فصل: تفسير الآية رقم (249):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (249):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [249].
وقوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ}، أي: خرج بالجيش، لما رد إليهم التابوت وقبلوا ملكه، وخرجوا معه، وكان طالوت أخذ بهم في أرض قفرة، فأصابهم حر وعطش شديد: {قَالَ} لهم طالوت: {إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي}، أي: من أشياعي الذين يقاتلون معي عدوي، ولا يجاوزه: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}، أي: لم يذقه. من: طعم، كعَلِمَ الشيء، إذا ذاقه مأكولاً كان أو مشروباً وفي إيثاره على لم يشربه إشعار بأنه محظور تناوله ولو مع الطعام. ذكره الراغب: {إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} الواحدة فإنه لا يخرج بذلك عن كونه مني، لأنه في معنى من لم يذقه.
قال الحرالي في قراءة فتح الغين إعراب عن معنى إفرادها، آخذة ما أخذت من قليل أو كثير، وفي الضم، إعلام بمثلها.
{فَشَرِبُواْ مِنْهُ}، أي: إلى حد الارتواء: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} لم يشربوا إلا كما أذن الله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ}، أي: النهر: {هُوَ} أي: طالوت: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ}، أي: المفرطون في الشراب: {لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} لأنه سلبت شجاعتهم. وجاء في التوراة تسميته بجُليات. على ما سنذكره: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ}، أي: يعلمون: {أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ} يرجعون إليه بعد الموت: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

.تفسير الآية رقم (250):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [250].
{وَلَمَّا بَرَزُواْ} ظهروا: {لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} إذ دنوا منه: {قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً}، أي: أفضه علينا وأكرمنا به لقتالهم فلا نجزع للجراحات، وإنما طلبوه أولاً لأنه ملاك الأمر: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} في ميدان الحرب فلا نهرب منه: {وَانصُرْنَا} لأنا مؤمنون بك: {عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} بك. وهم: جالوت وجنوده، وهذا الآية تدل على أن من حزبه أمر، فإنه ينبغي له سؤال المعونة من الله، والتوفيق، والانقطاع إليه تعالى.

.تفسير الآية رقم (251):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [251].
{فَهَزَمُوهُم}، أي: هؤلاء القليلون، أولئك الكثيرون: {بِإِذْنِ اللّهِ} بنصره إذ شجع القليلين وجبَّن الكثيرين: {وَقَتَلَ دَاوُدُ} وكان في جيش طالوت: {جَالُوتَ}، الذي هو رأس الأقوياء: {وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ} أي: أعطى الله داود ملك بني إسرائيل: {وَالْحِكْمَةَ}، أي: الفهم والنبوة: {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} من صنعة الدروع وغيرها: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ} من أهل الشر: {بِبَعْضٍ} من أهل الخير: {لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ}، أي: بغلبة الكفار وظهور الشرك والمعاصي، كما قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج: 40] الآية.
{وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}، أي: منّ عليهم بالدفع. ولذلك قوّى سبحانه هؤلاء الضعفاء وأعطى بعضهم الملك والحكمة ومن سائر العلوم، ليدفع فساد الأقوياء بالسيف.

.تفسير الآية رقم (252):

القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [252].
{تِلْكَ}، أي: المذكورات من إماتة الألوف وإحيائهم وتمليك طالوت وإتيان التابوت وانهزام جالوت وقتل داود إياه وتملكه: {آيَاتُ اللّهِ} إذ هي أخبار غيوب تدل على كمال قدرته سبحانه وحكمته ولطفه: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ}، أي: ننزل عليك جبريل بها: {بِالْحَقِّ}، أي: اليقين الذي لا يرتاب فيه: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} بما دلت عليه هذه الآيات من علمك بها من غير معلم من البشر، ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر. وفي هذه القصص معتبر لهذه الأمة في احتمال الشدائد في الجهاد كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة. كما أن فيها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار والمنافقين. فكأنه قيل: قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخلاف عليهم والرد لقولهم. فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك، وخلاف من خالف عليك لأنك مثلهم. وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والطوع، لا على سبيل الإكراه. فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم. والوبال في ذلك يرجع عليهم. وقوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} كالتنبيه على ذلك. أشار له الرازي.
