستجيب لي، فيستحسر عند ذاك ويدع الدعاء». وفي مسند أحمد من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل». قالوا: يا رسول الله! كيف يستعجل؟ قال: «يقول: قد دعوت لربي فلم يستجب لي».
ثم قال:
فصل:
وإذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب، وصادف وقتاً من أوقات الإجابة الستة وهي: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم، وصادف خشوعاً في القلب، وانكساراً بين يدي الرب، وذلاً وتضرعاً ورقّة، واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله تعالى، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنّى بالصلاة على محمد عبده صلى الله عليه وسلم، ثم قدّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله وألح عليه في المسالة وتملّقه ودعاه رغبة ورهبة، وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدّم بين يدي دعائه صدقة، فإن هذا الدعاء لا يكاد يردّ أبداً. ولاسيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم. فمنها ما في السنن، وفي صحيح ابن حبان من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحدا..!. فقال: «لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دُعي به أجاب»!. وفي لفظ: «لقد سألت الله باسمه الأعظم». وفي السنن وصحيح ابن حبان أيضاً من حديث أنس بن مالك أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ورجل يصلي، ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنّان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى». وأخرج الحديثين أحمد في مسنده وفي جامع الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]. وفاتحة آل عِمْرَان: {الم اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}». قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي مسند أحمد وصحيح الحاكم من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك وربيعة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام». يعني: تعلقوا بها والزموها وداوموا عليها. وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء فقال: «سبحان الله العظيم» وإذا اجتهد في الدعاء قال: «يا حي يا قيوم»! وفيه أيضاً من حديث أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال: «يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث».
وفي صحيح الحاكم من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن: البقرة وآل عِمْرَان وطه».
قال القاسم: فالتمستها فإذا هي آية الحي القيوم. وفي جامع الترمذي وصحيح الحاكم من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوة ذي النون إذا دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط، إلا استجاب الله له». قال الترمذي: حديث صحيح. وفي صحيح الحاكم أيضاً من حديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم أمر مهم فدعا به يفجر الله عنه؟! دعاء ذي النون». وفي صحيحه أيضاً عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «هل أدلكم على اسم الله الأعظم؟ دعاء يونس». فقال رجل: يا رسول الله! هل كان ليونس خاصة؟ فقال: «ألا تسمع قوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] فأيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك، أعطي أجر شهيد. وإن برأ، برأ مغفوراً له!». وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم». وفي مسند الإمام أحمد: من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: علّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل بي كرب أن أقول: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين. وفي مسنده أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصاب أحداً قط همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك. أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي.... إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحاً» فقيل: يا رسول الله! ألا نتعلّمها؟ قال: «بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها».
وقال ابن مسعود: ما كرب نبي من الأنبياء إلا استغاث بالتسبيح.
ثم قال ابن القيم: وكثيراً ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله، أو حسنة تقدمت منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكراً لحسنته. أو صادف الدعاء وقت إجابة، ونحو ذلك، فأجيبت دعوته. فيظن الظان أن السر في لفظ ذلك الدعاء، فيأخذه مجرداً عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي. وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعاً في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي، فانتفع به، فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب كان غالطاً. وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس. ومن هذا، قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبرٍ فيجاب. فيظنّ الجاهل أن السر للقبر. ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله. فإذا حصل لك في بيت من بيوت الله كان أفضل وأحب إلى الله...
ثم قال ابن القيم: والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح. والسلاح بضاربه لا بحده فقط! فمتى كان السلاح سلاحاً تاماً لا آفة به، والساعد ساعدٌ قوي، والمانع مفقود، حصلت به النكاية في العدو..! ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة، تخلف التأثير..! فإن كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثم مانع من الإجابة؛ لم يحصل التأثير..!.
