فصل: تفسير الآية رقم (98):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (98):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [98].
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ} أي: الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقوله: {وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} حال مفيدة لتشديد التوبيخ. وإظهار الجلالة في موضع الإضمار لتربية المهانة وتهويل الخطب. وصيغة المبالغة في شهيد لتأكيد الوعيد، وكل ذلك موجب لعدم الاجتراء على ما يأتونه. ثم عقب تعالى الإنكار عليهم في ضلالهم توبيخهم في إضلالهم فقال:

.تفسير الآية رقم (99):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [99].
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} أي: عن دينه. وكانوا يحتالون لصدهم عن الإسلام: {مَنْ آمَنَ} مفعول تصدون قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام به: {تَبْغُونَهَا} على الحذف والإيصال، أي: تبغون لها، أي: لسبيل الله التي هي أقوم السبل: {عِوَجاً} أي: اعوجاجاً وزيغاً وتحريفاً. قال ابن الأنباري: البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام، كقولك: بغيت المال والأجر والثواب، وأريد ههنا: تبغون لها عوجاً، ثم أسقطت اللام. كما قالوا: وهبتك درهماً، أي: وهبت لك درهماً ومثله: صدتك ظبياً، أي: صدت لك ظبياً، وأنشد:
فتولى غلامهم ثم نادى ** أظليماً أصيدكم أم حمارا

أراد: أصيد لكم.
قال الرازي: وفي الآية وجه آخر، وهو أن يكون عوجاً في موضع الحال. والمعنى: تبغونها ضالين، وذلك أنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله، فقال تعالى: إنكم تبغون سبيل الله ضالين، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الحذف والإيصال.
وذكر ناصر الدين في الانتصاف وجها آخر قال: هو أتم معنى، وهو أن تجعل الهاء هي المفعول به، وعوجاً حال وقع فيها المصدر الذي هو عوجاً موقع الاسم، وفي هذا الإعراب من المبالغة أنهم يطلبون أن تكون الطريقة المستقيمة نفس العوج، على طريقة المبالغة في مثل رجل صوم، ويكون ذلك أبلغ في ذمهم وتوبيخهم- والله أعلم-.
{وَأَنتُمْ شُهَدَاء} بأنها سبيل الله والصد عنها ضلال وإضلال: {وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تهديد ووعيد.

.تفسير الآية رقم (100):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [100].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} أي: بحسن اعتقادكم فيهم لكونهم أهل الكتاب: {يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي: بالتوحيد والنبوة: {كَافِرِينَ} لأنهم يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، كما قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] الآية.

.تفسير الآية رقم (101):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [101].
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب. والمعنى: من أين يتطرق لكم الكفر؟: {وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ} وهي القرآن المعجز الذي هو أجلّ من الآيات المتلوّة عليهم: {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم، وقد هداكم من الضلالة، وأنقذكم من الجهالة: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: من يتمسك بدينه الحق الذي بيّنه بآياته على لسان رسوله، وهو الإسلام، والتوحيد، المعبر عنه بسبيل الله، فهو على هدى لا يضل متبعه. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون حثاً لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم- انتهى- فالجملة حينئذ تذييل لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا} الخ، لأن مضمونه أنكم إن تطيعوهم لخوف شرورهم ومكايدهم، فلا تخافوهم والتجئوا إلى الله في دفع ذلك، لأن من التجأ إليه كفاه.

