فصل: تفسير الآية رقم (29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (29):

القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [29].
{هو الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاًَ} بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم، ويتم به معاشهم، ومعنى: {لَكُمْ} لأجلكم، ولانتفاعكم. وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها، مما ينتفع به من غير ضرر. وفي التأكيد بقوله: {جميعاً} أقوى دلالة على هذا.
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} قال أبو العالية الرياحي: استوى إلى السماء أي: ارتفع. نقله عنه البخاري في صحيحه، ورواه محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن الربيع بن أنس. وقال البغوي: قال ابن عباس وأكثر المفسِّرين: ارتفع إلى السماء. وقال الخليل بن أحمد في: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء}: ارتفع. رواه أبو عمر ابن عبد البر في شرح الموطأ، ونقله الذهبي في كتاب العلو. وقد استدل بقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء، وكذلك الآية التي في حم، السجدة. وقوله تعالى في سورة وَالنَّازِعَاتِ: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] إنما يفيد تأخُّر دحوّها، لا خلق جرمها، فإنّ خلق الأرض وتهيئتها لما يراد منها قبل خلق السماء، ودحوها بعد خلق السماء، والدحو: هو البسط، وإنبات العشب منها، وغير ذلك. مما فسره قوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات: 31]. الآية وكانت قبل ذلك خربة وخالية، على أن: {بعد} تأتى بمعنى: مع، كقوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] أي: مع ذلك، فلا إشكال. وتقديم الأرض هنا؛ لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أي: صيرهن، كما في آية أخرى: {فَقَضَاهُنَّ} [فصلت: 12].
تنبيه:
قال بعض علماء الفلك: السموات السبع المذكورة كثيراً في القرآن هي هذه السيارات السبع. وإنما خصت بالذكر مع أن السيارات أكثر من ذلك لأنها أكبر السيارات وأعظمها، على أن القرآن الكريم لم يذكرها في موضع واحد على سبيل الحصر فلا ينافي ذلك أنها أكثر من سبع.
وقال بعض علماء اللغة: إن العرب تستعمل لفظ سبع، وسبعين، وسبعمائة للمبالغة في الكثرة. فالعدد إذن غير مراد. ومنه آية: {سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة: 261] وآية: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27] وآية: {سَبْعِيْنَ مَرَّةً} [التوبة: 80] والله أعلم.
وذهب بعض علماء الفلك إلى أن الحصر في السبع حقيقيّ، وأن المراد به العالم الشمسي وحده دون غيره. وعبارته: إن قيل: إن كل ما يعلو الأرض من الشمس والقمر والكواكب هو سماء، فلماذا خصّص تعالى عدداً هو سبع؟
فالجواب: لا شكّ أنه يشير إلى العالم الشمسيّ الذي أحطنا الآن به علماً وأن حصر العدد لا يدل على احتمال وجود زيادة عن سبع، لأن القول بذلك، يخرج تطبيق القرآن على الفلك، لأن العلم أثبتها سبعاً كالقرآن الذي لم يوجد فيه احتمال الزيادة لأن الجمع يدخل فيه جميع العوالم التي لا نهاية لها حتى يمكن أن يقال: إنّ سبعاً للمبالغة كسبعين وسبعمائة، ولا يصح أن يكون العدد سبعة للمبالغة لأنه قليل جدًّا بالنسبة إلى العوالم التي تعد بالملايين مثل العالم الشمسي ويؤيد الحصر في هذا العدد آيةُ: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجا} [نوح: 15، 16] فأخرج الشمس لأنها مركز، وأخرج القمر لأنه تابع للأرض، ولم يبق تعد ذلك إلا سبع.....!