ثم قال ابن القيم: وهنا سؤال مشهور، وهو: أن المدعو به إن كان قد قدّر لم يكن بد من وقوعه، دعا به العبد أو لم يدع، وإن لم يكن قد قدّر لم يقع، سواء سأله العبد أو لم يسأله. فظنت طائفة صحة هذا السؤال، فتركت الدعاء وقالت: لا فائدة فيه! وهؤلاء- مع فرط جهلهم وضلالهم- يتناقضون. فإن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب. فيقال لأحدهم: إن كان الشبع والريّ قد قدّر لك فلابد من وقوعهما. أكلت أو لم تأكل. وإن لم يقدرا لم يقعا. أكلت أو لم تأكل. وإن كان الولد قدر لك، فلابد منه، وطأت الزوجة والأمة أو لم تطأهما، وإن لم يقدر لم يكن. فلا حاجة إلى التزويج والتسري. وهلم جراً... فهل يقال: هذا عاقل أو آدمي؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته. فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.
وتكايس بعضهم، وقال: الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض. يثيب الله عليه الداعي من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما..! ولا فرق- عند هذا الكيّس- بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب. وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت، ولا فرق.... وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء: بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه أمارة على قضاء الحاجة، فمتى وفّق العبد للدعاء كان ذلك علامة له، وأمارة على أن حاجته قد قضيت... وهذا كما إذا رأيت غيماً أسود بارداً في زمن الشتاء. فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر.... قالوا: وهكذا حكم الطاعات مع الثواب، والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب، لا أنها أسباب له..! وهكذا- عندهم- الكسر مع الانكسار، والحرق مع الإحراق، والإزهاق مع القتل، ليس شيء من ذلك سبباً البتة، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا بمجرد الاقتران العادي لا التأثير السببي. وخالفوا بذلك، الحسّ والعقل والشرع وسائر طوائف العقلاء. بل أضحكوا عليهم العقلاء.... والصواب أن هاهنا قسماً ثالثاً غير ما ذكره السائل، وهو: إن هذا المقدور قدّر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجرّداً عن سببه ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور. وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه. وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال. وهذا القسم هو الحق، وهذا الذي حرمه السائل ولم يوفق له. وحينئذ، فالدعاء، من أقوى الأسباب. فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء، لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب، وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب! ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله وأفقههم في دينه، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم. وكان عمر رضي الله عنه يستنصر به على عدوه، وكان أعظم جنده، وكان يقول للصحابة: لستم تنصرون بكثرة وإنما تنصرون من السماء! وكان يقول: إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن همّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه....
فمن ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة، فإن الله سبحانه يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر: 60]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. وفي سنن ابن ماجة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه». وهذا يدل على أن رضاه في سؤاله وطاعته، وإذا رضي الرب تبارك وتعالى فكل خير في رضاه، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه... وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد أثراً: أنا الله لا إله إلا أنا، إذا رضيت باركت وليس لبركتي منتهى. وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الولد، وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم- على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها- على أن التقرب إلى رب العالمين، وطلب مرضاته، والبر والإحسان إلى خلقه، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر... فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمة الله بمثل طاعته والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه. وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وحصول السرور في الدنيا والآخرة- في كتابه- على الأعمال، ترتب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والمسبب على السبب. وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع، فتارة يرتب الحكم الخبري الكوني والأمر الشرعي على الوصف المناسب له، كقوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166]، وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55]، وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38]، وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى قوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35]، وهذا كثير جدًّا..!
وتارة ترتبه عليه بصيغة الشرط والجزاء: كقوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُم} [الأنفال: 29]، وقوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن: 16]، وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] ونظائره...
وتارة يأتي بلام التعليل: كقوله: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143].
وتارة يأتي بأداة كي التي للتعليل، كقوله: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُم} [الحشر: 7].
وتارة يأتي بباء السببية كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عِمْرَان: 182]، وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]، و{بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 39] وقوله: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنَا} [الإسراء: 98].
وتارة يأتي بالمفعول لأجله ظاهراً أو محذوفاً، كقوله: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282]، وكقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، وقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156]، أي: كراهة أن تقولوا.
