فصل: تفسير الآية رقم (121):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (121):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [121].
{وَإِذْ غَدَوْتَ} أي: خرجت: {مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ} أي: تنزل: {الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ} أي: أماكن ومراكز يقفون فيها: {لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ذهب الجمهور وعلماء المغازي إلى أن هذه الآيات نزلت في وقعة أحد، والسر في سوق هذه الوقعة الأحدية وإيلائها البدرية، وهو تقرير ما سبق. فإن المدعي فيما قبلها المساءلة بالحسنة والمسرة بالمصيبة، وسنة الله تعالى فيهم في باب النصر والمعونة ودفع مضار العدو، إذا هم صبروا واتقوا، والتغيير إذا غيروا. أي: اذكر لهم ما يصدق ذلك من أحوالكم الماضية حين لم يصبروا في أحد، فأصيبوا، وسرَّت الأعداء مصيبتكم، وحين صبروا واتبعوا فنصروا وساء العدو نصرهم. وفي توجيه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم تهييج لغيره إلى تدقيق النظر واتباع الدليل، من غير أدنى وقوف مع المألوف كذا يستفاد من تفسير البقاعي.
وهذه الآية هي افتتاح القصة، وقد أنزل فيها ستون آية، وأشير في هذه السورة إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي في هذه الوقعة، كما سيذكر، وكانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور، وكان سببها أن الله تعالى لما قتل أشراف قريش ببدر، وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها، ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم، وجاءوا إلى أطراف المدينة في غزوة السويق، ولم ينل ما في نفسه، أخذ يؤلّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، ويجمع الجموع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش. وجاءوا بنسائهم لئلا يفروا ليحاموا عنهن، ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريباً من جبل أحد، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه أن لا يخرجوا من المدينة. وأن يتحصنوا بها، فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبيّ، وكان هو الرأي، فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، وأشاروا عليه بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، فنهض ودخل بيته، ولبس لأمته، وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك الملحين، وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، فقالوا: يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغي لنبي، إذا لبس لأمته، أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه».
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة ببقية المسلمين في المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا وهو بالمدينة: رأى أن في سيفه ثلمة، ورأى أن بقراً تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة. فتأول الثلمة في سيفه: برجل يصاب من أهل بيته، وتأول البقر: بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع: بالمدينة. فخرج يوم الجمعة فلما صار بالشوط، بين المدينة وأحد، انخزل عنه عبد الله بن أبي في ثلث الناس، مغاضباً لمخالفة رأيه في المقام. فتبعهم عبد الله بن عَمْرو، والد جابر، يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم وسبَّهم، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى، وسلك حرة بني حارثة، ومر بين الحوائط، وأبو خيثمة من بني حارثة يدل به، حتى نزل الشعب من أُحُد مستنداً إلى الجبل، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم، فلما أصبح يوم السبت تعبّى للقتال وهو في سبعمائة. فيهم خمسون فارساً وخمسون رامياً وأمّر على الرماة عبد الله بن جيبر. وأمره وأصحابه أن يلزموا مراكزهم، وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تخطف العسكر. وكانوا خلف الجيش. وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم. وظاهَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين يومئذ، وأعطى اللواء مصعب بن عُمَر، وجعل على إحدى المجنّبتين الزبير بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عَمْرو. واستعرض الشباب يومئذ. فرد من استصغره عن القتال. منهم عبد الله بن عُمَر وأسامة بن زيد وأسيد ابن ظهير والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعرابة بن أوس وعمرو بن حزام. وأجاز من رآه مطيقاً. منهم سَمُرة بن جُنْدب ورافع بن خديج، ولهما خمس عشرة سنة. فقيل: أجاز من أجازه، لبلوغه بالسن خمس عشرة سنة، ورد من رد لصغره عن سن البلوغ. وقالت طائفة: إنما أجاز من أجاز لإطاقته، ورد من رد لعدم إطاقته، ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك. قالوا: وفي بعض ألفاظ لحديث ابن عمر: فلما رآني مطيقاً أجازني. وتبعت قريش للقتال، وهم في ثلاثة آلاف، وفيه مائتي فارس، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عِكْرِمَة بن أبي جهل، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه إلى أبي دجانة سِمَاك بن خرشة، وكان شجاعاً بطلاً يختال عند الحرب، وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق، واسمه: