فصل: تفسير الآية رقم (86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (86):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [86].
{كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} استبعاد لأن يرشدهم الله للصواب ويوفقهم. فإن الحائد عن الحق، بعد ما وضح له، منهمك في الضلال، بعيد عن الرشاد. وقيل: نفي وإنكار له، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ}. والمعني بهذه الآية إما أهل الكتاب، والمراد كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم حين جاءهم، بعد إيمانهم به قبل مجيئه، إذ رأوه في كتبهم، وكانوا يستفتحون به على المشركين وبعد شهادتهم بحقية رسالته لكونهم عرفوه كما يعرفون أبناءهم، وجاءهم البينات على صدقه التي آمنوا لمثلها ولما دونها بموسى وعيسى عليهما السلام. فظلموا بحقه الثابت ببيناته وتصديقه الكتب السماوية، وإما المعنيُّ بالآية من ارتد بعد إيمانه، على ما روي في ذلك كما سنذكره. ثم بين تعالى الوعيد على كل بقوله:

.تفسير الآية رقم (87):

القول في تأويل قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ جَزَاؤهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [87].
{أُوْلَئِكَ} أي: الموصوفون بما تقدم: {جَزَاؤهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ} أي: طرده وغضبه: {وَالْمَلائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} المراد بالناس إما المؤمنين أو العموم، فإن الكافر أيضاً يلعن منكر الحق والمرتد عنه، فقد لعن نفسه.

.تفسير الآية رقم (88):

القول في تأويل قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} [88].
{خَالِدِينَ فِيهَا} أي: في اللعنة أو العقوبة أو النار، وإن لم يجر ذكرهما لدلالة الكلام عليهما. والتخليد في اللعنة على الأول بمعنى أنهم يوم القيامة لا يزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار، فلا يخلو شيء من أحوالهم من أن يلعنهم لاعنٌ من هؤلاء، أو بمعنى الخلود في أثر اللعن، لأن اللعن يوجب العقاب، فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن، ونظيره قوله تعالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ} [طه: 100- 101]،- أفاده الرازي-: {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي: لا يمهلون، أو لا ينتظرون ليعتذروا، أولا ينظر نظر رحمة إليهم.

.تفسير الآية رقم (89):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [89].
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ} أي: الكفر بعد الإيمان: {وَأَصْلَحُواْ} أي: وضموا إلى التوبة الأعمال الصالحة. وفيه أن التوبة وحدها لا تكفي حتى يضاف إليها العمل الصالح: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيقبل توبتهم ويتفضل عليهم. وهذا من لطفه وبره ورأفته وعائدته على خلقه: أن من تاب إليه تاب عليه. وقد روى ابن جرير عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد، ولحق بالشرك ثم ندم، فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟ فنزلت: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. فأرسل إليه قومه فأسلم. وهكذا رواه النسائي والحاكم وابن حبان. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وروى عبد الرزاق عن مجاهد قال: جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قال: فحملها إليه رجل من قومه، فقرأها عليه، فقال الحارث: إنك والله، ما علمت، لصدوق، وإن رسول الله لأصدق منك، وإن الله لأصدق الثلاثة، فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه.
قال ابن سلامة: فصارت فيه توبة، وفي كل نادم إلى يوم القيامة.
تنبيه:
قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية جواز لعن الكفار، وسواء كان الكافر معيناً أو غير معين، على ظاهر الأدلة. وقد قال النووي: ظاهر الأحاديث أنه ليس بحرام. وأشار الغزالي إلى تحريمه إلا في حق من أعلمنا الله أنه مات على الكفر. كأبي لهب وأبي جهل وفرعون وهامان وأشباههم. قال: لأنه يدري بما يختم له. وأما الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعيانهم يجوز أنه صلى الله عليه وسلم علم موتهم على الكفر. وأما ما ورد في الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيّ». فقيل: اللعان مثل الضراب للمبالغة. والمعنى: لا يعتاد اللعن حتى يكثر منه. ومن ثمرات الآية صحة التوبة من الكافر والعاصي بالردة وغيرها، وذلك إجماع، إلا توبة المرتد، ففيها خلاف شاذ، فعند أكثر العلماء أن توبته مقبولة لهذه الآية وغيرها، وعند ابن حنبل لا تقبل توبته- رواه عنه في شرح الإبانة قيل: وهو غلط. ولهذه الآية، ولقوله تعالى في سورة النساء: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا} [النساء: 137]. فأثبت إيماناً بعد كفر تقدمه إيمان. ولو تكررت منه الردة صحت توبته أيضاً عند جمهور العلماء، لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. وقال إسحاق بن راهويه: إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته بعد ذلك. أي: لظاهر آية النساء- انتهى- قلت: وفي زاد المستقنع وشرحه: من فقه الحنابلة ما نصه: ولا تقبل توبة من تكررت ردته بل يقتل؛ لأن ذلك يدل على فساد عقيدته وقلة مبالاته بالإسلام- انتهى- وهو قريب من مذهب إسحاق، وحكى في فتح الباري مثله عن الليث وعن أبي إسحاق المروزي من أئمة الشافعية.