قال: وبذلك تتجلى الآن معجزة واضحة جلية. لأنه في عصر التقدم والمدنية العربية، حينما كان العلم ساطعاً على الأرض بعلماء الإسلام، كان علماء الفلك لا يعرفون من السيارات إلاَّ خمساً بأسمائها العربية إلى اليوم وهي: عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل. وكانوا يفسرونها بأنها هي السموات المذكورة في القرآن. ولمّا لم يمكنهم التوفيق بين السبع والخمس، أضافوا الشمس والقمر لتمام العدد. مع أنَّ القرآن يصرح بأن السموات السبع غير الشمس والقمر. وذلك في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} [الرعد: 2] فلفظ: {وسخر} دليل يفصل تعداد الشمس والقمر عن السبع السموات. ولذلك كان المفسرون الذين لا يعرفون الهيئة لا يرون أن تعدَّ الشمس سماءً، ولا القمر، لعلمهم أن السموات السبع مسكونة، وأما الشمس فنار محرقة، فذهبوا في تفسير السموات على تلك الظنون، ولما اكتشف بعدُ بالتلسكوب سيّارٌ لم يكن معلوماً، دعوه: أورانوس، ثم سيّار آخر سموه: نبتون، صارت مجاميع السيارات سبعاً، فهذا الاكتشاف الذي ظهر النبي صلى الله عليه وسلم بألف ومائتي سنة دل على معجزة القرآن، ونبوة المنزَّل عليه صلى الله عليه وسلم. ثم قال: وأما كون السموات هي السيارات السبع بدون توابعها، فلا يفهم من الآية، لأن الأقمار التي نثبتها، والنجوم الصغيرة التي مع المريخ، يلزم أن تكون تابعة للسموات السبعِ لأنها تعلونا وهي في العالم الشمسي. وحينئذٍ فالسموات السبع هي مجاميع السيارات السبع، بمعنى: أن مجموعة زحل بما فيها هو نفسه أي: مع أقماره الثمانية تعد سماء، لأن فلكها طبقة فوق طبقة فلك مجموعة المشتري، ويدل على هذا التطبيق قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5] يشير إلى أن السماء الدنيا- أي: السماء التي تلي الأرض- فلك المريخ، فهو وما حوله من النجوم العديدة التي تسمى مصابيح، وتعتبر كلها سماء وليس السيّار نفسه.....! انتهى.
وقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} اعتراض تذييليّ مقرِّر لما قبله، من خلق السموات والأرض وما فيها على هذا النمط البديع المنطوي على الحكم الفائقة، والمصالح اللائقة، فإن علمه عز وجل بجميع الأشياء يستدعي أن يخلق كل ما يخلقه على الوجه الرائق.
ولما ذكر تعالى الحياة والموت المشاهدَيْن تنبيهاً على القدرة على ما اتبعهما به من البعث، ثم دل على ذلك أيضاً بخلق هذا الكون كله على هذا النظام البديع، وختم ذلك بصفة العلم ذكر ابتداء خلق هذا النوع البشري المودع من صفة العلم ما ظهر به فضله بقوله:

.تفسير الآية رقم (30):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [30].
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} أي: قوماً يخلف بعضهم بعضاً، قرناً بعد قرن. كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165] وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62] وقال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60] وقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم: 59]. ويجوز أن يراد: خليفة منكم، لأنهم كانوا سكان الأرض، فخلفهم فيها آدم وذريّته، وأن يراد: خليفة مني، لأن آدم كان خليفة الله في أرضه، وكذلك كل نبيّ: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26] والغرض من إخبار الملائكة بذلك، هو أن يسألوا ذلك السؤال، ويجابوا بما أجيبوا به، فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم، أو الحكمة: تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاروة أو تعظيم شأن المجعول، وإظهار فضله، بأن بشرَّ بوجود سكّان ملكوته، ونوّه بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده، ولقَّبَه بالخليفة.
{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} هذا تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها، واستعلام عن الحكمة في ذلك. أي: كيف تستخلف هؤلاء، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك، ونقدس لك أي: ولا يصدر عنّا شيء من ذلك وهلاّ وقع الاقتصار علينا.....؟ فقال تعالى مجيباً لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي: إن لي حكمة في خلق الخليفة لا تعلمونها.
فإن قلت: من أين عرف الملائكة ذلك حتى تعجبوا منه، وإنما هو غيب؟ أجيب: بأنهم عرفوه: إما بعلمٍ خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس، ما يقع بينهم من المظالم، ويردَعُهُم عن المحارم والمآثم.
قال العلامة برهان الدين البقاعي في تفسيره: وما يقال من أنه كان قبل آدم، عليه السلام، في الأرض خلق يعصون، قاس عليهم الملائكة حال آدم عليه السلام كلامٌ لا أصل له. بل آدم أول ساكنيها بنفسه. انتهى.
وقوله تعالى: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} أي: ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك، ملتبسين بحمدك على ما أنعمت به علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة.
وقوله: {نُقَدِّسُ لَكَ} أي: نصفك بما يليق بك من العلوّ والعزّة وننزّهك عمّا لا يليق بك. وقيل: المعنى نُطَهّر نفوسنا عن الذنوب لأجلك، كأنهم قابلوا الفساد الذي أعظمه الإشراك بالتسبيح. وسفك الدماء الذي هو تلويث النفس بأقبح الجرائم، بتطهير النفس عن الآثام. لا تمدحاً بذلك، ولا إظهاراً للمنة، بل بيانا للواقع.