عبد بن عَمْرو بن صيفي، وكان يسمى الراهب لترهبه وتنسكه في الجاهلية، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق. وكان رأس الأوس في الجاهلية. فلما جاء الإسلام شرق به، وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة، فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه. فكان أول من لقي من المسلمين فنادى قومه وتعرف إليهم. قالوا: لا أنعم الله لك عيناً يا فاسق! فقاتل المسلمين قتلاً شديداً، وأبلى يومئذ حمزة وطلحة وشيبة وأبو دجانة والنضر بن أنس بلاء شديداً، وأصيب جماعة من الأنصار مقبلين غير مدبرين واشتد القتال، وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار، فانهزمت أعداء الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم. فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، وقالوا: يا قوم! الغنيمة! الغنيمة! فذكّرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يسمعوا، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة، فذهبوا في طلب الغنيمة، وأخلوا الثغر، ولم يطع أميرهم منهم إلا نحو العشرة، فكرَّ المشركون وقتلوا من بقي من الرماة، ثم أتوا الصحابة من ورائهم وهم ينتهبون، فأحاطوا بهم، واستشهد منهم من أكرمه الله، ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقاتل مصعب بن عمير صاحب اللواء دونه حتى قتل، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهشمت البيضة في رأسه، يقال: إن الذي تولى ذلك عُتْبَةُ بن أبي وقاص وعمرو بن قميئة الليثي. وشد حنظلةُ الغسيل على أبي سفيان ليقتله، فاعترضه شَدَّاد بن الأسود الليثي، من شعوب، فقتله. وكان جنباً. فأخبر سول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة غسلته. وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط من بعض حفر هناك، فأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة حتى قام، ومص الدم من جرحه مالك ابن سنان الخدري، والد أبي سعيد، ونشبت حلقتان من حلق المغفرة في وجهه صلى الله عليه وسلم، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح. فندرت ثنيتاه فصار أهتم. ولحق المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم. وكرّ دونه نفر من المسلمين فقتلوا كلهم وكان آخرهم عمار بن يزيد بن السكن، ثم قاتل طلحة حتى أجهض المشركون. وأبو دجانة يلي النبي صلى الله عليه وسلم بظهره وتقع فيه النبل فلا يتحرك، وأصيبت عين قتادة بن النعمان. فرجع وهي على وجنته، فردها عليه السلام بيده فصحّت. وكانت أحسن عينيه. وانتهى النضر بن أنس جماعة من الصحابة وقد دهشوا، وقالوا: قتل رسول الله، فقال: فما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل الناس وقاتل حتى قتل، ووجد به سبعون ضربة، وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف عشرين جراحة بعضها في رجله فعرج منها. وقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم. ونادى الشيطان: ألا إن محمداً قد قتل، لأن عَمْرو بن قميئة كان قد قتل مصعب بن عُمَر، يظن أنه النبي صلى الله عليه وسلم. ووهن المسلمون لصريخ الشيطان. ثم إن كعب بن مالك الشاعر، من بني سلمة، عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنادى بأعلى صوته يبشر الناس. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: أنصت. فاجتمع عليه المسلمون ونهضوا معه نحو الشعب، وأدركه أبي بن خلف في الشعب، فتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة وطعنه بها في عنقه، فكرّ أبيّ منهزماً. وقال له المشركون: ما بك من بأس. فقال: والله! لو بصق علي لقتلني، وكان صلى الله عليه وسلم قد توعده بالقتل. فمات عدو الله بسَرَف، مرجعهم إلى مكة. ثم جاء عليّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالماء فغسل وجهه ونهض. فاستوى على صخرة من الجبل. وحانت الصلاة فصلى بهم قعوداً. وغفر الله للمنهزمين من المسلمين. ونزل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عِمْرَان: 155] الآية. واستشهد نحو من سبعين. معظمهم من الأنصار. وقتل من المشركين اثنان وعشرون. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. ويقال: إنه قال لعلي: لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا.
هذا ملخص هذه القصة. وقد ساقها بأطول من هذا أهل السير. وفيما ذكر كفاية. وأما ما اشتملت عليه من الأحكام والفقه والحكم والغايات المحمودة، فقد تكفل بيانها الإمام ابن القيم في زاد المعاد فارجع إليه.
تنبيه:
فسر أكثر العلماء غدوت بأصلها، وهو الخروج غدوة، أي: بكرة. ثم استشلكوا أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد بعد صلاة الجمعة كما اتفقت عليه كلمة أهل السير، فكيف المطابقة؟
فمنهم من أجاب بأنه المراد غدوة السبت، وأنه كان في صباحه التبوؤ للمقاعد، إلا أنه لا يساعده من أهلك لأنه لم يكن وقتئذ أهله معه.
ومنهم من قال: المراد: غدوة الجمعة أي: اذكر إذ غدوت من أهلك صبيحة الجمعة إلى أصحابك في مسجدك تستشيرهم في أمر المشركين، ثم قال: وبنى من غدوت حالاً إعلاماً بأن الشروع في السبب شروع في مسببه، فقال تبوئ المؤمنين أي: صبيحة يوم السبت.
