فصل: تفسير الآية رقم (115):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (115):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [115].
{وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ} أي: لن يعدموا ثوابه. وإيثار صيغة المجهول للجري على سنن الكبرياء. وقرئ الفعلان بالخطاب: {وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} فيوفيهم أجورهم وهؤلاء الموصوفون هم المذكورون في آخر السورة {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عِمْرَان: 199] الآية.
تنبيه:
قال البقاعي: أرشد السياق إلى أن التقدير: وأكثرهم ليسوا بهذه الصفات. وقال الرازي: لما قال تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ}. كان تمام الكلام أن يقال: ومنهم أمة مذمومة إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر. وتحقيقه: أن الضدين يعلمان معاً. فذكر أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما، فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر، قال أبو ذُؤَيب:
دعاني إليها القلب إني لأمره ** مطيع فما أدرى أرشدٌ طِلاَبُها

أراد: أم غيّ، فاكتفى بذكر الرشد عن الغي، وهذا قول الفراء وابن الأنباري. وقال الزجاج: لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة لأن ذكرها قد جرى قبل، ولأنا قد ذكرنا أن العلم بالضدين معاً، فذكر أحدهما مغن عن ذكر الآخر. كما يقال زيد وعمرو لا يستويان، زيد عاقل ديّن ذكي، فيغني هذا عن أن يقال: وعمرو ليس كذلك. فكذا ههنا. لما تقدم قوله: ليسوا سواء. أغنى عن ذلك الإضمار- انتهى ملخصاً- أقول: لا مانع من كون الآية الآتية هي الشق الثاني المقابل للأول. فإن عنوان الذين كفروا مقابل بمفهومه لما قبله كمالا يخفى. والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (116):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [116].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ} أي: لن تدفع عنهم: {أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً} أي: من عذاب الله، وإن كان التصدق بالأموال يطفئ غضب الرب في حق المؤمنين، ويغفر لهم بموت أولادهم، أو استغفارهم: {وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ولما بين تعالى أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئاً، ثم إنهم ربما أنفقوها في وجوه الخيرات، فيخطر في البال أنهم ينتفعون بها، فأزال تلك الشبهة، وضرب لها مثلاً بذهابها هباءً منثوراً بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (117):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [117].
{مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} من المكارم ويواسون فيه من المغارم: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} أي: برد شديد كالصرصر: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بالكفر والمعاصي فباؤوا بغضب من الله: {فَأَهْلَكَتْهُ} فكذا ريح الكفر إذا أصابت حرث إنفاق قومه تهلكه. فصار الظلم ريحاً لحصوله من هوى النفس ذات برودة شديدة لكونه ظلم الكفر الذي هو الموت المعنوي فأهلكته- قاله المهايمي-.
{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ} بإهلاك حرثهم بإرسال ريح من عنده: {وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بإرسال ريح الظلم الكفريّ على حرثهم الأخروي.
لطائف:
إن قيل: الغرض تشبيه ما أنفقوا في ضياعه، بالحرث الذي ضربته الصرّ، وقد جعل ما ينفقون ممثلاً بالريح، فما وجه المطابقة للغرض؟ أجيب: بأن هذا من التشبيه المركب وهو ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين، وإن لم تحصل المشابهة بين أجزائيها، والمقصود: تشبيه الحال بالحال، ويجوز أن يراد: مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح فتحصل المشابهة.
قال ناصر الدين في الانتصاف: والأقرب أن يقال أصل الكلام- والله أعلم- مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم فأصابته ريح فيها صر فأهلكته، ولكن خولف هذا النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة، وهو تقديم ما هو أهم، لأن الريح التي هي مثل العذاب، ذكرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث. فقدمت عنايةً بذكرها، واعتماداً على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه. ومثل هذا، في تحويل النظم لمثل هذه الفائدة، قوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] الآية. ومثله أيضاً: أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، والأصل: أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت. وأن أدعم بها الحائط إذا مال، وأمثال ذلك كثيرة والله الموفق.

