فصل: تفسير الآية رقم (29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (29):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [29].
{قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هذا توعد. وأراد إخفاء مودة الكفار وموالاتهم وإظهارها. أو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم. أو الكفر. وفي هذه الآية تنبيه منه تعالى لعباده على خوفه وخشيته لئلا يرتكبوا ما نهى عنه، فإنه عالم بجميع أمورهم وقادر على معاجلتهم بالعقوبة، وإن أنظر من أنظر منهم فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، ولهذا قال بعد هذا:

.تفسير الآية رقم (30):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} [30].
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} بصور تناسبه، أو في صحف الملائكة، أو المعنى: جزاء ما عملت: {وَ} تجد: {مَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ} أي: عملها السوء: {أَمَداً بَعِيداً} أي: غاية بعيدة لا يصل أحدهما إلى الآخر، وتود في موضع الحال. والتقدير: وتجد ما عملت من سوء محضراً، وادّة ذلك {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} كرره ليكون على بالٍ منهم لا يغفلون عنه كذا في الكشاف.
وقال أبو السعود: تكرير لما سبق وإعادة له، لكن لا للتأكيد فقط، بل لإفادة ما يفيده قوله عز وجل: {وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} من أن تحذيره تعالى من رأفته بهم، ورحمته الواسعة، أو أن رأفته بهم لا تمنع تحقيق ما حذرهموه من عقابه، وأن تحذيره ليس مبنيًّا على تناسي صفة الرأفة، بل هو متحقق مع تحققها.

.تفسير الآية رقم (31):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [31].
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه تلك، حتى يتبع الشرع المحمدي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».

.تفسير الآية رقم (32):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [32].
{قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الطاعة: {فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}.

.تفسير الآية رقم (33):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [33].
{إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى} أي: اختار بالنبوة: {آدَمَ} فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها عما له في ذلك من الحكمة: {وَ} واصطفى: {نُوحاً} فجعله أول رسول إلى أهل الأرض، لما عبد الناس الأوثان وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، ونجى من اتبعه في السفينة وأغرق من عصاه: {وَ} اصطفى: {آلَ إِبْرَاهِيمَ} أي: عشيرته وذوي قرباه، وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما الذين من جملتهم النبي صلى الله عليه وسلم. وأما اصطفاء نفسه عليه الصلاة والسلام فمفهوم من اصطفائهم بطريق الأولوية. وعدم التصريح به للإيذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره في الخلة، وكونه إمام الأنبياء وقدوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكون اصطفاء آله بدعوته بقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [البقرة: 129]، الآية. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «أنا دعوة أبي إبراهيم» {وَ} اصطفى: {آلَ عِمْرَانَ} إذ جعل فيهم عيسى عليه الصلاة والسلام الذي أوتي البينات، وأيد برح القدس، والمراد بعمران هذا: والد مريم أم عيسى عليهما السلام: {عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: عالمي زمانهم. أي: اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه. قال السيوطي في الإكليل: يستدل بهذه الآية على تفضيل الأنبياء على الملائكة لدخولهم في العالمين.

.تفسير الآية رقم (34):

القول في تأويل قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [34].
{ذُرِّيَّةً} أي: نسلاً. نصب على البدلية من الآلين، أو على الحالية منهما.
لطيفة:
الذرية مثلثة، ولم تسمع إلا غير مهموزة. اسم لنسل الثقلين. وقد تطلق على الآباء والأصول أيضاً. قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41].
قال الصاغاني: وفي اشتقاقها وجهان: أحدهما: أنها من الذرء ووزنها فعولة أو فعيلة. والثاني: أنها من الذر بمعنى التفريق، لأن الله ذرهم في الأرض. ووزنها فعيلة أو فعولة أيضاً. وأصلها: ذرورة، فقلبت الراء الثالثة ياء كما في: تقضت العقاب. كذا في القاموس وشرحه.
{بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} في محل النصب على أنه صفة لذرية. أي: اصطفى الآلين، حال كونهم ذرية متسلسلة البعض من البعض في وراثة الاصطفاء {وَاللّهُ سَمِيعٌ} لأقوال العباد: {عَلِيمٌ} بضمائرهم وأفعالهم. وإنما يصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولاً وفعلاً. ونظيره قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].