وكان يخطر لي أن الأقرب جعل الغدو بمعنى الخروج غير مقيد بالبكرة، وكثيراً ما يستعمل كذلك.
ثم رأيت في فتح البيان ما استظهرته فحمدت الله على الموافقة، ونصه: وعبر عن الخروج بالغدو الذي هو الخروج غدوة مع كونه صلى الله عليه وسلم خرج بعد صلاة الجمعة، لأنه قد يعبر بالغدوة والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما، كما يقال: أضحى وإن لم يكن في وقت الضحى- انتهى-.
قال البقاعي: ولما كان رجوع عبد الله بن أبيّ المنافق، كما يأتي في ضريح الذكر آخر القصة، من الأدلة على أن المنافقين، فضلاً عن المصارحين بالمصارمة، متصفون بإخبار الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء، مع أنه كان سبباً في هم الطائفتين من الأنصار بالفشل. كان إيلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فساد، في غاية المناسبة. ولذلك افتتحها سبحانه بقوله مبدلاً من إذ غدوت دليلاً على ما قبله من أن بطانة السوء لا يألونهم خبالاً.

.تفسير الآية رقم (122):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ هَمَّت طَّائفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [122].
{إِذْ هَمَّت طَّائفَتَانِ مِنكُمْ} أي: بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس: {أَن تَفْشَلاَ} أي: تكسلا وتجبنا وتضعفا لرجوع المنافقين عن نصرهم وولايتهم، فعصمهما الله، فمضيا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا} ناصرهما، ومتولي أمرهما، فأمدهما بالتوفيق والعصمة {وَعَلَى اللّهِ} وحده دون ما عداه استقلالاً أو اشتراكاً: {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في جميع أمورهم، فإنه حسبهم، والتوكل: تفعل من وكل أمره إلى فلان إذا اعتمد في كفايته عليه، ولم يتوله بنفسه. وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الْإِنْسَاْن ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله، وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل. روى الشيخان عن جابر رضي الله عنه قال: فيما نزلت: {إِذْ هَمَّت طَّائفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا}- قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل لقوله تعالى: {وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا}.
أي لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية. وإن تلك الهمة ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (123):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [123].
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لما ذكر تعالى قصة أحد أتبعها بذكر قصة بدر. وذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الضعف عَدداً وعُدداً، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة. ثم إنه تعالى نصر المسلمين على الكافرين، فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن ثمرة التوكل عليه تعالى والصبر والتقوى هو النصر والمعونة والتأييد. وبدر موضع بين الحرمين، إلى المدينة أقرب، يقال هو منها على ثمانية وعشرين فرسخاً. أو اسم بئر هناك، حفرها رجل اسمه بدر، وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: راجين أن تشكروا ما أنعم به عليكم بتقواكم من نصرته. وقد أشير في مواضع من التنزيل إلى غزوة بدر، وكانت في شهر رمضان، السنة الثانية من الهجرة. وكان سببها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن عيراً لقريش فيها أموال عظيمة مقبلة من الشام إلى مكة. معها ثلاثون أو أربعون رجلاً من قريش، عميدهم أبو سفيان، ومعه عَمْرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل.
فندب صلى الله عليه وسلم إلى هذه العير. وأمر من كان ظهره حاضراً بالخروج. ولم يحتفل في الحشد، لأنه لم يظن قتالاً. وخرج مسرعاً في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، لم يكن معهم من الخيل إلا فَرَسَان، وكان معهم سبعون بعيراً يتعقبونها. واتصل خروجه بأبي سفيان، فاستأجر ضمضم بن عَمْرو الغفاري، وبعثه إلى أهل مكة يستنفرهم لعيرهم. فنفروا وأوعبوا. وخرج صلى الله عليه وسلم لثمان خلون من رمضان، واستخلف على الصلاة عَمْرو بن أم مكتوم، ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، ودفع إلى علي راية، وإلى رجل من الأنصار راية أخرى، يقال: كانتا سوداوين. وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة. وراية الأنصار يومئذ مع سعد بن معاذ، فسلكوا نقب المدينة إلى ذي الحليفة، ثم انتهوا إلى صخيرات يمام، ثم إلى بئر الروحاء، ثم رجعوا ذات اليمين عن الطريق إلى الصفراء. وبعث صلى الله عليه وسلم قبلها بسبس بن عَمْرو وعدي بن أبي الزغباء إلى بدر، يتجسسان أخبر أبي سفيان وعيره، ثم تنكب عن الصفراء يميناً، وخرج على وادي دقران، فبلغه خروج قريش ونفيرهم، فاستشار أصحابه، فتكلم المهاجرون، وأحسنوا، وهو يريد ما يقول الأنصار، وفهموا ذلك، فتكلم سعد بن معاذ، وكان فيما قال: لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله. فَسُرَّ بذلك وقال: «سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين».