قال البقاعي: ولعل ختام قصص بني إسرائيل بهذه القصة، لما فيها للنبي صلى الله عليه وسلم من واضح الدلالة على صحة رسالته، لأنه مما لا يعلمه إلا القليل من حذاق علماء بني إسرائيل.
قلت: يرحم الله البقاعي، فإنه لم يطلع على هذه القصة من التوراة، مع أنها مسوقة في الأصحاح السابع عشر من سفر صموئيل الأول ونصه:
(1) وجمع الفلسطينيون جيوشهم للحرب فاجتمعوا في سوكوه التي ليهوذا ونزلوا بين سوكوه وعريقة في أفس دميم.
(2) واجتمع شاول ورجال إسرائيل ونزلوا في وادي البطم واصطفوا للحرب للقاء الفلسطينيين.
(3) وكان الفلسطينيون وقوفاً على جبل من هنا وإسرائيل وقوفاً على جبل من هناك والوادي بينهم.
(4) فخرج رجل مبارز من جيوش الفلسطينيين اسمه جُليات من جَتَّ طوله ست أذرع وشبر.
(5) وعلى رأسه خوذة من نحاس، وكان لابساً درعاً حرشفياً ووزن الدرع خمسة آلاف شاقل نحاس.
(6) وجرموقاً نحاساً على رجليه، ومزراق نحاس بين كتفيه.
(7) وقناة رمحه كنول النساجين، وسنان رمحه ست مائة شاقل حديد، وحامل الترس كان يمشي قدامه.
(8) فوقف ونادى صفوف إسرائيل وقال لهم: لماذا تخرجون لتصطفوا للحرب. أما أنا الفلسطيني وأنتم عبيد لشاول. اختاروا لأنفسكم رجلاً ولينزل إليّ.
(9) فإن قدر أن يحاربني ويقتلني نُصَيْر لكم عبيداً. وإن قدرت أنا عليه وقتلته تصيرون أنتم عبيداً وتخدموننا.
(10) وقال الفلسطيني: أنا عيّرت صفوف إسرائيل هذا اليوم. أعطوني رجلاً فنتحارب معاً.
(11) ولما سمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطيني هذا ارتاعوا وخافوا جدًّا.
(12) وداود هو ابن ذلك الرجل الأفراتي من بيت لحم يهوذا الذي اسمه: يسَّى وله ثمانية بنين. وكان الرجل في أيام شاول قد شاخ وكبر بين الناس.
(13) وذهب بنو يسّى الثلاثة الكبار وتبعوا شاول إلى الحرب. وأسماء بنيه الثلاثة الذين ذهبوا إلى الحرب أليآب البكر، وأبينادابُ ثانيه، وشمَّة ثالثهما.
(14) وداود هو الصغير، والثلاثة الكبار ذهبوا وراء شاول.
(15) وأما داود فكان يذهب ويرجع من عند شاول ليرعى غنم أبيه في بيت لحم.
(16) وكان الفلسطيني يتقدم ويقف صباحاً ومساء أربعين يوماً.
(17) فقال يسَّى لداود ابنه خذ لإخوتك إيفة من هذا الفريك، وهذه العشر الخبرات واركض إلى المحلة إلى أخوتك.
(18) وهذه العشر القطعات من الجبن قدمها لرئيس الألف، وافتقد سلامة إخوتك وخذ منهم عربوناً.
(19) وكان شاول وهم وجميع رجال إسرائيل في وادي البطم يحاربون الفلسطينيين.