وتارة بفاء السببية كقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ} [الشمس: 14] وقوله: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10]، وقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون: 48]، ونظائره.
وتارة يأتي بأداة لمّا الدالة على الجزاء، كقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55]، ونظائره.
وتارة يأتي بإن وما عملت فيه، كقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90]، وقوله في ضد هؤلاء: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 77].
وتارة يأتي بأداة لولا الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها، كقوله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 113- 114].
وتارة يأتي بلو الدالة على الشرط، كقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُم} [النساء: 66].
وبالجملة: فالقرآن- من أوله إلى آخره- صيح في ترتب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب، بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال. ومن تفقه في هذه المسألة، وتأملها حق التأمل، انتفع بها غاية النفع، ولم يتكل على القدر جهلاً منه وعجزاً وتفريطاً وإضاعة، فيكون توكّله عجزاً، وعجزه توكّلاً..! بل الفقيه- كل الفقيه- الذي يرد القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويعارض القدر بالقدر. لا يمكن للإنسان أن يعيش إلا بذلك..! فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر. والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر.... وهكذا من وفّقه الله وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة... فهذا وزن القدر المخوف في الدنيا وما يضاده، فرب الدارين واحد، وحكمته واحدة، لا يناقض بعضها بعضاً، ولا يبطل بعضها بعضاً. فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها، ورعاها حق رعايتها... والله المستعان.
ولكن يبقى عليه أمران بهما تتم سعادته وفلاحه:
أحدهما: أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير ويكون له بصيرة في ذلك بما شهده في العالم، وما جرّبه في نفسه وغيره، وما سمعه من أخبار الأمم قديماً وحديثاً.
ومن أنفع ما في ذلك: تدبر القرآن، فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه، وفيه أسباب الخير والشر جميعاً مفصلة مبينة، ثم السنة، فإنها شقيقة القرآن وهي الوحي الثاني. ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما من غيرهما، وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما، حتى كأنك تعاين ذلك عياناً... وبعد ذلك، فإذا تأملت أخبار الأمم، وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته، طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة، ورأيته بتفاصيل ما أخبر الله به ووعد به. وعلمت من آياته في الآفاق ما يدلك على أن القرآن حق، وأن الرسول حق، وأن الله ينجز وعده لا محالة..! فالتاريخ تفصيلٌ لجزئيات ما عرّفنا الله ورسوله من الأسباب الكلية للخير والشر... انتهى.
وقوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} أي: إذا دعوتهم للإيمان والطاعة، كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم: {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} أمر بالثبات على ما هم عليه: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي: راجين إصابة الرشد وهو الحق.
تنبيهان:
الأول: قال الراغب: أوثر فليستجيبوا على فليجيبوا للطيفة، وهي: أن حقيقة الاستجابة طلب الإجابة، وإن كان قد يستعمل في معنى الإجابة. فبين أن العباد متى تحروا إجابته بقدر وسعهم فإنه يرضى عنهم. إن قيل: كيف جمع بين الاستجابة والإيمان، وأحدهما يغني عن الآخر، فإنه لا يكون مستجيباً لله من لا يكون مؤمناً؟ قلنا: استجابته ارتسام أوامره ونواهيه التي تتولاه الجوارح، والإيمان هو الذي تقتضيه القلوب. وأيضاً فإن الإيمان المعني هاهنا هو الإيمان المذكور في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} [الأنفال: 2] الآية.
الثاني: قدمنا عن الراغب سر وصل هذه الآية بما قبلها، ووجه التناسب. وثمة سر آخر قاله الحافظ ابن كثير، وعبارته:
وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء، متخللة بين أحكام الصيام، إرشادٌ إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر. كما روى أبو داود الطيالسي في مسنده عن عبد الله بن عَمْرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة». فكان عبد الله بن عَمْرو إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا. وروى ابن ماجة عن عبد الله بن عَمْرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن للصائم عند فطره دعوة ما تردّ...» وكان عبد الله يقول إذا أفطر: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي... وروى الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين».