فصل: تفسير الآية رقم (216):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (216):

القول في تأويل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [216].
{كُتِبَ} أي: فرض: {عَلَيْكُمُ الْقِتَال} أي: قتال المتعرضين لقتالكم، كما قال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190]، المراد بقتالهم الجهاد فيهم بما يبيدهم أو يقهرهم ويخذلهم ويضعف قوتهم.
قال بعض الحكماء: سيف الجهاد والقتال هو آية العز، وبه مصّرت الأمصار، ومدّنت المدن، وانتشرت المبادئ والمذاهب، وأيدت الشرائع والقوانين، وبه حمي الإسلام من أن تعبث به أيدي العابثين في الغابر، وهو الذي يحميه من طمع الطامعين في الحاضر، وبه امتدت سيطرة الإسلام إلى ما وراء جبال الأورال شمالاً، وخط الاستواء جنوباً، وجدران الصين شرقاً، وجبال البيرنه غرباً..!
قال: فيجب على المسلمين أن لا يتملّصوا من قول بعض الأوربيين: إن الدين الإسلامي قد انتشر بالسيف! فإن هذا القول لا يضر جوهر الدين شيئاً، فإن المنصفين من الأوربيين يعلمون أنه قام بالدعوة والإقناع، وأن السيف لم يجرد إلا لحماية الدعوة. وإنما التملص منه يضر المسلمين؛ لأنه يقعدهم عن نصرة الدين بالسيف، ويقودهم إلى التخاذل والتواكل، ويحملهم على الاعتقاد بترك الوسائل، فيستخذون إلى الضعف كما هي حالتهم اليوم، وتبتلعهم الأمم القوية التي جعلت شعار تمدنها: السيف أو القوة..!
قال: يجب على المسلمين أن يدرسوا آيات الجهاد صباح مساء، ويطيلوا النظر في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، لعلهم يتخفزون إلى مجاراة الأمم القوية المجاهدة في الأمم الضعيفة..!.
وقوله تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} من الكراهة، فوضع المصدر موضع الصوف مبالغة، كقول الخنساء:
فإنما هي إقبالٌ وإدبارٌ

كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له، أو هو فعل بمعنى مفعول- كالخبز بمعنى المخبوز- أي: وهو مكروه لكم، وهذا الكره إنما حصل من حيث نفور الطبع عن القتال- لما فيه من مؤنة المال، ومشقة النفس، وخطر الروح والخوف- فلا ينافي الإيمان؛ لأن كراهة الطبع جبلية، لا تنافي الرضاء بما كلف به، كالمريض الشارب للدواء البشع.
وفي القاموس وشرحه: الكره بالفتح ويضم: لغتان جيدتان بمعنى الإباء والمشقة.
قال ثعلب: قرأ نافع، وأهل المدينة في سورة البقرة: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} بالضم في هذا الحرف خاصة، وسائر القرآن بالفتح. وكان عاصم يضم هذا الحرف والذي في الأحقاف: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} [الأحقاف: 15]، ويقرأ سائرهن بالفتح. وكان الأعمش وحمزة والكسائي يضمون هذه الحروف الثلاثة والذي في النساء: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كُرْهَاً} [النساء: 19]، ثم قرأوا كل شيء سواها بالفتح. قال الأزهري: ونختار ما عليه أهل الحجاز: أن جميع ما في القرآن بالفتح إلا الذي في البقرة خاصة، فإن القراء أجمعوا عليه!. قال ثعلب: ولا أعلم بين الأحرف التي ضمها هؤلاء وبين التي فتحوها فرقاً في العربية، ولا في سنة تتبع، ولا أرى الناس اتفقوا على الحرف الذي في سورة البقرة خاصة، إلا أنه اسم وبقية القرآن مصادر.
قال الأزهري: وقد أجمع كثير من أهل اللغة: أن الكَره والكُره لغتان، فبأي لغة وقع فجائز، إلا الفراء فإنه فرق بينهما بأن الكره بالضم: ما أكرهت نفسك عليه، وبالفتح: ما أكرهك غيرك عليه. تقول: جئتك كُرهاً، وأدخلتني كَرهاً، وقال ابن سيده: الكَره: الإباء والمشقة تتكلفها فتحتملها، وبالضم: المشقة تحتملها من غير أن تكلفها. يقال: فعل ذلك كرهاً وعلى كره. قال ابن بري: ويدل لصحة قول الفراء قول الله عز وجل: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [آل عِمْرَان: 83]، ولم يقرأ أحد بضم الكاف. وقال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}، ولم يقرأ أحد بفتح الكاف. فيصير الكَره بالفتح، فعل المضطر، والكُره بالضم: فعل المختار.
{وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً}- كالجهاد في سبيل الله تعالى-: {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} إذ فيه إحدى الحسنين: إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة: {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً}- كالقعود عن الغزو-: {وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر: {وَاللّهُ يَعْلَمُ} ما هو خير لكم: {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ذلك، فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شقّ عليكم، فهو رؤوف بالعباد لا يأمرهم إلا بخير.
قال الحرالي: فنفي العلم عنهم بكلمة لا أي: التي هي للاستقبال حتى تفيد دوام الاستصحاب. وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً. قال: من حيث رتبة هذا الصنف من الناس من الأعراب وغيرهم، وأما المؤمنون- أي: الراسخون- فقد علّمهم الله من علمه ما علموا أن القتال خير لهم وأن التخلف شرٌّ لهم.
حتى إن علمهم ذلك أفاض على ألسنتهم ما يفيض الدموع وينير القلوب، حتى شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم في التوجه إلى غزوة بدر، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عَمْرو رضي الله عنه فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون! فوالذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه..! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشيروا علي أيها الناس»! فقال له سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه: والله! لكأنك تريدنا يا رسول الله! قال: «أجل». قال: فقد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينيك، فسر بنا على بركة الله.

.تفسير الآية رقم (217):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [217].
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} قال الراغب: السائل عن ذلك، قيل: أهل الشرك قصداً إلى تعيير المسلمين لما تجاوزوه من القتل في الشهر الحرام. وقيل: هم أهل الإسلام.
وقد أخرج الطبراني في الكبير والبيهقي في سننه، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن جُنْدب بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطاً، وبعث عليهم عبد الله بن جحش، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى. فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام. فأنزل الله هذه الآية فقال بعضهم: إن لم يكونوا أصابوا وزراً فليس لهم أجر، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 218]. الآية.
وأخرجه ابن منده من الصحابة عن ابن عباس.
وملخص ما ذكره الإمام ابن القيم في زاد المعاد وابن هشام في السيرة في الكلام على هذه السرية ونزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من الهجرة في اثني عشر رجلاً من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان على بعير، فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيراً لقريش، وفي هذه السرية سمي عبد الله بن جحش أمير المؤمنين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه. فلما سار يومين فتح الكتاب فوجد فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بنخلة- بين مكة والطائف- فترصد بها عيراً لقريش، وتعلم لنا من أخبارهم، فقال: سمعاً وطاعة! وأخبر أصحابه بذلك وبأنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، فأما أنا فناهض! فنهضوا كلهم، فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه، فتخلفا في طلبه. فبعد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة فيها عَمْرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كَيْسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام! فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على مقاتلتهم، فرمى أحدهم عَمْرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل فأعجزهم، ثم أقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله وقد عزلوا من ذلك الخمس- وهو أول خمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام- فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه واشتد تعييب قريش وإنكارهم ذلك، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالا فقالوا: قد أحل محمد الشهر الحرام، واشتد ذلك على المسلمين حتى أنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} الآية.
وقوله تعالى: {قِتَالٍ فِيهِ} بدل من الشهر، بدل الاشتمال، لأن القتال يقع في الشهر.
وقال الكسائي: وهو مخفوض على التكرير، يريد أن التقدير: عن قتالٍ فيه وهو معنى قول الفراء: مخفوض بعن مضمرة. وهذا ضعيف جدا لأن حرف الجر لا يبقى عمله بعد حذفه في الاختيار...! وقال أبو عبيدة هو مجرور على الجوار. وهو أبعد من قولهما، لأن الجوار من مواضع الضرورة والشذوذ، ولا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة. وفيه: يجوز أن يكون نعتاً لقتال، ويجوز أن يكون متعلقاً به كما يتعلق بقاتل.
وقد قرئ بالرفع في الشاذ، ووجهه على أن يكون خبر مبتدأ محذوف معه همزة الاستفهام، تقديره: أجائز قتال فيه؟.
{قُلْ} في جوابهم: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} أي: أمر كبير مستنكر، وقد كانت العرب لا تسفك دماً ولا تغير على عدو في الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. وسنذكر في تنبيه يأتي التحقيق في كون تحريم القتال فيها محكماً أو منسوخاً.
قال الراغب: إن قيل: لِمَ لَمْ يقل: القتال فيه كبير، وشرط النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها أن يعاد معرفاً، نحو: سألتني عن رجل والرجل كذا وكذا؟ قيل: في ذكره منكراً تنبيه على أن ليس كل القتال في الشهر الحرام هذا حكمه، فإن قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة لم يكن هذا حكمه، فقد قال: «أحلت لي ساعة من نهار ولم تكن تحل لأحد قبلي».
{وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ} أي: عن دينه الموصل إلى رضوانه، أو عن البيت الحرام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: سمى الحج: سبيل الله.
قال الحرالي: والصد: صرف إلى ناحية بإعراض وتكرّه، والسبيل: طريق الجادة السابلة عليه الظاهر لكل سالك منهجه. وصدّ مبتدأ.
{وَكُفْرٌ بِهِ} أي: بالسبيل- أعني الدين- أو بالله، عطف عليه {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} عطف على: {سَبِيلِ اللّهِ} أي: وصدٌّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام. وزعم الفراء أنه معطوف على الهاء في: {بِهِ} أي: كفر به وبالمسجد الحرام {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} أي: أهل المسجد الحرام- وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الذين هم أولياؤه- وهو عطف على: {صَدٌّ} أيضاً: {مِنْهُ} من المسجد الحرام، وخبر الأسماء الثلاثة: {أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ} جرماً مما فعلته السرية: من قتلهم إياهم في الشهر الحرام؛ لأن الإخراج فتنة: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} في الشهر الحرام، أي: فقد فعلوا بكم في المسجد الحرام ما هو أكبر من القتل فيه، وحرمة المسجد كحرمة الشهر..! هذا، وقيل: خبر: {صدُّ} و{كُفْرٌ} محذوف لدلالة ما تقدم عليه.
وأشار الرازي إلى إعراب آخر وهو: إن: {صدّ} و{كفرٌ} معطوفان على: {كَبِيرٌ} أي: قتال فيه، موصوف بهذه الصفات. وعليه فأكبر خبر إخراج فقط.
وقد جنح لهذا المهايمي حيث قال في تفسيره:
{قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} من المعاصي الكبائر، كيف وهو: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ} أي: عن التجارة التي جعلها الله سبيل الرزق لعباده، ولو استبيح هذا القتل فهو: {وَكُفْرٌ بِهِ} وصد عن: {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إذا قتل الحجاج الخارجون في الشهر الحرام، فهذا وجه تحريم القتال في هذا الشهر، ولكن: {إِخْرَاجُ أَهْلِهِ} أي: إخراجهم أهل المسجد الحرام وهم: النبي والمؤمنون: {مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ}... إلى آخره، وهذا الوجه من الإعراب بديع، والأكثرون على الأول.
قال ابن القيم في زاد المعاد في تأويل هذه الآية: يقول الله سبحانه: هذا الذي أنكرتموه عليهم- وإن كان كبيراً- فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله، والصد عن سبيله وعن بيته، وإخراج المسلمين- الذين هم أهله- منه، والشرك الذي أنتم عليه، والفتنة التي حصلت منكم به، أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام. ومما نسب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في هذا المعنى هذه الأبيات، ويقال هي لعبد الله بن جحش:
تعدّون قتلاً في الحرام عظيمةً ** وأعظمُ منه لوى الرشدَ راشدُ