.تفسير الآية رقم (102):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [102].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} أي: حق تقواه، وذلك بدوام خشيته ظاهراً وباطناً والعمل بموجبها. وروى الحافظ ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود أنه قال في معنى الآية: هو أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. ورواه ابن مردويه والحاكم مرفوعاً، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قال ابن كثير: والأظهر أنه موقوف- والله أعلم-.
وروي عن أنس أنه قال: لا يتقي العبد الله حق تقاته حتى يخزن لسانه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: أن يجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
أقول: كل ما روي، مما تشمله الآية بعمومها، فلا تنافي.
تنبيه:
زعم بعضهم أن هذه الجملة من الآية منسوخة بآية: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، متأولاً حق تقاته بأن يأتي العبد بكل ما يجب لله ويستحقه. قال: فهذا يعجز العبد عن الوفاء، فتحصيله ممتنع. وهذا الزعم لم يصب المحزّ، فإن كلاً من الآيتين سيق في معنى خاص به، فلا يتصور أن يكون في هذه الجملة طلب ما لا يستطاع من التقوى، بل المراد منها دوام الإنابة له تعالى وخشيته وعرفان جلاله وعظمته قلباً وقالباً، كما بينا. وهذا من المستطاع لكل منيب. وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. أمر بعبادته قدر الاستطاعة بلا تكليف لما لا يطاق، إذ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وظاهر أن من أتى بما يستطيعه من عبادته تعالى وأناب لجلاله، وأخلص في أعماله، وكان مشفقاً في طاعاته، فقد اتقى الله حق تقاته {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي: مخلصون نفوسكم لله تعالى، لا تجعلون فيها شركة لما سواه أصلاً، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [النساء: 125]. وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي: لا تموتن على حال من الأحوال، إلا حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه، كما ينبئ عنه الجملة الإسمية. ولو قيل إلا مسلمين لم يفد فائدتها.
والعامل في الحال ما قبل إلا بعد النقض. وظاهر النظم الكريم، وإن كان نهياً عن الموت المقيد بقيد، هو الكون على أي: حال غير حال الإسلام، لكن المقصود هو النهي عن ذلك القيد عند الموت المستلزم للأمر بضده الذي هو الكون على حال الإسلام حينئذ. وحيث كان الخطاب للمؤمنين، كان المراد إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت. وتوجيه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور. فإن النهي عن المقيد في أمثاله، نهي عن القيد ورفع له من أصله بالكلية، مفيد لما لا يفيده النهي عن نفس القيد. فإن قولك: لا تصلِّ إلا وأنت خاشع، يفيد من المبالغة في إيجاب الخشوع في الصلاة ما لا يفيده قولك: لا تترك الخشوع في الصلاة؛ لما أن هذا نهي عن ترك الخشوع فقط، وذاك نهي عنه وعما يقارنه، ومفيد لكون الخشوع هو العمدة في الصلاة، وأن الصلاة بدونه حقها أن لا تفعل. وفيه نوع تحذير عما وراء الموت- أفاده أبو السعود-.
وقد مضى في سورة البقرة الكلام على لون آخر من سر البلاغة في هذه الجملة.

.تفسير الآية رقم (103):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [103].
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} الحبل: إما بمعنى العهد، كما قال تعالى في الآية بعدها: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عِمْرَان: 112]. أي: بعهد وذمة، وإما بمعنى القرآن، كما في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإني تارك فيكم ثقلين: أحدهما كتاب الله هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة...» الحديث، والوجهان متقاربان، فإن عهده أي: شرعه ودينه كتابه حرز للمتمسك به من الضلالة، كالحبل الذي يتمسك به خشية السقوط. وقوله: {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} أي: لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم. كما اختلف اليهود والنصارى، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية، متدابرين، يعادي بعضكم بعضاً، ويحاربه. أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق، ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام- أفاده الزمخشري-: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}.
قال الزمخشري: كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام، وقذف فيها المحبة، فتحابوا وتوافقوا وصاروا إخواناً متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد، قد نظم بينهم وأزال الاختلاف، وهو الأخوة في الله: {وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا} أي: طرف: {حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ} بما كنتم فيه من الجاهلية: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} أي: بالإسلام. قال ابن كثير: وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج، فإنه كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم، والوقائع بينهم. فلما جاء الله بالإسلام، فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخواناً متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى. قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 62- 63] الآية. وكانوا على شفا حفرة من النار، بسبب كفرهم، فأنقذهم الله منها، إذ هداهم للإيمان. وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم قسم غنائم حنين، فعتب من عتب منهم، بما فضل عليهم في القسمة، بما أراه الله، فخطبهم فقال: «يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟» فكلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ- انتهى-.
لطيفة:
قال الزمخشري: الضمير في: منها للحفرة أو للنار أو للشفا، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة، وهو منها كما قال:
كما شرقت صدر القناة من الدم

انتهى.
وقال أبو حيان: لا يحسن عوده إلا إلى الشفا؛ لأنه المحدَّث عنه. انتهى.
وفي الانتصاف: يجوز عود الضمير إلى الحفرة، فلا يحتاج إلى تأويله المذكور، كما تقول: أكرمت غلام هند، وأحسنت إليها، والمعنى على عوده إلى الحفرة أتم، لأنها التي يمتن بالإنقاذ منها حقيقة، وأما الامتنان بالإنقاذ من الشفا، فلما يستلزمه الكون على الشفا غالباً من الهويّ إلى الحفرة، فيكون الإنقاذ من الشفا إنقاذاً من الحفرة التي يتوقع الهويّ فيها. فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة تكون أبلغ وأوقع. مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو علي في التعاليق من ضرورة الشعر، خلاف رأيه في الإيضاح- نقله ابن يسعون-.
وما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه، ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ منها، وقد بينا في أدراج هذا الكلام ما يسوغ الامتنان عليهم بالإنقاذ من الحفرة، لأنهم كانوا صائرين إليها غالباً، لولا الإنقاذ الرباني. ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «الراتع حول الحمى يوشك أن يواقعه» وإلى قوله تعالى: {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 109]. وانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سبباً مؤدياً إلى انهياره في نار جهنم، مع تأكيد ذلك بقوله: {هَارٍ}. والله أعلم- انتهى-.
ثم قال الزمخشري: وشفا الحفرة وشفتها: حرفها، بالتذكير والتأنيث، ولامها واو إلا أنها في المذكر مقلوبة، وفي المؤنث محذوفة، ونحو الشفا والشفة، الجانب والجانبة. انتهى.
وحكى الزجاج في تثنية شفا: شفوان. قال الأخفش لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو، لأنه الإمالة من الياء. كذا في الصحاح.
ثم قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلوا على حرف حفرة من النار؟
قلت: لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار، بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها.
قال الرازي: وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة، إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء.
{كَذَلِكَ} أي: مثل ذلك البيان: {يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} في كل مكان لإنقاذكم عن الضلال فيه: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لرشدكم الديني والدنيوي فيه. ثم أشار إلى أنه كما أنقذكم من النار والضلال بإرسال الرسل وإنزال الآيات، فليكن فيكم من ينقذ إخوانه، فقال:

