فصل: تفسير الآية رقم (211):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (211):

القول في تأويل قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [211].
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} المراد بهذا السؤال: تقريع بني إسرائيل وتوبيخهم على طغيانهم وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات، لا أن يجيبوا فيعلم من جوابهم أمر. كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد، يقول لمن حضره: سله كم أنعمت عليه؟ أي: كم شاهدوا المعجزات الظاهرة على أيدي أنبيائهم، القاطعة بصدقهم عليهم السلام فيما جاءوهم به: كعصا موسى، وفلقه البحر، وضربه الحجر، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر، ومن إنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى وصدق من جرت على يديه هذه الخوارق. ومع هذا أعرض كثير منهم عنها، وبدلوا نعمة الله عليهم بها كفراً كما أشعر بذلك قوله تعالى: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فالمراد بنعمة الله: آياته، فهو من وضع الظاهر موضع المضمر بغير اللفظ السابق، لتعظيم الآيات، ولا يخفى أنها من أجل أقسام نعم الله تعالى؛ لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة. وتبديلهم إياها: استبدالهم بالإيمان بها، الكفر بها والإعراض عنها. كما قال تعالى إخباراً عن كفار قريش: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 28- 29] وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} أي: وصلت إليه وتمكن من معرفتها أو عرفها، والتصريح بذلك- مع أن التبديل لا يتصور قبل المجيء- للإشعار بأنهم قد بدلوها بعد ما وقفوا على تفاصيلها، وفيه تقبيح عظيم بهم، ونعي على شناعة حالهم، واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا، بعد المعرفة..!.

.تفسير الآية رقم (212):

القول في تأويل قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [212].
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} حتى بدلوا النعمة: {الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} لحضورها، فألهتهم عن غائب الآخرة.
قال الحرالي: ففي ضمنه إشعار بأن استحسان بهجة الدنيا كفر ما، من حيث إن نظر العقل والإيمان يبصِّر طيّتها، ويشهد جيفتها، فلا يغتر بزينتها، وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحق، فأبهم تعالى المزين في هذه الآية ليشمل أدنى التزيين الواقع على لسان الشيطان، وأخفى التزيين الذي يكون من استدراج الله كما في قوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108].
وفي كلامه إشعار بما يجاب عن ورود التزيين، مسنداً إلى الله تعالى تارة وإلى غيره أخرى، في عدة آيات من التنزيل الكريم.
وللراغب كلام بديع ينحل به مثل هذا الإشكال وهو قوله:
إن الفعل كما ينسب إلى المباشر له، ينسب إلى ما هو سببه ومسهّله، وعلى هذا يصح أن ينسب فعلٌ واحدٌ تارة إلى الله تعالى وتارة إلى غيره، نحو قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11]، وفي موضع آخر: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُس} [الزمر: 42]. فأسند الفعل في الأول إلى المباشر له، وفي الثاني إلى الآمر به، وهكذا، يتصور ما ذكر، تزول الشبهة فيما يرى من الأفعال منسوباً إلى الله تعالى، منفياً عن الله تعالى، نحو قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17]، وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
{وَيَسْخَرُونَ}- أي: يهزأون-: {مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} وهذا كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29- 30] الآيات: {وَالَّذِينَ اتَّقَواْ} وهم المؤمنون، وإنما ذكروا بعنوان التقوى لحضهم عليها، وإيذاناً بترتب الحكم عليها: {فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لأنهم في عليين وهم في أسفل سافلين، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا، كما قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين: 34- 35].
ولذا قال الراغب: يحتمل قوله تعالى: {فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وجهين:
أحدهما: أن حال المؤمنين في الآخرة أعلى من حال الكفار في الدنيا.
والثاني أن المؤمنين في الآخرة هم في الغرفات، والكفار في الدرك الأسفل من النار. انتهى.
لطائف:
قال السيلكوتي: اعلم أن قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} إلخ جملة معللة لما سبق من أحوال الكفار من المنافقين وأهل الكتاب، يعني أن جميع ما ذكر من صفاتهم الذميمة، لأجل تهالكهم في محبة الحياة الدنيا وإعراضهم عن غيرها، وأورد التزيين بصيغة الماضي لكونه مفروغاً منه، مركوزاً في طبيعتهم. وعطف عليه بالفعل المضارع- أعني: {يَسْخَرُونَ}- لإفادة الاستمرار، وعطف قوله: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا} لتسلية المؤمنين.
وقوله تعالى: {وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} يعني: ما يعطي الله هؤلاء المتقين من الثواب بغير حساب أي: رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له ولا انقطاع، كقوله سبحانه: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40]، فإن كل ما دخل تحت الحساب والحصر والتقدير فهو متناه، فما لا يكون متناهياً كان لا محالة خارجاً عن الحساب.
وقد استقصى الراغب: ما تحتمله الآية من وجوهها- وتلك سعة- وعبارته: أعطاه بغير حساب: إذا أعطاه أكثر مما يستحق، أو أقلّ مما يستحق، والأول هو المقصود وهو المشار إليه بالإحسان، وقد فسر ذلك على أوجه لإجمال اللفظ وإبهامه.
الأول: يعطيه عطاء لا يحويه حصر العباد، كقول الشاعر:
عطاياه يُحصى قبل إحصاءها القطرُ