صدودُكم عما يقول محمَدٌ ** وكفرٌ به، والله راءٍ وشاهدُ

وإخراجُكم من مسجد الله أهلَه ** لئلا يُرى لله في البيت ساجدُ

فإِنا وإِن عيَّرتمونا بقتله ** وأرجف بالإسلام باغٍ وحاسدُ

سَقَينا من ابن الحضرميّ رماحنا ** بنخلَة لمّا أوقد الحربَ واقدُ

دماً، وابن عبد الله عثمان بيننا ** ينازعه غُلٌّ من القِدِّ عانِدُ

قال ابن القيم في زاد المعاد: وأكثر السلف فسروا الفتنة هنا بالشرك، كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39]. ويدل عليه قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] أي: لم يكن مآل شركهم وعاقبته وآخر أمرهم إلا أن تبرأوا منه وأنكروه. وحقيقتها: أنه الشرك الذي يدعو صاحبه إليه، ويقاتل عليه، ويعاقب من لم يفتتن به. ولهذا يقال لهم وقت عذابهم بالنار وفتنتهم بها: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14].
قال ابن عباس: تكذيبكم. وحقيقته: ذوقوا نهاية فتنتكم وغايتها ومصير أمرها، كقوله: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر: 24]. وكما فتنوا عباده عن الشرك، فتنوا على النار وقيل لهم: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14]. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج: 10]، فسرت الفتنة- هنا- بتعذيبهم المؤمنين وإحراقهم إياهم بالنار، واللفظ أعمّ من ذلك. وحقيقته، عذبوا المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم. فهذه الفتنة المضافة إلى المشركين. وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه ويضيفها رسوله إليه كقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53]، وقول موسى: {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء} [الأعراف: 155] فتلك بمعنى آخر، وهي بمعنى الامتحان والاختبار والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر، بالنعم والمصائب. فهذه لون، وفتنة المشركين لون. وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر. والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية، وبين أهل الجمل وصفين، وبين المسلمين حتى يتقاتلوا ويتهاجروا- لون آخر- وهي الفتنة التي قال فيها محمد صلى الله عليه وسلم: «ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي...». وأحاديث الفتنة- التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها باعتزال الطائفتين- هي هذه الفتنة. وقد تأتي الفتنة مراداً بها المعصية، كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة: 49]. يقوله الجد بن قيس لما ندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، يقول: ائذن لي في القعود ولا تفتني بتعرضي لبنات الأصفر، فإني لا أصبر عنهن..!
قال تعالى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي: وقعوا في فتنة النفاق وفروا إليها من فتنة بنات الأصفر.
والمقصود: أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتل في الشهر الحرام، بل أخبر الله أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام، فهم أحق بالذم، والعيب والعقوبة، لاسيما أولياؤه. كانوا متأولين في قتالهم ذلك، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم. في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة مع رسوله وإيثار ما عند الله، فهم كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحدٍ ** جاءت محاسنه بألف شفيع