.تفسير الآية رقم (104):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [104].
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ} أي: جماعة، سميت بذلك لأنها يؤمها فرق الناس، أي يقصدونها ويقتدون بها: {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} وهو ما فيه صلاح ديني ودنيوي: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} أي: بكل معروف، من واجب ومندوب يقربهم إلى الجنة ويبعدهم عن النار: {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر} أي: عن كل منكر، من حرام ومكروه يقربهم إلى النار ويبعدهم من الجنة: {وَأُوْلَئِكَ} الداعون الآمرون الناهون: {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بأجور أعمالهم وأعمال من تبعهم.
قال بعضهم: الفلاح: هو الظفر وإدراك البغية. فالدنيوي هو إدراك السعادة التي تطيب بها لحياة، والأخروي أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وعزّ بلا ذل، وغنى بلا فقر، وعلم بلا جهل.
لطيفة:
قيل: عطف: {وَيَأْمُرُونَ} على ما قبله، من عطف الخاص على العام. كذا قاله الزمخشري. وناقشه في الانتصاف. وعبارته: عطف الخاص على العام يؤذن بمزيد اعتناء بالخاص لا محالة إذا اقتصر على بعض متناولات العام، كقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]. وكقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]. وكقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]. وشبه ذلك، لأن الاقتصار على تخصيص ما يفرد بالذكر يفيده تمييزاً عن غيره من بقية المتناولات. وأما هذه الآية فقد ذكر، بعد العام فيها، جميع ما يتناوله، إذ الخير المدعوّ إليه إما فعل مأمور، أو ترك منهي، لا يعدو واحداً من هذين حتى يكون تخصيصها يميزها عن بقية المتناولات، فالأولى في ذلك أن يقال: فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عامّاً ثم مفصلاً. وفيه تنبيه: أن الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية- والله أعلم- إلا أن يثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير، فإن ذاك يتم مراد الزمخشري، وما أرى هذا العرف ثابتاً- والله أعلم- انتهى.
تنبيه:
وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها- كذا في فتح البيان.
قال الغزالي رضي الله عنه: في هذه الآية بيان الإيجاب. فإن قوله تعالى: {وَلْتَكُن} أمر. وظاهر الأمر الإيجاب، وفيها بيان أن الفلاح منوط به، إذ حَصَرَ وقال: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين، وأنه إذا قام به أمة سقط الفرض عن الآخرين؛ إذ لم يقل: كونوا كلكم آمرين بالمعروف. بل قال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ}. فإذاً، مهما قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين، واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين. وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون، عم الحرج كافة القادرين عليه لا محالة. انتهى.
فإن قلت: فمن يباشره؟ فالجواب: كل مسلم تمكن منه ولم يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة، أو إن نهيه لا يأثر، لأنه عبث، إلا أنه يستحب لإظهار شعار الإسلام، وتذكير الناس بأمر الدين.
فإن قلت: فمن يؤمر وينهى؟
قلت: كل مكلف، وغير المكلف، إذا همّ بضرر غير منع، كالصبيان والمجانين، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها، كما يؤخذون بالصلاة ليمرنوا عليها- ذكره الزمخشري-.
وتفصيل هذا البحث في الإحياء للغزالي قدس سره، وقد قال، قدس سره، في طليعة ذلك البحث ما نصه: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وأهمل عمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، وإن لم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، وقد كان الذي خفنا أن يكون، إنا لله وإنا إليه راجعون، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه، وانمحى بالكلية حقيقته ورسمه، واستولت على القلوب مداهنة الخلق، وانمحت عنها مراقبة الخالق، واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعزّ على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم، فمن سعى في تلافي هذه الفترة، وسد هذه الثلمة، إما متكفلاً بعملها، أو متقلداً لتنفيذها، مجدداً لهذه السنة الداثرة، ناهضاً بأعبائها، ومتشمراً في إحيائها، كان مستأثراً من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستبداً بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها- انتهى-.