.تفسير الآية رقم (118):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [118].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} أي: أصحاباً يستبطنون أمركم من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون.
قال الزمخشري: بطانة الرجل ووليجته: خصيصه وصفيّه الذي يفضي إليه بشُقُوره ثقة به. شبه ببطانة الثوب، كما يقال: فلان شعاري- انتهى- ومن أمثال العرب في سرار الرجل إلى أخيه ما يستره عن غيره: أفضيت إلي بشقوري- بضم الشين وقد تفتح- أي: أخبرته بأمري، وأطلعته على ما أسره من غيره. وفي القاموس وشرحه: البطانة: الصاحب للسر الذي يشاور في الأحوال، والوليجة: وهو الذي يختص بالولوج والاطلاع على باطن الأمر. وقال الزجاج: البطانة الدخلاء الذين ينبسط إليهم ويستبطنون، يقال: فلان بطانة لفلان، أي: مداخل له موانس، وهؤلاء المنهي عنهم، إما أهل الكتاب، كما رواه ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس: أنهم اليهود. وذلك لأن السياق في السورة، والسباق معهم. وقد كان بين الأنصار وبين مجاوريهم من اليهود ما هو معروف من سابق الرضاع والحلف. وإما المنافقون لقوله بعد: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا} [آل عِمْرَان: 119]... الخ، وهذه صفة المنافقين، كقوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14]... الخ. وربما كان يغتر بعض المؤمنين بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار. وإما جميع أصناف الكفار وقوفاً مع عموم قوله تعالى: {مِنْ دُونِكُمْ} كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]. ومما يؤكد ذلك ما رواه ابن أبي حاتم أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن هاهنا غلاماً من أهل الحيرة نصرانياً، حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتباً؟ فقال: قد اتخذت إذن بطانة من دون المؤمنين.
قال الرازي: فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلاً على النهي من اتخاذ النصراني بطانة.
وقال الحافظ ابن كثير: ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، وإطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب.
وقال السيوطي في الإكليل: قال الكيا الهراسي: في الآية دلالة على أنه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في شيء من أمور المسلمين- انتهى-.
ووجه ذلك، كما قال القاشاني: أن بطانة الرجل صفيه وخليصه الذي يبطنه ويطلع على أسراره، ولا يمكن وجود مثل هذا الصديق إلا إذا اتحدا في المقصد واتفقا في الدين والصفة، متحابين في الله لغرض. كما قيل في الأصدقاء: نفس واحدة في أبدان متفرقة. فإذا كان من غير أهل الإيمان، فبأن يكون كاشحاً أحرى. ثم بين نفاقهم واستبطانهم العداوة بقوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} أي: لا يقصرون بكم في الفساد.
قال القاشاني: لأن المحبة الحقيقية الخالصة لا تكون إلا بين الموحدين لكونها ظل الوحدة. فلا تكون في غيرها لكونهم في عالم التضاد. بل ربما تتألفهم الجنسية العامة الْإِنْسَاْنية لاشتراكهم في النوع والمنافع، والملاذ واحتياجهم إلى التعاون فيها. والمنافع الدنيوية واللذات النفسانية سريعة الانقضاء فلا تدوم المحبة عليها، بخلاف المحبة الأولى فإنها مستندة إلى أمر لا تغير فيه أصلاً.
قال الزمخشري: يقال: ألا في الأمر، يألوا: إذا قصر فيه. ثم استعمل معدّى إلى مفعولين. في قولهم: لا آلوك نصحاً، ولا آلوك جهداً، على التضمين. والمعنى: لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه. والخبال: الفساد: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} أي: عنتكم، على أن ما مصدرية، والعنت: شدة الضرر والمشقة، أي: تمنوا ما يهلككم: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي: ظهر البغض الباطن حتى خرج من أفواههم، لأنهم لا يتمالكون، مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها، أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين. وقد قيل: كوامن النفوس تظهر على صفحات الوجوه وفلتات اللسان: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} مما ظهر؛ لأن ظهوره ليس عن روية واختيار بل فلتة. ومثله يكون قليلاً: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} الدالة على سوء اتخاذكم إياهم بطانة لتمتنعوا منها، فتخلصوا في الدين، وتوالوا المؤمنين، وتعادوا الكافرين: {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أي: من أهل العقل. أو تعقلون ما بيّن لكم فعملتم به. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف موقع هذه الجمل؟
قلت: يجوز أن يكون لا يألونكم صفة للبطالة. وكذلك قد بدت البغضاء. كأنه قيل: بطانة غير آليكم خبالاً، بادية بغضاؤهم. وأما قد بينا فكلام مبتدأ. وأحسن منه وأبلغ أن تكون مستأنفات كلها على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة. ثم بين تعالى خطأهم في موالاتهم حيث يبذلونها لأهل البغضاء بقوله:

.تفسير الآية رقم (119):