الثاني: يعطيه أكثر مما يستحقه.
الثالث: يعطيه ولا منّة.
الرابع: يعطيه بلا مضايقة. من قوله: حاسبه.
الخامس يعطيه أكثر مما يحسبه أن يكفيه- وكل هذه الوجوه يحتمل أن يكون في الدنيا، ويحتمل أن يكون في الآخرة.
السادس: أن ذلك إشارة إلى توسيعه على الكفار والفساق الذين قال فيهم: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف: 33]، وتنبيهاً أن لا فضيلة في المال لمن يوسع عليه، ما لم يستعن عليه في الوصول إلى المطلوب منه، ولهذا قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ} [المؤمنون: 55] الآية.
السابع: يعطي أولياءه بلا تبعة ولا حساب عليهم فيما يعطون، وذلك لأن المؤمن لا يأخذ من عرض الدنيا إلا ما يجب من حيث يجب على الوجه الذي يجب، ولا ينفقه إلا على ذلك، فهو يحاسب فلا يحاسب، ولهذا روي: من حاسب نفسه في الدنيا أمن الحساب في الآخرة. وعلى هذا قال تعالى لسليمان: {وهَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39].
الثامن: أن الله عز وجل يعامل في القيامة المؤمنين لا بقدر استحقاقهم بل بأكثر منه، كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] الآية.
التاسع: وهو يقارب ذلك: أن ذلك إشارة إلى ما روي أن أهل الجنة لا حظر عليهم، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ} [الزخرف: 71] الآية، وقوله: {و يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} الآية.
وأما تعلقه بما تقدم، فعلى بعض هذه التفاسير، يتعلق بالذين كفروا، وعلى بعضه يتعلق بالذين آمنوا.

.تفسير الآية رقم (213):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [213].
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: وجدوا أمة واحدة تتحد مقاصدها ومطالبها ووجهتها لتصلح ولا تفسد. وتحسن ولا تسيء، وتعدل ولا تظلم، أي: ما وجدوا إلا ليكونوا كذلك، كما قال في الآية الأخرى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19] أي: انحرفوا عن الاتحاد والاتفاق، الذي يثمر كل خير لهم وسعادة، إلى الاختلاف والشقاق المستتبع الفساد وهلاك الحرث والنسل، ولما كانوا لم يخلقوا سدىً منّ الله عليهم بما يبصّرهم سبيل الرشاد في الاتحاد على الحق من بعثة الأنبياء وما نزل معهم من الكتاب الفصل، كما أشارت تتمة الآية: {فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ} الذين رفعهم على بقية خلقه فأنبأهم بما يريد من أمره، وأرسلهم إلى خلقه: {مُبَشِّرِينَ} لمن آمن وأطاع: {وَمُنذِرِينَ} لمن كفر وعصى: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} أي: كلامه الجامع لما يحتاجون إليه في باب الدين على الاستقامة والهداية التامة؛ لكونه متلبساً: {بِالْحَقِّ} من جميع الوجوه: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} من الاعتقادات والأعمال التي كانوا عليها قبل ذلك أمة واحدة، فسلكوا بهم، بعد جهد، السبيل الأقوم، ثم ضلوا على علم بعد موت الرسل، فاختلفوا في الدين لاختلافهم في الكتاب: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} أي: الكتاب الهادي الذي لا لبس فيه، المنزل لإزالة الاختلاف: {إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ} أي: علموه فبدّلوا نعمة الله بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف. ولم يكن اختلافهم لالتباس عليهم من جهته بل: {مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} أي: الدلائل الواضحة-: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي: حسداً وقع بينهم: {فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} بالكتاب: {لِمَا اخْتَلَفُواْ} أي: أهل الضلالة: {فِيهِ مِنَ الْحَقِّ} أي: للحق الذي اختلفوا فيه. وفي إبهامه أولاً، وتفسيره ثانياً، ما لا يخفى من التفخيم: {بِإِذْنِهِ} أي: بتيسيره ولطفه {وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. تقرير لما سبق. وفي صحيح مسلم عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان- إذا قام من الليل يصلي يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل! فاطر السماوات والأرض! عالم الغيب والشهادة! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم...!».

.تفسير الآية رقم (214):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [214].
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} أي: من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين، أي: والحال أنه لم يأتكم مثلهم بعد، ولم تبتلوا بما ابتلوا به من الأحوال الهائلة التي هي مَثَلٌ في الفظاعة والشدة، سنة الله التي لا تتبدل: {مَّسَّتْهُمُ} اسستئناف وقع جواباً عما ينساق إليه الذهن، كأنه قيل: كيف كان مثلهم؟ فقيل: مسّتهم: {الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء} أي: الشدائد والآلام: {وَزُلْزِلُواْ} أي: أزعجوا، مما دهمهم من الأهوال والإفراغ، إزعاجا ًشديداً شبيهاً بالزلزلة التي تكاد تهدّ الأرض وتدك الجبال: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} أي: انتهى أمرهم من الشدة إلى حيث اضطرهم الضجر إلى أن يقول الرسول- وهو أعلم الناس بشؤون الله تعالى، وأوثقهم بنصره، وداعيهم إلى الصبر-: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ}- وهم الأثبت بعده، العازمون على الصبر، الموقنون بوعد النصر-: {مَتَى نَصْرُ اللّهِ}- استبطاء له، واستطالة لمدة الشدة والعناء- فيقال لهم: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}. كما قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح: 5- 6] أي: فاصبروا كما صبروا تظرفوا..!. وقد حصل من هذا الابتلاء جانب عظيم للصحابة رضي الله عنهم يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُوراً} [الأحزاب: 10- 12] الآيات.
وروى البخاري عن خَبَّاب بن الأرتّ رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها. فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه. والله! ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»..!.
وفي رواية: وهو متوسد بردة، وقد لقينا من المشركين شدة...
ولما سأل هرقل أبا سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم! قال: فكيف كانت الحرب بينكم قال: سجالاً، يدال علينا وندال عليه. قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة!.
وهذه الآية كآية: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1- 3].

.تفسير الآية رقم (215):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [215].
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} أي: شيء ينفقونه من أصناف الأموال؟: {قُلْ مَاأَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} قبل غيرهما ليكون أداء لحق تربيتهما مع كونه صلة الوصل وصدقة: {وَالأَقْرَبِينَ} بعدهما ليكون صلة وصدقة: {وَالْيَتَامَى} بعدهم لأن فيهم الفقر مع العجز: {وَالْمَسَاكِينِ} بعدهم لاحتياجهم: {وَابْنِ السَّبِيلِ} بعدهم لأنه كالفقير لغيبة ماله. فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال، فإنهم سألوا عن بيان ما ينفقون، وأجيبوا ببيان المصرف؟ فالجواب: أن قوله: {مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ} قد تضمن بيان ما ينفقونه- وهو كل مال عدّوه خيراً- وبني الكلام على ما هو أهم، وهو بيان المصرف، لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها. قال الشاعر:
إن الصنيعة لا تكون صنيعةً ** حتى يصاب بها طريق المصنع

فإذا صنعت صنيعةً فاعمد بها ** لله أو لذوي القرابة أو دَعِ

فيكون الكلام من الأسلوب الحكيم كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189]. فيما تقدم هذا.
وقال القفَّال: إنه وإن كان السؤال وارداً بلفظ ما إلا أن المقصود السؤال عن الكيفية، لأنهم كانوا عالمين أن الذي أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى. وإذا كان هذا معلوماً لم ينصرف الوهم إلى أن ذلك المال أي: شيء هو؟ وإذا خرج هذا عن أن يكون مراداً تعين أن المطلوب بالسؤال: أن مصرفه أي: شيء هو؟ وحينئذ يكون الجواب مطابقاً للسؤال. ونظيره قوله تعالى: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ} [البقرة: 70- 71] وإنما كان هذا الجواب موافقاً لذلك السؤال، لأنه كان من المعلوم أن البقرة هي البهيمة التي شأنها وصفتها كذا. فقوله: ما هي لا يمكن حمله على طلب الماهية، فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها، فبهذا الطريق قلنا: إن ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال. فكذا ههنا، لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو- وجب أن يقطع بأن مرادهم من قولهم: {مَاذَا يُنفِقُونَ}؟ ليس هو طلب الماهية، بل طلب المصرف، فلهذا حسن هذا الجواب...!.
وأجاب الراغب بجوابين:
أحدهما: أنهم سألوا عنهما وقالوا: ما ننفق؟ وعلى من ننفق؟ ولكن حذف حكاية السؤال، أحدهما: إيجازاً ودل عليه بالجواب بقوله: {مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ} كأنه قيل: المنفَق الخير، والمنفق عليهم هؤلاء، فلفف أحد الجوابين في الآخر، وهذا طريق معروف في البلاغة.
الجواب الثاني: أن السؤال ضربان: سؤال جدل، وحقه أن يطابقه جوابه. لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه. وسؤال تعلم، وحق المعلم أن يكون كالطبيب يتحرى شفاء سقيم، فيطلب ما يشفيه- طلبه المريض أو لم يطلب. فلما كان حاجتهم إلى من ينفق المال عليهم كحاجتهم إلى ما ينفق من المال، بين لهم الأمرين جميعاً. إن قيل: كيف خص هؤلاء النفر دون غيرهم..؟ قيل: إنما ذكر من ذكر على سبيل المثال لمن ينفق عليهم، لا على سبيل الحصر والاستيعاب، إذ أصناف المنفق عليهم على ما قد ذكر في غير هذا الموضع.
ولما بين تعالى وجه المصرف وفصله هذا التفصيل الحسن الكامل، أردفه بالإجمال فقال: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أي: وكل ما فعلتموه من خير- إما مع هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم- حسبة لله، وطلباً لجزيل ثوابه، وهرباً من أليم عقابه، فإن الله به عليم، والعليم مبالغة في كونه عالماً، يعني: لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فيجازيكم أحسن الجزاء عليه، كما قال: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} [آل عِمْرَان: 195] وقال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7].