.تفسير الآية رقم (35):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [35].
{إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ} في حيز النصب على المفعولية، بفعل مقدر على طريقة الاستئناف لتقرير اصطفاء آل عِمْرَان، وبيان كيفيته. أي: اذكر لهم وقت قولها،... الخ. وامرأة عِمْرَان هذه هي أم مريم عليها السلام.
فائدة:
قال العلامة النوري في غيث النفع: {امْرَأَةُ عِمْرَانَ} رسمت بالتاء، وكل ما في كتاب الله جل ذكره من لفظ امرأة فبالهاء. سبعة مواضع، هذا الأول، والثاني والثالث بيوسف {امرأت العزيز تراود}، {امرأت العزيز الآن} والرابع بالقصص {امرأت فرعون} والخامس والسادس والسابع بالتحريم {امرأت نوح}، {وامرأت لوط}، {وامرأت فرعون} فلو وقف عليها، فالمكي والنحويان يقفون بالهاء، والباقون بالتاء. انتهى.
{رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} أي: مخلصاً للعبادة عن الشعبي. أو خادماً يخدم في متعبداتك، حرره جعله نذيراً في خدمة المعبد ما عاش، لا يسعه تركه في دينه عن الزجاج. وفي الآية دلالة على صحة نذر الأم بولدها، وأن للأم الانتفاع بالولد الصغير لمنافع نفسها، لذلك جعلته للغير. والمعنى: نذرته وقفاً على طاعتك، لا أشغله بشيء من أموري. قال أبو منصور في التأويلات: جعلت ما في بطنها لله خالصاً، لم تطلب منه الاستئناس به، ولا ما يطمع الناس من أولادهم، وذلك من الصفوة التي ذكر عز وجل، وهكذا الواجب على كل أحد إذا طلب ولداً أن يطلب للوحه الذي طلبت امرأة عِمْرَان وزكريا حيث قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عِمْرَان: 38]. وما سأل إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وكقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74]، هكذا الواجب أن يطلب الولد، لا ما يطلبون من الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم. انتهى {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي: تقبل مني قرباني وما جعلت لك خالصاً، والتقبل أخذ الشيء على وجه الرضا.

.تفسير الآية رقم (36):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [36].
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} الضمير لما في بطني، وإنما أنث على المعنى، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله، أو على تأويل النفس أو النسمة: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى} أي: وكنت رجوت أن يكون ذكراً، وإنما تحسرت أو اعتذرت إذ جهلت قدرها: {وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} قرئ في السبع بسكون التاء وضمها، فعلى القراءة الأولى تكون الجملة المعترضة من كلامه تعالى، إما لدفع ما يتراءى من أن قولها: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى} قصدت بها إعلام الله تعالى عن أن يحتاج إلى إعلامها، فأزيلت الشبهة بقوله: {وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} هذا ما يتراءى لي. وإما لما ذكروه من أن الاعتراض تعظيم من جهته تعالى لموضوعها، وتفخيم لشأنه، وتجهيل لها بقدره، أي: والله أعلم بالنفس التي وضعتها، وما علق بها من عظائم الأمور، وجعلها وابنها آية للعالمين، وهي غافلة عن ذلك. وعلى القراءة الثانية أعني: ضم التاء، فالاعتراض من كلامها، إما للوجه الأول من الوجهين السابقين كما استظهرته، أو لما ذكروه من قصد الاعتذار إلى الله تعالى حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته، أو تسلية نفسها على معنى: لعل لله تعالى فيه سراً وحكمة، ولعل هذا الأنثى خير من الذكر: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} جملة معترضة أيضاً، إما من كلامه تعالى قصد به معذرتها في التحسر والتحزن ببيان فضل الذكر على الأنثى، ولذا جبلت النفوس على الرغبة فيه دونها لاسيما في هذا المقام، أعني: مقام قصد إخلاص النذير للعبادة. فإن الذكر يفضلها من وجوه: منها: أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض فيه وسائر عوارض النسوان.
ومنها: أن الذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة دون الأنثى، فإنها ضعيفة، لا تقوى على الخدمة. ومنها: أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس، وليس كذلك الأنثى. ومنها: أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يحلق الأنثى. فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المقام. واللام في الذكر والأنثى على هذا الملحظ، للجنس- كذا ظهر لي- وعلى قولهم: اللام للعهد فيهما، أي: ليس الذكر الذي طلبته وتخيلت فيه كمالاً، قصاراه أن يكون كواحد من الأحبار، كالأنثى التي وهبت لها. فإن دائرة علمها وأمنيتها لا تكاد تحيط بما فيها من جلائل الأمور. هذا، وإما أن تكون هذه الجملة من كلامها، والقصد حينئذ تأكيد الاعتذار ببيان أن الذكر ليس كالأنثى في الفضيلة والمزية، وصلاحية خدمة المتعبدات، فإنهن بمعزل عن ذلك، فاللام للجنس.
لطيفة:
قيل: قياس كونه من قولها أن يكون وليست الأنثى كالذكر فإن مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر. والعادة في مثله أن ينفي عن الناقص شبهة بالكامل، لا العكس. قال الناصر في الانتصاف: وقد وجد الأمر في ذلك مختلفاً، فلم يثبت عين ما قيل. ألا ترى إلى قوله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32]، فنفى عن الكامل شبه الناقص، مع أن الكمال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بالنسبة إلى عموم النساء، وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عِمْرَان، والله أعلم. ومنه أيضاً: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17]. انتهى.
{وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} قال المفسرون: هي في لغتهم بمعني العابدة، سمتها بذلك رجاءً وتفاؤلاً أن يكون فعلها مطابقاً لاسمها. لكن رأيت في تأويل الأسماء الموجودة في التوراة والإنجيل أن مريم معناه: مرارة أو مر البحر، فلينظر. قال السيوطي في الإكليل: في الآية دليل على جواز تسمية الأطفال يوم الولادة وأنه لا يتعين يوم السابع، لأنه إنما قالت هذا بأثر الوضع، كما فيها مشروعية التسمية للأم، وأنها لا تختص بالأب. ثم طلبت عصمتها فقالت: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} أي: أجيرها بحفظك: {وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} أي: المطرود لمخالفتك، فلا تجعل عليها وعلى ذريتها له سلطاناً يكون سبباً لطردهما.