القول في تأويل قوله تعالى: {هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [119].
{هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} أي: تخالطونهم وتفشون إليهم أسراركم ولا يفعلون مثل ذلك بكم، وقوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} الواو للحال وهي منتصبة من ضمير المفعول في لا يحبونكم والمعنى: لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فلا تنكرون منه شيئاً، فليس فيكم ما يوجب بغضهم لك. فما بالكم تحبونهم وهم يكفرون بكتابكم كله؟.
ولم تجعل الواو للعطف على ولا يحبونكم أو تحبونهم كما ارتضاه أبو حيان لأنه في معرض التخطئة. ولا كذلك الإيمان بالكتاب فإنه محض الصواب. واعتذر له بأن المعنى: يجمعون بين محبة الكفار والإيمان وهما لا يجتمعان، لبعده، والحالية مقررة للخطأ فتأمل، نقله الخفاجي.
قال الزمخشري: فيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم. ونحوه: {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104] {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا} نفاقاً وتغريراً: {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} أي: من أجله، تأسفاً وتحسراً. حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلاً. وعض الأنامل عادة النادم العاجز، والمغتاظ إذا عظم حزنه على فوات مطلوبه. ولما كثر هذا الفعل من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب. حتى يقال في الغضبان: إنه يعض يده غيظاً، وإن لم يكن هناك عض: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به. والمراد بزيادة الغيظ: زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله. وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار. كذا في الكشاف: {إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فيعلم ما في صدورهم من البغضاء والحنق. وهو يحتمل أن يكون من المقول أي: وقل لهم: إن الله عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظاً. وأن يكون خارجاً عنه بمعنى: قل لهم ذلك لا تتعجب من إطْلاعي إياك على أسرارهم، فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم. وقيل: هو أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطيب النفس، وقوة الرجاء، والاستبشار بوعد الله تعالى أن يهلكوا غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به من غير أن يكون ثمة قول. كأنه قيل: حدث نفسك بذلك- أفاده أبو السعود- ثم بين تعالى تناهي عداوتهم بقوله:

.تفسير الآية رقم (120):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [120].
{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} بظهوركم على العدو، ونيلكم الغنيمة، وخصب معاشكم، وتتابع الناس في دينكم: {تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} بإصابة العدو منكم، أو اختلاف بينكم، أو جدب أو بلية: {يَفْرَحُواْ بِهَا} ولا يعلمون ما لله تعالى في ذلك من الحكمة.
لطيفة:
المس أصله باليد، ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء مسّا. والتعبير به في جانب الحسنة، وبالإصابة في جانب السيئة للتفنن. وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} [التوبة: 50] وقوله: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79]. وقال: {إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج 20- 21].
قال ناصر الدين في الانتصاف: يمكن أن يقال: المس أقل تمكناً من الإصابة، وكأنه أقل درجاتها، فكأن الكلام- والله أعلم- إن تصبكم الحسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدوكم عليها. وإن تمكنت الإصابة منكم وانتهى الأمر فيها إلى الحد الذي يرثي الشامت عنده منها، فهم لا يرثون لكم ولا ينفكّون عن حسدهم، ولا في هذه الحال، بل يفرحون ويسرون. والله أعلم- انتهى-.
وهذا من أسرار بلاغة التنزيل. فدل التعبير على إفراطهم في السرور والحزن. فإذا ساءهم أقل خيرنا، فغيره أولى، وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت فهم لا يرجى موالاتهم أصلاً. فكيف تتخذونهم بطانة؟. قال البقاعي: ولما كان هذا الأمر منكياً غائظاً مؤلماً داواهم بالإشارة إلى النصر بشرط التقوى والصبر فقال: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} أي: تصبروا على ما يبتليكم الله به من الشدائد والمحن والمصائب، وتثبتوا على الطاعة وتنفوا الاستعانة بهم في أموركم، والالتجاء إلى ولايتهم: {لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} لأن المتوكل على الله الصابر على بلائه، المستعين به لا بغيره: ظافر في طلبته، غالب على خصمه، محفوظ بحسن كلاءة ربه. والمستعين بغيره: مخذول موكول إلى نفسه، محروم عن نصرة ربه، أفاده القاشاني.
وقيل: المراد بنفي الضرر عدم المبالاة به، لأن المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال، جريئاً على الخصم. الكيد: الاحتيال على إيقاع الغير في مكروه: {إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} قرئ بياء الغيبة، على معنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم من الكيد فيعاقبهم عليه. وبتاء الخطاب، أي: بما تعملون من الصبر والتقوى فيجازيكم بما أنتم أهله.
تنبيه مهم:
قال الرازي: إطلاق لفظ المحيط على الله مجاز، لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه، وذلك من صفات الأجسام، لكنه تعالى لما كان عالماً بكل الأشياء، قادراً على كل الممكنات، جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها، ومنه قوله: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20]. انتهى.
أقول: ما ذكره شبهة جهمية مبناها قياس صفة القديم على الحوادث، وأخذ خاصتها به، وهو قياس مع الفارق. والسمعيات تتلقى من عرف المتكلم بالخطاب، لا من الوضع المحدث. فليس لأحد أن يجعل الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعاني، ثم يريد أن يفسر مراد الله تعالى بتلك المعاني، وتتمة هذا البحث تقدمت في تفسير الرحمن الرحيم من البسملة أول التنزيل الجليل. فارجع إليها.