فصل: تفسير الآية رقم (218):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (218):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [218].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} بحرمة الشهر في نفسه وجواز قتال المخرجين أهل المسجد الحرام منه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} فتركوا مكة وعشائرهم إذ أخرجوا من المسجد الحرام: {وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّه} ولو في الشهر الحرام للدفع عن أنفسهم: {أُوْلَئِكَ} وإن باشروا القتال في الشهر الحرام: {يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ} أي: جنته على إيمانهم وهجرتهم وجهادهم. وإنما ثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجوّ للإيذان بأنهم عالمون بأن العمل غير موجب للأجر، وإنما هو على طريق التفضل منه سبحانه، لا لأن في فوزهم اشتباهاً: {وَاللّهُ غَفُورٌ} لهتكهم حرمة الشهر: {رَّحِيمٌ} بما تجاوز عن قتالهم، مع قيام دليل الحرمة فلم يعاقبهم.

.تفسير الآية رقم (219):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [219].
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} هذه الآية أول آية نزلت في الخمر، على ما قاله ابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. ثم نزلت الآية التي في سورة النساء ثم نزلت الآية في المائدة.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمر أنه قال- لما نزل تحريم الخمر-: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً! فنزلت هذه الآية التي في البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً. فنزلت الآية التي في النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذا أقام الصلاة- نادى أن: لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً. فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قال عمر: انتهينا انتهينا.
وحقيقة الخمر: ما أسكر من كل شيء، وروى الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها، لم يشربها في الآخرة».
وأما الميسر: فهو القمار- بكسر القاف- مصدر من يَسَر- كالموعد والمرجع من فعلهما. يقال: يسرته إذا قمرته، واشتقاقه من اليُسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كدّ ولا تعب، أو من اليسار لأنه سلب يساره.
وصفته: أنه كانت لهم عشرة أقداح يقال لها الأزلام والأقلام وهي:
الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلْس- بكسر الحاء المهملة وسكون اللام وككتف- والنافس، والمُسبل- كُمحسن- والمعلَّى- كمعظّم، والمنيح- كأمير، والسفيح- بوزن ما قبله، والوغد لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها عشرة أجزاء كما قاله أبو عمر أو ثمانية وعشرين جزءاً كما قال الأصمعي وهو الأكثر، إلا ثلاثة منها وهي المنيح والسفيح والوغد فلا أنصباء لها. وإنما يكثر بها القداح كراهة التهمة. ولبعضهم:
لي في الدنيا سهام ** ليس فيهن ربيح

وأساميهن وغد ** وسفيح ومنيح

فللفذّ سهم- أي: فرض واحد- وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، يجعلونها في الربابة وهي خريطة ويضعونها على يدي عدل، ثم يجلجلها ويدخل يده فيُخرج. باسم رجل رجل، قدحاً منها. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه: البرم بفتحتين كذا في الكشاف بزيادة.
وفي القاموس وشرحه: الميسر: اللعب بالقداح، أو هو الجزور التي كانوا يتقامرون عليها، كانوا إذا أرادوا أن ييسروا اشتروا جزوراً نسيئة ونحروه وقسموه ثمانية وعشرين قسماً، أو عشرة أقسام فإذا خرج واحد واحدٌ باسم رجلٍ رجل، ظهر فوز من خرج لهم ذوات الأنصباء وغرم من خرج له الغفل. وإنما سمي الجزور ميسراً، لأنه يجزأ أجزاء. وكل شيء جزأته فقد يسرته، ويسرت الناقة جزأت لحمها، ويسر القوم الجزور أي: اجتزروها واقتسموا أجزاءها. قال سُحَيم بن وثيل اليربوعي:
أقول لهم بالشعب إذ يَيْسِرُونني ** ألم تعلموا أنّي ابنُ فارسِ زَهْدَمِ

كان وقع عليه سباء فضرب عليهم بالسهام. وقوله ييسرونني هو من الميسر، أي: يجزونني ويقتسمونني. وقال لَبِيد:
واعفف عن الجارات وامنحْ ** هُنّ مَيْسِرَك السَّمينا