.تفسير الآية رقم (90):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ} [90].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ} أي: الذي ضلوا سبيل الحق وأخطأوا منهاجه، وقد أشكل على كثير قوله تعالى: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} مع أن التوبة عند الجمهور مقبولة كما في الآية قبلها، وقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25]. وغير ذلك، فأجابوا: بأن المراد عند حضور الموت. قال الواحدي في الوجيز: لن تقبل توبتهم لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت، وتلك التوبة لا تقبل انتهى-. أي: كما قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 18]، الآية. وقيل: عدم قبول توبتهم كناية عن عدم توبتهم، أي: لا يتوبون. كقوله: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]. وإنما كنى بذلك تغليظاً في شأنهم وإبرازاً لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة، وقيل: لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقاً لارتدادهم وازديادهم كفراً. وبقي للمفسرين وجوه أخرى، هي في التأويل أبعد مما ذكر. ولا أرى هذه الآية إلا كآية النساء: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} الخ. وكلاهما مما يدل صراحة على أن من تكررت ردته لا تقبل توبته، وإلى هذا ذهب إسحاق وأحمد كما قدمنا، وذلك لرسوخه في الكفر. وقد أشار القاشاني إلى أن هذه الآية مع التي قبلها يستفاد منها أن الكفرة قسمان في باب العناد، وعبارته عند قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً} أنكر تعالى هدايته لقوم قد هداهم أولاً بالنور الاستعدادي إلى الإيمان، ثم بالنور الإيماني إلى أن عاينوا حقية الرسول وأيقنوا بحيث لم يبق لهم كذا. وانضم إليه الاستدلال العقلي بالبينات، ثم ظهرت نفسهم بعد هذه الشواهد كلها بالعناد واللجاج وحجبت أنوار قلوبهم وعقولهم وأرواحهم الشاهدة ثلاثتها بالحق للحق، لشؤم ظلمهم وقوة استيلاء نفوسهم الأمارة عليهم الذي هو غاية الظلم فقال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، لغلظ حجابهم وتعمقهم في البعد عن الحق وقبول النور. وهم قسمان:
قسم رسخت هيئة استيلاء النفوس الأمارة على قلوبهم فيهم وتمكنت، وتناهوا في الغي والاستشراء، وتمادوا في البعد والعناد، حتى صار ذلك ملكة لا تزول. وقسم لم يرسخ ذلك فيهم بعد، ولم يصر على قلوبهم ريناً، ويبقى من وراء حجاب النفس مسكة من نور استعدادهم، عسى أن تتداركهم رحمة من الله وتوفيق فيندموا ويستجيبوا بحكم غريزة العقول. فأشار إلى القسم الأول بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}.. إلى آخره، وإلى الثاني بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا}، بالمواظبة على الأعمال والرياضات، ما أفسدوا- انتهى-.

.تفسير الآية رقم (91):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [91].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} هذه الآية نظير قوله تعالى في سورة المائدة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36]. وقد روى الإمام أحمد والشيخان عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال: فيقول نعم، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك»! وفي رواية للإمام أحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له: يا ابن آدم! كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي: رب! خير منزل، فيقول: سل وتمنّ، فيقول: ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات- لما يرى من فضل الشهادة- ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له: يا ابن آدم! كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي: رب! شر منزل، فيقول له: أتفتدي منه بطلاع الأرض ذهباً؟ فيقول: أي: رب! نعم. فيقول: كذبت! قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إلى النار». ولهذا قال: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} أي: من منقذ من عذاب الله ولا مجير من أليم عقابه.
لطيفة:
في قوله تعالى: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} قال صاحب الانتصاف: إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطاً آخر، يعطف عليه الشروط المقترنة به ضرورة. والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبهاً على المسكوت عنه بطريق الأولى. مثاله: قولك: أكرم زيداً ولو أساء، فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره: أكرم زيداً ولو أساء، إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء، على أن إكرامه أن أحسن بطريق الأولى. ومنه: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]. معناه والله أعلم: لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم، ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم، فأوجبه تنبيهاً على ما هو أسهل وأولى بالوجوب، فإذا تبين مقتضى الواو في مثل هذه المواضع وجدت آية آل عِمْرَان هذه مخالفة لهذا النمط ظاهراً، لأن قوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}. يقتضي شرطاً آخر محذوفاً، يكون هذا المذكور منبهاً عليه بطريق الأولى. وهذه الحال المذكورة، وهي حالة افتدائهم بملء الأرض ذهباً، هي حالة أجدر الحالات بقبول الفدية، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها، فلذلك قدر الزمخشري الكلام بمعنى: لن يقبل من أحد منهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. حتى تبين حالة أخرى يكون الافتداء الخاص بملء الأرض ذهباً هو أولى بالقبول منها، فإذا انتفى حيث كان أولى فلأن ينتفي فيما عدا هذه الحالة أولى، فهذا كله بيان للباعث له على التقدير المذكور. وأما تنزيل الآية عليه فعسر جدًّا، فالأولى ذكر وجه يمكن تطبيق الآية عليه على أسهل وجه وأقرب مأخذ إن شاء الله. فنقول: قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهباً يكون على أحوال:
منها: أن يؤخذ منه على وجه القهر فدية عن نفسه كما تؤخذ الدية قهراً من مال القاتل على قول.
ومنها: أن يقول المفتدي في التقدير: أفدى نفسي بكذا- وقد لا يفعل-.
ومنها: أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذي يفدي به نفسه ويجعله حاضراً عتيداً، وقد يسلمه مثلاً لمن يأمن منه قبول فديته.
وإذا تعددت الأحوال فالمراد في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول، وهو أن يفتدي بملء الأرض ذهباً افتداء محققاً، بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختياراً، ومع ذلك لا يقبل منه. فمجرد قوله: أبذل المال وأقدر عليه، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى، فيكون دخول الواو والحالة هذه على بابها تنبيهاً على أن ثم أحوالاً آخر لا ينفع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة. وقد ورد هذا المعنى مكشوفاً في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36]- والله أعلم- وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من الوعيد، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس في ذلك اليوم. ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل: لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إليّ في يدي هذه. فتأمل هذا النظر فإنه من السهل الممتنع والله ولي التوفيق- انتهى-.
وثمة وجه ثان وهو أن المراد: ولو افتدى بمثله معه كما صرح به في تلك الآية، فالمعنى لا يقبل ملء الأرض فدية، ولو زيد عليه مثله، والمثل يحذف كثيراً في كلامهم، كقولك: ضربته ضرب زيد، تريد مثل ضربه. وأبو يوسف أبو حنيفة، تريد مثله. وقضية ولا أبا حسن لها، أي: ولا مثل أبي حسن. كما أنه يراد في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا، تريد: أنت. وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر، فكانا في حكم شيء واحد، وعلى هذا الوجه يجري الكلام على التأويل المتقدم لأنه نبه بعدم قبول مثلي ملء الأرض ذهباً على عدم قبول ملئها مرة واحدة بطريق الأولى.
ووجه ثالث: وهو أن لا يحمل ملء الأرض أولاً على الافتداء بل على التصدق، ولا يكون الشرط المذكور من قبيل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق، بل يكون شرطاً محذوف الجواب، ويكون المعنى: لا يقبل منه ملء الأرض ذهباً تصدق به، ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه. وضمير به للمال من غير اعتبار وصف التصدق.
ووجه رابع: وهو أن الواو زيدت لتأكيد النفي. فتبصر.

.تفسير الآية رقم (92):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [92].
{لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} استئناف خطاب للمؤمنين سيق لبيان ما ينفعهم ويقبل منهم، إثر بيان ما لا ينفع الكفرة ولا يقبل منهم، أي: لن تبلغوا حقيقة البر، وتلحقوا بزمرة الأبرار. بناء على أن تعريف البر للجنس. أو لن تنالوا بر الله سبحانه وتعالى وهو ثوابه وجنته، إذا كان للعهد، حتى تنفقوا في سبيل الله تعالى مما تحبون، أي: تهوونه ويعجبكم من كرائم أموالكم، كما في قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267]. وقد روى الشيخان عن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر أنصار المدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إلى بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله. فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه- وبيرحا يروى بكسر الباء وفتحها وفتح الراء وضمها والمد والقصر، وهو اسم حديقة بالمدينة- وفي الفائق: إنها فيعلى من البراح، وهو الأرض الظاهرة. وبخ بخ: كلمة استحسان ومدح كررت للتأكيد، ورابح بالموحدة: أي: ذو ربح، وبالمثناة التحتية أي: يروح عليك نفعه وثوابه.
وفي الصحيحين أن عمر قال: يا رسول الله! لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر، فما تأمرني به؟ قال: «حبس الأصل وسبل الثمرة».
وروى الحافظ أبو بكر البزار أن عبد الله بن عُمَر قال: حضرتني هذه الآية: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} فذكرت ما أعطاني الله، فلم أجد شيئاً أحب إلي من جارية لي رومية، فقلت: هي حرة لوجه الله، فلو أني أعود في شيء جعلته لله، لنكحتها. يعني: تزوجتها.
تنبيه:
قال القاشاني: في هذه الآية: كل فعل يقرب صاحبه من الله فهو بر، ولا يمكن التقرب إليه إلا بالتبرؤ عما سواه، فمن أحب شيئاً فقد حجب عن الله تعالى به، وأشرك شركاً خفياً، لتعلق محبته بغير الله، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]، وآثر نفسه به على الله، فقد بعد من الله بثلاثة أوجه: وهي محبة غير الحق، والشرك، وإيثار النفس على الحق، فإن آثر الله به على نفسه وتصدق به وأخرجه من يده فقد زال البعد، وحصل القرب، وإلا بقي محجوباً، وإن أنفق من غيره أضعافه، فما نال براً لعلمه تعالى بما ينفق وباحتجابه بغيره.
{وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أي: فمجازيكم عليه، قليلاً كان أو كثيراً، جيداً أو غيره.