(20) فبكَّر داود صباحاً وترك الغنم مع حارس وحمّل، وذهب كما أمره يسَّى وأتى إلى المتراس والجيش خارج إلى الاصطياف وهتفوا للحرب.
(21) واصطف إسرائيل والفلسطينيون صفاً مقابل صف.
(22) فترك داود الأمتعة التي معه بيد حافظ الأمتعة وركض إلى الصف وأتى وسأل عن سلامة إخوته.
(23) وفيما هو يكلمهم إذا برجل مبارز اسمه جليات الفسطيني من جت صاعد من صفوف الفلسطينيين، وتكلم بمثل هذا الكلام فسمع داود.
(24) وجميع رجال إسرائيل لما رأوا الرجل هربوا منه وخافوا جدًّا.
(25) فقال رجال إسرائيل: أرأيتم هذا الرجل الصاعد. ليُعيِّر إسرائيل هو صاعد. فيكون أن الرجل الذي يقتله يغنيه الملك غنى جزيلاً، ويعطيه بنته ويجعل بيت أبيه حراً في إسرائيل.
(26) فكلم داود الرجال الواقفين معه قائلاً: ماذا يفعل للرجل الذي يقتل ذلك الفلسطيني ويزيل العار عن إسرائيل، لأنه من هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يعيّر صفوف الله الحي.
(27) فكلمه الشعب بمثل هذا الكلام قائلين: كذا يُفعل بالرجل الذي يقتله.
(28) وسمع أخوه الأكبر أليآب كلامه مع الرجال، فحمي غضب أليآب على داود وقال: لماذا نزلت وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة في البرية. أنا علمت كبريائك وشر قلبك، لأنك نزلت لكي ترى الحرب.
(29) فقال داود: ماذا عملت الآن. أما هو كلام.
(30) وتحول من عنده نحو آخر وتكلم بمثل هذا الكلام، فرد له الشعب جواباً كالجواب الأول.
(31) وسمع الكلام الذي تكلم به داود وأخبروا به أمام شاول، فاستحضره.
(32) فقال داود لشاول: لا يسقط قلب أحد بسببه. عبدك يذهب ويحارب هذا الفلسطيني.
(33) فقال شاول لداود: لا تستطيع أن تذهب إلى هذا الفلسطيني لتحاربه لأنك غلام وهو رجل حرب منذ صباه.
(34) فقال داود لشاول: كان عبدك يرعى لأبيه غنماً فجاء أسد مع دبّ وأخذ شاة من القطيع.
(35) فخرجت وراءه وقتلته وأنقذتها من فيه، ولما قام علي أمسكته من ذقنه وضربته فقتلته.
(36) قتل عبدك الأسد والدب جميعاً. وهذا الفلسطيني الأغلف يكون كواحد منهما لأنه قد عيّر صفوف الله الحي.
(37) وقال داود: الرب الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب هو ينقذني من يد هذا الفلسطيني. فقال شاول لداود: اذهب وليكن الرب معك.
(38) وألبس شاول داود ثيابه، وجعل خوذة من نحاس على رأسه وألبسه درعاً.
(39) فتقلد داود بسيفه فوق ثيابه، وعزم أن يمشي لأنه لم يكن قد جرّب. فقال داود لشاول: لا أقدر أن أمشي بهذه لأني لم أجربها. ونزعها داود عنه.
(40) وأخذ عصاه بيده، وانتخب له خمسة حجارة ملس من الوادي وجعلها في كنف الرعاة الذي له أي: في الجراب ومقلاعه بيده وتقدم نحو الفلسطيني.
(41) وذهب الفلسطيني ذاهباً واقترب إلى داود والرجل حامل الترس أمامه.
(42) ولما نظر الفلسطيني ورأى داود استحقره لأنه كان غلاماً وأشقر جميل المنظر.
(43) فقال الفلسطيني لداود: ألعلِّي، أنا كلب حتى أنك تأتي إليّ بعصيّ، ولعن الفلسطيني داود بآلهته.
(44) وقال الفلسطيني لداود تعال إليّ فأعطي لحمك لطيور السماء ووحوش البرية.
(45) فقال داود للفلسطيني: أنت تأتي إليّ بسيف وبرمح وبترس. وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذي عيرتهم.
(46) هذا اليوم يحبسك الرب في يدي، فأقتلك وأقطع رأسك، وأعطي جثث جيش الفلسطينيين هذا اليوم لطيور السماء وحيوانات الأرض، فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل.
(47) وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يُخَلِّص الرب لأن الحرب الرب وهو يدفعكم ليدنا.
(48) وكان لما قام الفلسطيني وذهب وتقدم للقاء داود أن داود أسرع وركض نحو الصف للقاء الفلسطيني.
(49) ومد داود يده إلى الكنف وأخذ منه حجراً ورماه بالمقلاع، وضرب الفلسطيني في جبهته، فارتزّ الحجر في جبهته وسقط على وجهه إلى الأرض.
(50) فتمكن داود من الفلسطيني بالمقلاع والحجر وضرب الفلسطيني وقتله. ولم يكن سيف بيد داود.
(51) فركض داود ووقف على الفلسطيني وأخذ سيفه واخترطه من غمده وقتله وقطع به رأسه. فلما رأى الفلسطينيون أن جبارهم قد مات هربوا.
(52) فقام رجال إسرائيل ويهوذا وهتفوا ولحقوا الفلسطينيين حتى مجيئك إلى الوادي وحتى أبواب عقرون... إلخ.
وتتمة شأن داود بعد ذلك إلى أن آتاه الله الملك، مذكور في الفصول بعد هذا الفصل من التوراة. فانظره إن شئت.

.تفسير الآية رقم (253):

القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [253].
{تِلْكَ الرُّسُلُ} إشارة إلى من ذكر منهم في هذه السورة أو المعلومة للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} بأن خص بمنقبة ليست لغيره: {مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ} تفصيل التفضيل أي: منهم من فضله الله، بأن كلمه من غير سفير، وهو موسى عليه السلام: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} كإبراهيم اتخذه الله خليلاً. وداود آتاه الله النبوة والخلافة والملك.
قال الزمخشري: أي: ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة.
والظاهر: أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر. ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائرة المعجزات. وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشبّه والمتميز الذي لا يلتبس، يقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم. تريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال. فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس؟ فذكر زهيراً والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه. ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي، لم يخفم أمره.
ثم قال: ويجوز أن يريد إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولي العزم.
{وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} سبق الكلام فيه.
قال الزمخشري: فإن قلت: فلِمَ خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟
قلت: لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة. ولقد بين الله وجه التفضيل، حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات. فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات، خُصَّا بالذكر في باب التفضيل. وهذا دليل بيّن أن من زيد تفضيلاً بالآيات منهم فقد فضل على غيره. ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها، كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع.
{وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم}، أي: من بعد الرسل لاختلافهم في الدين وتشعب مذاهبهم وتكفير بعضهم بعضاً: {مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.
قال الزمخشري: كرره للتأكيد. قال الناصر في حواشيه: ووراء التأكيد سر أخص منه. وهو أن العرب متى ثبت أول كلامهم على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول، قصدت ذكره: إما بتلك العبارة أو بقريب منها. وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك. وفي كتاب الله تعالى مواضع في هذا المعنى. منها قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106]، ومنها قوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْم} إلى قوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} [الفتح: 25]. وهذه الآية من هذا النمط. لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة، ثم طال الكلام وأريد بيان أن مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص، وهو اقتتال هؤلاء، فهي نافذة في كل فعل واقع وهو المعنى المعبر عنه في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال لتلوه عموم تعلق المشيئة لتناسب الكلام، ويعرف كل بشكله. فهذا سر ينشرح له الصدر، ويرتاح له السر. والله الموفق.