تنبيهات في وجوه فوائد من الآية:
الأول: دلت الآية على أن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعته، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه، لاسيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال، ويكون بالحال، والتوجه إلى الله تعالى في إفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العلمي، والاستدلال العقلي، والإلهام الإلهي.
الثاني: إذا كان من أسرار الله تعالى، وحكمه، ما يخفى على الملائكة، فنخن أولى بأن يخفى علينا، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها، لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلاً.......!
الثالث: إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم، وأجابهم عن سؤالهم بإقامة الدليل تعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم؛ وذلك أنه تعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون علّم آدم الأسماء، ثم عرضهم على الملائكة، كما سيأتي بيانه.
الرابع: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير برهان، على إنكار ما أنكروا، وبطلان ما جحدوا، فإذا كان الملأ الأعلى قد مُثلوا على أنهم يختصمون، ويطلبون البيان والبرهان، فيما لا يعلمون، فأجدرْ بالناس أن يكونوا معذورين، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين، أي: فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين، وترشد المسترشدين، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين. وهذا الوجه هو الذي يبين اتصال هذه الآيات بما قبلها، وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب، وكونه لا ريب فيه، والرسول، وكونه يبلغ وحي الله تعالى، ويهدي به عباده، واختلاف الناس فيها.
ومن خواص القرآن الحكيم الانتقال من مسألة إلى أخرى مباينة لها، أو قريبة منها، مع كون الجميع في سياق موضوع واحد. كذا في تفسير مفتي مصر. ولما بين سبحانه وتعالى لهم أولاً على وجه الإجمال والإبهام، أن في الخليفة فضائل غائبة عنهم، ليستشرفوا إليها، أبرز لهم طرفاً منها، ليعاينوه جهرةً، ويُظهر لهم بديع صنعه وحكمته، وتنزاح شبهتهم بالكلية، فقال:

.تفسير الآية رقم (31):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [31].
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} إما بخلق علم ضروري بها فيه، أو إلقاءٍ في روعه. وآدم: اسم عبرانيّ مشتق من أدَمَه، وهي لفظة عبرانية معناها التراب، لأنه جُبل من تراب الأرض. كما أن حواء كلمة عبرانية معناها: حي، وسميت بذلك لأنها تكون أم الأحياء. والمراد بالأسماء، أسماء كل شيء. قال ابن عباس: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها، وفي التوراة مصداق الآية: وهو أنه تعالى صور من الأرض كل حيوانات البر، وكل طيور السماء، وأحضرها إلى آدم، لينظر ما يسميها، وكل ما سماه آدم من نفسٍ حية، فهو اسمه. وسمى آدم جميع الحيوانات بأساميها، وجميع طيور السماء، وجميع وحوش الأرض.
وقال ابن جرير: وفي هذه الآيات العبرة لمن اعتبر، والذكرى لمن ادّكر، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عما أودع الله عز وجل في هذا القرآن، من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن؛ وذلك أن الله جل ثناؤه، احتج فيه لنبيه صلى الله عليه وسلم، على من كان بين ظهرانيّه، من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه إياه من علوم الغيب، التي لم يكن تعالى أطلع من خلقه إلا خاصّاً، ولم يكن مدركاً علمه إلا بالأنباء والأخبار، لتتقرر عندهم صحة نبوته، ويعلموا أن ما آتاهم به فمن عنده.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك، لمناسبة ما بين هذا المقام، وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن ذلك. فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون، ولهذا ذكر الله هذا المقام، عقيب هذا، ليبين لهم شرف آدم بما فضل عليهم في العلم: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} أي: عرض أهل الأسماء، فالضمير للمسميات المدلول عليها ضمناً: {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} أي التي علمتها آدم. وإنما استنبأهم، وقد علم عجزهم عن الإنباء، تبكيتاً لهم، وإظهاراً لعجزهم عن إقامة ما علقوا به رجاءهم من أمر الخلافة، فِإن التصرف والتدبير، وإقامة المعدلة، بغير وقوف على مراتب الاستعدادات، ومقادير الحقوق، مما لا يكاد يمكن: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي: في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة ممن استخلفته، كما ينبئ عنه مقالكم. والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه، قد يتطرق إليه باعتبار ما يلزمه من الأخبار، فإن أدنى مراتب الاستحقاق، هو الوقوف على أسماء ما في الأرض، ولما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم، وبدت لهم هفوة زلتهم، أنابوا إلى الله تعالى بالتوبة، وذلك ما أفاده قوله تعالى: