فصل: تفسير الآية رقم (25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (25):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [25].
{وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} البشارة: الإخبار بما يظهر سرور المخبر به، ومنه البَشَرة: لظاهر الجلد. وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه. وأما: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء- الزائد في غيظ المستهزأ به، وتألمه، واغتمامه- ففيه استعارة أحد الضدّين للآخر تهكُّماً وسخرية.
و: {الصالحات} ما استقام من الأعمال أي: صلح لترتب الثواب عليه، وقد أجمع السلف على أن الإيمان: قولٌ وعملٌ، يزيد وينقص، ثم إنه إذا طلق دخلت في الأعمال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وستون شعبة- أو بضع وسبعون شعبة- أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان».
وإذا عطف عليه- كما في هذه الآية- فهنا، قد يقال: الأعمال دخلت فيه، وعطفت عطف الخاص على العام، وقد يقال: لم تدخل فيه، ولكن مع العطف- كما في اسم الفقير والمسكين. إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا عطف أحدهما على الآخر فهما صنفان- وهذا التفصيل في الإيمان هو كذلك في لفظ البرّ، والتقوى، والمعروف. وفي الإثم، والعدوان، والمنكر، تختلف دلالتها في الإفراد والاقتران لمن تدبّر القرآن.
وقد بين حديث جبريل أنَّ الإيمان أصله في القلب، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله- كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «الإسلام علانية والإيمان في القلب».
وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «ألا إنَّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب».
فإذا كان الإيمان في القلب، فقد صلح القلب، فيجب أن يصلح سائر الجسد، فلذلك هو ثمرة ما في القلب. فلهذا قال بعضهم: الأعمال ثمرة الإيمان، وصحته؛ لما كانت لازمة لصلاح القلب، دخلت في الاسم، كما نطق بذلك الكتاب والسنة في غير موضع، هذا ما أفاده الإمام ابن تيميّة رحمه الله.
وقوله تعالى: {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} جمع جنّة: وهي البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلّل بالتفاف أغصانه، وإنما سميت: دار الثواب، بها مع أنَّ فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور، لما أنَّها مناط نعيمها، ومعظم ملاذّها. وجمعها مع التنكير: لاشتمالها على جنان كثيرة في كلّ منها مراتب ودرجات متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها.
وقوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} صفة جنات، ثم إن أريد بها الأشجار، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها، فلابد من تقدير مضاف- أي: من تحت أشجارها-، وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار، فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحّح لإطلاق اسم الجنّة على الكل، وإنما جيء ذكر الجنات- مشفوعاً بذكر الأنهار الجارية- لِما أنَّ أنزهَ البساتين، وأكرمها منظراً، ما كانت أشجاره مظلِّلة، والأنهار في خلالها مطّردة، وفي ذلك النعمة العظمى، واللذة الكبرى. واللام في الأنهار: للجنس: كما في قولك: لفلان بستان فيه الماء الجاري. أو للعهد. والإشارة إلى ما ذكر في قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15] الآية.
{كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا} أي: أُطعموا من تلك الجنات: {مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} أي: مثل الذي رزقناه من قبل هذا الذي أحضر إلينا، فالإشارة إلى المرزوق في الجنة لتشابه ثمارها. بقرينة قوله: {وَأُتُواْ بِهِ} أي: أتتهم الملائكة، والولدان برزق الجنة: {مُتَشَابِهَا} يشبه بعضه بعضاً لوناً ويختلف طعماً، وذلك أجْلَبُ للسرور، وأزْيَدُ في التعجب، وأظهر للمزّية، وأبينُ للفضل.
وترديدهم هذا القول، ونطقهم به- عند كل ثمرة يرزقونها- دليلٌ على تناهي الأمر في استحكام الشَّبه، وأنَّه الذي يستملي تعجُّبهم، ويستدعي استغرابهم، ويفرط ابتهاجهم. فإن قيل: كيف موقع قوله: {وأتوا به مُتَشَابِهاً} من نظم الكلام؟
قلت: هو كقولك: فلان أحسنَ بفلان، ونعم ما فعل. ورأى من الرأي كذا، وكان صواباً. ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34]. وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير.
{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} من الحيض والاستحاضة وما يختص بهنّ من الأقذار والأدناس- ويجوز لمجيئه مطلقاً، أن يدخل تحته الطهر من دنَس الطباع، وسوء الأخلاق وسائر مثالبهن وكيدهنّ.
وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هذا هو تمام السعادة، فإنَّهم- مع هذا النعيم- في مقام أمين من الموت والانقطاع، فلا آخر له ولا انقضاء. بل في نعيمٍ سرمديٍّ أبديٍّ على الدوام. والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم، إنه البر الرحيم.
ولمّا ضرب تعالى- فيما تقدم- للمنافقين مثلين: في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} الخ. وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} الخ. إلى أمثالٍ أخرى تقدمت على نزول هذه السورة، من السّور المكية، ضربت للمشركين- نبّه تعالى إلى موضع العبرة بها، والحكمة منها، وتضليل من لا يقدّرها قدرها- ممَّن يتجاهل عن سرّها، ويتعامى عن نورها، ويحول دون الاهتداء بها، والأخذ بسببها- فقال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (26):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [26].
{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} أي: يذكر مثلاً ما. يقال ضرب مثلاً، ذكره، فيتعدّى لمفعول واحد. أو صيّر، فلمفعولين.
قال أبو إسحاق في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً} [الكهف: 32] أي: اذكر لهم. وعبارة الجوهري: ضرب الله مثلاً أي: وصف وبيّن. وفي شرح نظم الفصيح: ضرب المثل: إيراده ليمتثل به، ويتصوّر ما أراد المتكلم بيانه للمخاطب. يقال: ضرب الشيء مثلاً، وضرب به، وتمثَّله، وتمثل به. ثم قال: وهذا معنى قول بعضهم: ضرب المثل اعتبار الشيء بغيره، وتمثيله به. وما: هذه اسمية إبهاميّة، وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً، وزادته شياعاً وعموماً- كقولك: أعطني كتاباً ما، تريد أي: كتاب كان- كأنه قيل: مثلاً ما من الأمثال، أي: مثل كان. فهي صفة لما قبلها. أو حرفية مزيدة لتقوية النسبة وتوكيدها كما في قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] كأنه قيل: لا يستحيي أن يضرب مثلاً حقَّاً، أو البتّة.
و: {بَعَوْضَة}: بدل من: {مَثَلاً}. أو هما مفعولا يضرب؛ لتضمنّه معنى الجعل والتصيير. ومعنى الآية: إنه تعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة، ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها. أي: لا يستصغر شيئاً يضرب به مثلاً- ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة كما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف عن ضرت المثل بها، كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]، وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]، وغير ذلك من أمثال الكتاب العزيز، فما استنكره السفهاء، وأهل العناد والمراء، واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء، ومضروباً بها المثل ليس بموضع للاستنكار والاستغراب. من قبل أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وإدناء المتوهِّم من المشاهد. فإن كان المتمثّل له عظيماً كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك، فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إذاً، إلاَّ أمراً تستدعيه حال المتمثَّل له وتستجّره إلى نفسها، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية، ألا ترى إلى الحق لما كان واضحاً، جلياً أبلج، كيف تمثّل له بالضياء والنور؟ وإلى الباطل لما كان بضد صفته، كيف تمثل له بالظلمة؟ أفاده الزمخشري.
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} شروع في تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه تعالى، أي: فأما المؤمنون: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} كسائر ما ورد منه تعالى، والحق: هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وذلك لأن التمثل به مسوق على قضية مضربه، ومحتذى على مثال ما يستدعيه- كما جعل بيت العنكبوت مثل الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله تعالى- وجعلت أقل من الذباب، وأخسّ قدراً، وضربت لها البعوضة فما دونها مثلاً؛ لأنه لا حال أحقر من تلك الأنداد وأقل.......!.