فجعل الجزور نفسه ميسراً. ونقل الصاغاني، أن الميسر: النرد. وقال مجاهد: كل شيء فيه قمار فهو من الميسر. حتى لعب الصبيان بالجوز.
{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} أي: عظيم- وقرئ بالمثلثة- وذلك لما فيها من المساوي المنابذة لمحاسن الشرع. من الكذب والشتم وزوال العقل واستحلال مال الغير: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} دنيوية من اللذة والطرب والتجارة في الخمر. وإصابة المال بلا كدّ في الميسر. وفي تقديم بيان إثمه، ووصفه بالكب، وتأخير ذكر منافعه مع تخصيصها بالناس، من الدلائل على غلبة الأول- ما لا يخفى على ما نطق به قوله تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أكْبَرُ مِن نفْعِهِمَا} أي: المفاسد المترتبة على تعاطيهما أعظم من الفوائد المترتبة عليه. أي: لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين. وفي هذا من التنفير عنها ما لا يخفى. ولهذا كانت هذه الآية ممهّدة لتحريم الخمر على البتات، ولم تكن مصرحة بل معرضة، ولهذا، قال عمر لما قرأت عليه: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً! حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90- 91].
تنبيه:
ألف كثير من أعلام الأطباء والفلاسفة مؤلفات خاصة في مضرات المسكرات.
ولم تزل تعقد في بعض ممالك النصارى مؤتمرات دولية، تدعى إليه نواب من جميع دول العالم الكبيرة لمحاربة المسكرات، وعيافها، وإعلان تأثيرها في الأجساد والعقول والأرواح، وما ينشأ عنها من الخسران المالي، ومما قرره خمسون طبيباً منهم هذه الجمل:
1- إن المسكرات لا تروي الظمأ بل تزيده.
2- إنها لا تفيد شيئاً في قضاء الأعمال.
3- إنها توقف النمو العقلي والجسدي في الأولاد.
4- إنها تضعف قوة الإرادة فتفضي إلى ارتكاب الموبقات، وتجر إلى الفقر والشقاء.
5- هي من المسكنات كالبنج والإيثر.
6- إنها تعد للأمراض المعدية.
7- إنها تعد بنوع خاص للتدرن والسل.
8- إنها تضر في ذات الرئة والحمى التيفودية أكثر مما تنفع.
9- إنها تقرب النهاية المحزنة في الأمراض التي تنتهي بالموت، وتطيل مدة الشفاء في الأمراض التي تنتهي بالصحة.
10- إنها تعد لضربة الشمس والرعن في أيام الحر.
11- إنها تسرع بإنفاق الحرارة في أيام البرد.
12- إنها تغير مادة القلب والأوعية الدموية.
13- إنها كثيراً ما تسبب التهاب الأعصاب، والآلام المبرحة.
14- إنها تسرع بحويصلات الجسم إلى الهدم.
15- إن المقدار العظيم الذي يتناوله أصحاب الأعمال الجسدية من أشربتها هو سبب شقائهم وفقرهم وذهاب صحتهم.
16- إن الامتناع عنها مما يقضي إلى صحة وسعادة الجنس البشري.
{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} أي: يتصدقون به من أموالهم: {قُلِ الْعَفْوَ} وهو ما يفضل عن النفقة، أي: الفاضل الذي يمكن التجاوز عنه لعدم الاحتياج إليه.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وأبدأ بمن تعول».
وأخرج مسلم عن جابر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا».
وروى أبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عندي دينار، قال: «أنفقه على نفسك». قال عندي آخر، قال: «أنفقه على ولدك». قال: عندي آخر، قال: «أنفقه على أهلك». قال: عندي آخر، قال: «أنفقه على خادمك». قال: عندي آخر، قال: «أنت أعلم».
{كَذَلِكَ}- أي: كما بين لكم ما ذكر-: {يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} أي: الأمر والنهي وهوان الدنيا: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}.

.تفسير الآية رقم (220):

القول في تأويل قوله تعالى: {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [220].
{فِي الدُّنْيَا} أنها فانية- والآخرة- أنها باقية، وفي أمورهما لتصلحوها ولا تتحملوا مفسداتهما، فلا تتركوا اللذائذ الباقية للذائذ الفانية.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم، عن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه وشرابه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتدّ ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الآية فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. وقوله تعالى: {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} أي: مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خيرٌ من مجانبتهم. وإنما أقيم غاية المداخلة- أعني الإصلاح- مقامها، تنبيهاً على أن المأمور به مداخلة يكون ترتب الإصلاح عليها ظاهراً، كأنها عين الإصلاح: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} تعاشروهم ولم تجانبوهم: {فَإِخْوَانُكُمْ} فهم إخوانكم في الدين- الذي هو أقوى من العلاقة النسبية. ومن حقوق الأخوة: المخالطة بالإصلاح والنفع.
قال الأصبهاني: وإذا كان هذا في أموال اليتامى واسعاً، كان في غيرهم أوسع. وهو أصل شاهد لما يفعله الرفاق في الأسفار. يخرجون النفقات بالسوية، ويتباينون في قلة المطعم وكثرته.
{وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ} لأموالهم: {مِنَ الْمُصْلِحِ} لها، فيجازيه على حسب مداخلته، فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ} لحملكم على العنت- وهو المشقة- وأحرجكم، فلم يطلق لكم مداخلتهم، ولا يمنعه من ذلك شيء {إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ} أي: غالب على ما أراد: {حَكِيمٌ} أي: فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة الداعية إلى بناء التكليف على أساس الطاقة.
هذا، وقد حمل القاضي قوله تعالى: {قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} على جهات المصالح والخيرات العائدة إلى الولي واليتيم. قال رحمه الله: هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما لكي ينشأ على علم وأدب وفضل، لأن هذا الصنع أعظم تأثيراً فيه من إصلاح حاله بالتجارة. ويدخل فيه أيضاً إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة. ويدخل أيضاً معنى قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّب} [النساء: 2]. ومعنى قوله: {خَيْرٌ} يتناول حال المتكفل. أي: هذا العمل خير له من أن يكون مقصراً في حق اليتيم. ويتناول حال اليتيم أيضاً. أي: هذا العمل خير لليتيم من حيث إنه يتضمن صلاح نفسه وصلاح ماله. فهذه الكلمة جامعة لجميع مصالح اليتيم والولي.
وروى البخاري عنه سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا». وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما. وروى نحوه مسلم أيضاً في صحيحه.

.تفسير الآية رقم (221):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [221].
{وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} أي: لا تتزوجوا الوثنيات حتى يؤمن بالله تعالى.
قال ابن كثير: هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عَبْدة الأوثان، ثم إن كان عمومها مراداً، وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة: 5].
وقد بسط العلامة الرازي هاهنا الكلام على أن لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب؟ فانظره.
والتحقيق: أن المشرك لا يتناول الكتابي، لأن آيات القرآن صريحة في التفرقة بينهما. وعطف أحدها على الآخر في مثل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 6]. وسر ذلك أن المشرك هو من يتدين بالشرك. أي: يكون أصل دينه الإشراك، والكتابي- وإن طرأ في دينه الشرك- فلم يكن من أصله وجوهره.
وقوله تعالى: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} تعليل للنهي عن مواصلتهن، وترغيب في مواصلة المؤمنات، أي: ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر، خيرٌ من مشركة مع ما لها من شرف الحرية ورفعة الشأن. فإن نقصان الرِّقِّيَّة فيها مجبور بالإيمان الذي هو أجلّ كمالات الْإِنْسَاْن: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} أي: المشركة بحسنها ونسبها وغيرهما. فإن نقصان الكفر لا يجبر بها: {وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ} بضم التاء- من الإنكاح، وهو التزويج أي: لا تزوّجوا الكفار- بأيّ كفر كان- من المسلمات: {حَتَّى يُؤْمِنُواْ} ويتركوا ما هم فيه من الكفر: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ} مع ما به من ذل الرِّقِّيَّة: {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} بداعي الرغبة فيه الدنيوية، فإن ذهاب الكفاءة بالكفر غير مجبور بشيء منها. وأفهم هذا خيرية الحرة والحر المؤمنين من باب الأولى، مع التشريف العظيم لهما بترك ذكرهما، إعلاماً بأن خيريتهما أمر مقطوع به وأن المفاضلة إنما هي بين من كلنوا يعدّونه دنيّاً فشرّفه الإيمان، ومن يعدّونه شريفاً فحقّره الكفران. ولذلك ذكر الموصوف بالإيمان في الموضعين ليدلّ على أنه- وإن كان دنياً- موضع التفضيل لعلوّ وصفه. وأثبت الوصف بالشرك في الموضعين مقتصراً عليه، لأنه موضع التحقير وإن علا في العرف موصوفه- أفاده البقاعي.
ثم أشار إلى وجه الحظر بقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ} أي: المذكورون من المشركات والمشركين: {يَدْعُونَ} من يقارنهم ويعاشرهم: {إِلَى النَّارِ} أي: إلى ما يؤدي إليها من الكفر والفسوق، فإن الزوجية مظنة الألفة والمحبة والمودة، وكل ذلك يوجب الموافقة في المطالب والأغراض، فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا..!: {وَاللّهُ يَدْعُوَ} أي بما يأمر به على ألسنة رسله: {إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ} أي: العمل المؤدي إليهما. وتقديم الجنة هنا على المغفرة مع سبقها عليها، لرعاية مقابلة النار ابتداءً: {بِإِذْنِهِ} بأمره: {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ} أمره ونهيه في التزويج: {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لكي يتعظوا وينتهوا عن تزويج الحرام، ويوالوا أولياء الله- وهم المؤمنون- بالمعاشرة والمصاهرة فيفوزوا بما دُعوا إليه من الجنة والغفران.
هذا وقد قيل: معنى: {وَاللَّهُ يَدْعُو} وأولياء الله يدعون، وهم المؤمنون، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، تشريفاً لهم، وتفخيماً لشأنهم، حيث جعل فعلهم فعل نفسه صورة، وملحظة رعاية المقابلة، كأنه قيل: أعداء الله يدعون إلى النار، وأولياء الله يدعون إلى الجنة والمغفرة. إلا إن فيه فوات رعاية تناسب الضمائر، فإن الضمير في المعطوف على الخبر أعني قوله تعالى: {وَيُبَيِّنُ} الله تعالى، فيلزم التفكيك.
تنبيه:
قال الراغب: حقيقة التذكر، الاستذكار عن نسيان أو غفلة لما اشتبه القلب. قال: إن قيل: إلى أي: شيء أشار بهذا التذكر؟ قيل: إن الله عز وجل ركّب فينا بالفطرة معرفته ومعرفة آلائه. والْإِنْسَاْن- باستفادة العلم- يتذكّر ما ذُكر فيه، فهذا معنى التذكر. ثم قال: وقد قيل: الرجاء من الله واجب، بمعنى أنه إذا رجانا حقق رجانا. قال: وهذه مسألة لا يمكن تصورها إن لم نبلغها بتعاطي هذه الأفعال التي شرطها الله تعالى. فلذلك صعب إدراكها لنا.