ثم ارتحلوا من دقران إلى قريب من بدر، وبعث علياً والزبير وسعداً في نفر يلتمسون الخبر. فأصابوا غلامين لقريش، فأتوا بهما، وهو صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، وقالوا: نحن سقاة قريش، فكذبوهما، كراهية في الخبر، ورجاء أن يكونا من العير للغنيمة وقلة المؤنة، فجعلوا يضربونهما فيقولان: نحن من العير. فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكر عليهم، وقال للغلامين: أخبراني أين قريش؟ فأخبراه أنهم وراء الكثيب وأنهم ينحرون يوماً عشراً من الإبل ويوماً تسعاً، فقال صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمائة والألف».
وقد كان بسبس وعدي مضيا يتجسسان ولا خبر، حتى نزلا وأناخا قرب الماء، واستقيا في شن لهما، ومجدي بن عَمْرو من جهينة يقربهما. فسمع عديّ جارية من جواري الحي تقول لصاحبتها: العير تأتي غداً أو بعد غد، وأعمل لهم وأقضيك الذي لك، وجاءت إلى مجدي بن عَمْرو، فصدقها. فرجع بسبس وعدّي بالخبر. وجاء أبو سفيان بعدهما يتجسس الخبر. فقال لمجدي: هل أحسست أحداً؟ فقال: راكبين أناخا يميلان لهذا التل، فاستقيا الماء ونهضا. فأتى أبو سفيان مناخهما. وفتت من أبعار رواحلهما. فقال: هذه والله علائف يثرب. فرجع سريعاً وقد حذر، وتنكب بالعير إلى طريق الساحل فنجا. وأوصى إلى قريش بأنا قد نجونا بالعير فارجعوا.
فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر، ونقيم به ثلاثاً، وتهابنا العرب أبداً، ورجع الأخنس بن شريق بجميع بني زهرة، وكان حليفهم ومطاعاً فيهم، وقال: إنما خرجتم تمنعون أموالكم وقد نجت، فارجعوا. وكان بنو عدي لم ينفروا مع القوم، فلم يشهد بدراً من قريش عدوي ولا زهري. وسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً إلى ماء بدر، وثبطهم عنه مطر نزل وبلُه مما يليهم، وأصاب مما يلي المسلمين دهس الوادي، وأعانهم على السير. فنزل صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة، فقال له الحُبَاب بن المنذر: الله أنزلك بهذا المنزل فلا نتحول عنه، أم قصدت الحرب والمكيدة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لا بل هو الرأي والحرب». فقال: يا رسول الله! ليس هذا بمنزل، وإنما نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونبني عليه حوضاً، ونملؤه ونعوِّر القُلُبَ كلها، فنكون قد منعناهم الماء، فاستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بنوا عريشاً على تل مشرف على المعركة يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتيه النصر من ربه، ومشى يريهم مصارع القوم واحداً وحداً.
ولما نزل قريش مما يليهم بعثوا عمير بن وهب الجمحي يحزر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحزرهم وانصرف وخبرهم الخبر. ورام حكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش، ولا يكون الحرب، فأبى أبو جهل، وساعده المشركون، وتواقفت الفئتان، وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف بيده، ورجع إلى العريش، ومعه أبو بكر وحده، وطفق يدعو ويلح، وأبو بكر يقاوله. ويقول في دعائه: اللهم! إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، اللهم! أنجز لي ما وعدتني.
وسعد بن معاذ وقوم معه من الأنصار على باب العريش يحمونه، وأخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انتبه، فقال: أبشر يا أبا بكر! فقد أتى نصر الله. ثم خرج يحرض الناس. ورمى في وجوه القوم بحفنة من حصى وهو يقول: شاهت الوجوه. ثم تزاحفوا، فحرج عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد يطلبون البراز، فخرج إليهم عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، فقتل حمزةُ وعليٌ شيبةَ والوليدَ، وضرب عتبة عبيدة، فقطع رجله فمات، وجاء حمزة وعليّ إلى عتبة فقتلاه، وقد كان برز إليهم عوف ومعاذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة من الأنصار فأبو إلا قومهم. وجال القوم جولة، فهزم المشركون. وقتل منهم يومئذ سبعون رجلاً. وأسر سبعون. واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً. ثم انجلت الحرب، وانصرف إلى المدينة، وقسم الغنائم في الصفراء، ودخل المدينة لثمان بقين من رمضان، وبسط القصة في السير. ومن أبدعها سياقاً وفقها زاد المعاد فليرجع إليه.