فالمؤمنون الذين عادتهم الإنصاف، والعمل على العدل والتسوية، والنظر في الأمور بناظر العقل- إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحقُّ الذي لا تمرّ الشبهة بساحته، والصواب الذي لا يرتع الخطأ حوله {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} ممن غلبهم الجهل على عقولهم، وغشيهم على بصائرهم فلا يتفطَّنون، ولا يلقون أذهانهم، أو عرفوا أنه الحق، إلا أنّ حب الرياسة، وهوى الإلف والعادة، لا يُخَلِّيهم أن يُنصفوا: {فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} أي: فِإذا سمعوه عاندوا، وكابروا، وقضوا عليه بالبطلان، وقابلوه بالإنكار، ولا خفاء في أن التمثيل بالبعوضة وبأحقر منها مما لا تخفى استقامته وصحته على من به أدنى مسكة، ولكن ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل، ولا متشبث بأمارة ولا إقناع، أن يرمي لفرط الحيرة، والعجز عن إعمال الحيلة، بدفع الواضح، وإنكار المستقيم، والتعويل على المكابرة والمغالطة إذا لم يجد سوى ذلك معولاً.
{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} جواب عن تلك المقالة الباطلة، وردّ لها ببيان أنه مشتمل على حكمةٍ جليلة، وغاية جميلة، هي كونه ذريعة إلى هدايةٍ المستعدّين للهداية، وإضلال المنهمكين في الغواية، وقدّم الإضلال على الهداية- مع تقدم حال المهتدين على حال الضالّين فيما قبله، ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمراً فظيعاً يسوؤهم، ويفت في أعضادهم، وهو السر في تخصيص هذه الفائدة بالذكر: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ} أي: بالمثل أو بضربه: {إِلَّا الْفَاسِقِينَ} تكملة للجواب والرد، وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم، ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له.

.تفسير الآية رقم (27):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [27].
{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} صفة للفاسقين للذم، والعهد: الذي وصفوا بنقضه: هو وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه، وعلى لسان رسله- ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} عام في كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى: كقطع الرحم، والإعراض عن موالاة المؤمنين، والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام، والكتب في التصديق، وسائر ما فيه رفض خيرٍ أو تعاطي شر، فِإنه يقطع ما بين الله تعالى، وبين العبد من الوصلة التي هي المقصودة بالذات من كل وصل وفصل: {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بالمنع عن الإيمان، والاستهزاء بالحق، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصرحه: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالصلاح، وعقابها بثوابها.
وهذه الصفات المسوقة في الآية صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى في سورة الرعد: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 19 20 21] الآيات إلى أن قال: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25].

.تفسير الآية رقم (28):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [28].
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} التفات إلى خطاب المذكورين، مبنيٌّ على إيراد ما عدّد من قبائحهم السابقة، لتزايد السخط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع. والاستفهام إنكاريّ بمعنى إنكار الواقع. واستبعاده، والتعجيب منه؛ لأن معهم ما يصرف عن الكفر، ويدعو إلى الإيمان: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} أجساماً لا حياة لها عناصر، وأغذية، ونطفاً، ومضغاً مخلّقة وغير مخلَّقة، وإطلاق الأموات على تلك الأجسام الجمادية، إمَّا حقيقة بناء على أنَّ الميت عادم الحياة مطلقاً. كما في قوله تعالى: {بَلْدَةً مَيْتاً} [الفرقان: 49] و{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} [يس: 33]. أو استعارة، جرياً على أن إطلاق الميت فيما تصح فيه الحياة، لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس {فَأَحْيَاكُمْ} بخلق الأرواح، ونفخها فيكم. وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه، غير متراخٍ عنه، بخلاف البواقي: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عندما تُقضى آجالكم: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالنشور، والبعث، للحساب والجزاء: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. فما أعجب كفركم مع علمكم بحالتكم هذه.....!
فإن قيل: إن علموا أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم، لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون، فيكف نظم ما ينكرونه، من الإحياء الأخير والرجع، في سلك ما يعترفون به من الإحياء الأول، والإماتة......؟
قلت: تمكنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر. سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما، وهو أنه تعالى لمال قدر على إحيائهم أولاً، قدر على أن يحييهم ثانياً، فإنَّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته...! أو الخطاب، مع أهل الكتابين، وإنكار اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها الله تعالى إما لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر، أو على نعمٍ جسامٍ حقها أن تُشكر ولا تُكفر، أو لإرادة الأمرين جميعاً، فإن ما عدده آيات، وهي مع كونها آيات من أعظم النعم.