فكيف يقاس ببغيضٍ عدوٍّ جاء بكل قبيح ولم يأت بشفيع واحدٍ من المحاسن؟!.
تنبيه:
اتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية: حرمة القتال في الشهر الحرام. ثم اختلفوا أن ذلك الحكم هل بقي أم نسخ؟!.
قال ابن القيم في زاد المعاد في الفصل الذي عقده: لما كان في غزوة خبير من الأحكام الفقهية. ما نصه: منها محاربة الكفار ومقاتلتهم في الأشهر الحرم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة. فمكث بها ثم سار إلى خيبر في المحرم كذلك. قال الزهري عن عروة عن مروان والمسور، وكذلك قال الواقدي: خرج في أول سنة سبع من الهجرة. ولكن في الاستدلال بذلك نظر. فإن خروجه كان في آواخر المحرم لا في أوله، وفتحها إنما كان في صفر. وأقوى من هذا الاستدلال بيعة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحت الشجرة بيعة الرضوان على القتال وأن لا يفروا. وكانت في ذي القعدة. ولكن لا دليل في ذلك؛ لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يريدون قتاله، فحينئذ بايع الصحابة. ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام دفعاً، وإنما الخلاف أن يقاتل فيه ابتداء. فالجمهور جوَّزوه وقالوا: تحريم القتال فيه منسوخ، وهو مذهب الأئمة الأربعة رحمهم الله. وذهب عطاء وغيره إلى أنه ثابت غير منسوخ، وكان عطاء يحلف بالله ما يحل القتال في الشهر الحرام ولا نسخ من تحريمه شيء..! وأقوى من هذين الاستدلالين، الاستدال بحصار النبي صلى الله عليه وسلم للطائف. فإنه خرج إليها في أواخر شوال فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة، فبعضها كان في ذي القعدة. فإنه فتح مكة لعشر بقين من رمضان، وأقام بها بعد الفتح تسع عشرة يقصر الصلاة، فخرج إلى هوازن وقد بقي من شوال عشرون يوماً، ففتح الله عليه هوازن وقسم غنائمها. ثم ذهب منها إلى الطائف فحاصروه عشرين ليلة. وهذا يقتضي أن بعضها في ذي القعدة بلا شك. وقد قيل: إنما حاصرهم بضع عشرة ليلة. قال ابن حزم: وهو الصحيح بلا شك. وهذا عجيب منه. فمن أين له هذا التصحيح والجزم به..؟ وفي الصحيحين عن أنس بن مالك في قصة الطائف قال: فحاصرناهم أربعين يوماً فاستعصوا وتمنّعوا، وذكر الحديث. فهذا الحصار وقع في ذي القعدة بلا ريب. ومع هذا، فلا دليل في القصة لأن غزو الطائف كان في تمام غزوة هوازن. وهم بدأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال. ولما انهزموا دخل ملكهم- وهو مالك بن عوف النضري- مع ثقيف في حصن الطائف. فحاربت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان غزوهم من تمام الغزو التي شرع فيها، والله أعلم.
وقال الله تعالى في سورة المائدة وهي من آخر القرآن نزولاً وليس فيها منسوخ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة: 2]، وقال في سورة البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ}. فهاتان آيتان مدنيتان. بينهما في النزول نحو ثمانية أعوام. وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ناسخ لحكمها. ولا اجتمعت الأمة على نسخه. ومن استدل على النسخ بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]، ونحوها من العمومات، فقد استدل على النسخ بما لا يدل. ومن استدل عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عامر في سرية إلى أوطاس في ذي القعدة، فقد استدل بغير دليل، لأن ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال ولم يكن ابتداء منه لقتالهم في الشهر الحرام.
{وَلاَ يَزَالُونَ}- يعني أهل مكة-: {يُقَاتِلُونَكُمْ}- أيها المؤمنون-: {حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} أي: يرجعوكم عن دينكم الإسلام إلى الكفر: {إِنِ اسْتَطَاعُواْ} أي: قدروا على ردَّتكم. وفيه استبعاد لاستطاعتهم. فهو كقول الرجل لعدوه: إن ظفرت بي فلا تبق عليّ. وهو واثق أنه لا يظفر به. وجملة: {وَلاَ يَزَالُونَ} إما معطوفة على: {يَسْأَلُونَكَ} أو معترضة. والمقصود: تحذير المؤمنين منهم وعدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور، لاستحكام عداوتهم وإصرارهم على الفتنة في الدين.
وفي الآية إشعار بأنكم أحق بأن لا تزالوا تقاتلونهم، لأنهم قاطعون بأنكم على الحق وأنكم منصورون، وأنهم على الباطل وهم مخذولون، ولابد وإن طال المدى؛ لاعتمادكم على الله واعتمادهم على قوتهم. ومن وُكِل إلى نفسه ضاع. فالأمر الذي بينكم وبينهم أشد من الكلام. فينبغي الاستعداد له بعدَّته، والتأهب له بأهبته، فضلاً عن أن يلتفت إلى التأثر بكلامهم الذي توحيه إليهم الشياطين طعناً في الدين، وصداً عن السبيل. أشار لذلك البقاعي. ثم حذر تعالى عن الارتداد بقوله: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} وهو الإسلام. وبناء صيغة الافتعال من الردة المؤذنة بالتكلف، إشارة إلى أن من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه، فهو متكلف في ذلك: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي: بطلت جميع مساعيهم النافعة لهم، ورُدّت: {فِي الدُّنْيَا}- إذ يرفع الأمان عن أموالهم وأهلهم-: {وَالآخِرَةِ}- إذ يسقط ثوابهم، فلا يجزون ثمة بحسناتهم: {وَ} لا يقتصر عليه بل: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} أي: أهل النار: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} مقيمون لا يموتون ولا يخرجون كسائر الكفار.