.تفسير الآية رقم (37):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [37].
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} أي: قبلها أو تكفل بها. ولم يقل بتقبل، للجمع بين الأمرين: التقبل الذي هو الترقي في القبول، والقبول الذي يقتضي الرضا والإثابة، قال المهايمي: بقبول حسن يجعلها فوق كثير من الأولياء {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} بجعل ذريتها من كبار الأنبياء- انتهى- وقال الزمخشري: نباتها مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها، أي: كالصلاح والسداد والعفة والطاعة: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي: ضمها إليه، وقرئ بالتشديد. ونصب {زكريا} ممدوداً أو مقصوراً، والفاعل الله. أي: جعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها، وقائماً بتدبير أمروها. وقد روي أن أمها أخذتها وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها إذ كانت بنت إمامهم، وصاحب قربانهم، وأحب كل أن يحظى بتربيتها، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها، فأبوا إلى القرعة، وانطلقوا إلى نهر فألقوا فيها أقلامهم، على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها، فطفا قلم زكريا، ورسبت أقلامهم، وإليه الإشارة بقوله تعالى في آية أخرى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عِمْرَان: 44]. فأخذها زكريا ورباها في حجر خالتها، حتى إذا نشأت وبلغت مبالغ النساء، انزوت في محرابها تتعبد فيه، وصارت بحيث: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
في الآية مسائل:
الأولى: في معنى المحراب: في القاموس وشرحه ما نصه: والمحراب: الغرفة والموضع العالي، نقله الهروي في غريبه عن الأصمعي، قال وضاح اليمن:
ربة محراب إذا جئتها ** لم ألقها أو أرتقي سلماً.

وقال أبو عبيدة: المحراب سيد المجالس ومقدمها وأشرفها. قال: وكذلك هو من المساجد، وعن الأصمعي: العرب تسمي القصر محراباً لشرفه. وقال الأزهري: المحراب عند العامة الذي يفهمه الناس مقام الإمام من المسجد. قال ابن الأنباري: سمي محراب المسجد لانفراد الإمام فيه، وبعده من القوم. ومنه يقال: فلان حرب لفلان، إذا كان بينهما بُعدٌ وتباغض. وفي المصباح: ويقال هو مأخوذ من المحاربة؛ لأن المصلي يحارب الشيطان ويحارب نفسه بإحضار قلبه، ثم قال: ومحاريب بني إسرائيل هي مساجدهم التي كانوا يجلسون فيها. انتهى.
الثانية: في الآية دليل على وقوع الكرامة لأولياء الله تعالى، كما وجد، عند خُبَيْب بن عدي الأنصاري رضي الله عنه المستشهد بمكة، قطف عنب، كما في البخاري. وفي الكتاب والسنة لهذا نظائر كثيرة، ومن اللطائف هنا ما نقله الإمام الشعراني في اليواقيت عن العارف أبي الحسن الشاذلي قدس سره أنه قال: إن مريم عليها السلام كان يتعرف إليها في بداياتها بخرق العوائد بغير سبب تقوية لإيمانها وتكميلهاً ليقينها، فكانت كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً. فلما قوي إيمانها ويقينها ردت إلى السبب لعدم وقوفها معه، فقيل لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّا}، انتهى.
الثالثة: قوله تعالى: {إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ} إلخ تعليل لكونه من عند الله. إما من تمام كلامها فيكون في محل نصب، وإما من كلامه عز وجل فهو مستأنف، ومعنى: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: بغير تقدير لكثرته. وإما بغير استحقاق تفضلاً منه تعالى.
الرابعة: زكريا المنوه به هنا هو والد يحيى عليهما السلام، ومعنى زكريا: تذكار الرب كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل.