فصل: تفسير الآية رقم (131):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (131):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [131].
{وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} بالتحرز عن متابعتهم في الربا ونحوه. روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يقول: هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه.

.تفسير الآية رقم (132):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [132].
{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ} أي: في ترك الربا ونحوه: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

.تفسير الآية رقم (133):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [133].
{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} أي: إلى ما يؤدي إليهما من الاستغفار والتوبة والأعمال الصالحة. وقوله: {عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} أي: كعرضهما، كما قال في سورة الحديد: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21]. وفي العرض وجهان:
الأول: أنه على حقيقته. وتخصيصه بالذكر تنبيها على اتساع طولها، فإن العرض في العادة أدنى من الطول، كما قال تعالى في صفة فرض الجنة: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَق} [الرحمن: 54]. أي: فما ظنك بظاهرها؟ فكذا هنا.
والثاني: أنه مجاز عن السعة والبسطة. قال القفال: ليس المراد بالعرض هاهنا ما هو خلاف الطول، بل هو عبارة عن السعة، كما تقول العرب: بلاد عريضة، ويقال: هذه دعوى عريضة أي: واسعة عظيمة. والأصل فيه: أن ما اتسع عرضه لم يضق وما ضاق عرضه دق، فجعل العرض كناية عن السعة. وقال الزمخشري: المراد وصفها بالسعة والبسطة. فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه تعالى وأبسطه. والله أعلم {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}.

.تفسير الآية رقم (134):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [134].
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء} أي: في حال الرخاء واليسر: {وَالضَّرَّاء} أي: في حال الضيقة والعسر. وإنما افتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس، فمخالفتها فيه منقبة شامخة: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} أي: الممسكين عليه في نفوسهم، الكافّين عن إمضائه مع القدرة عليه، اتقاء التعدي فيه إلى ما وراء حقه.
روى الإمام أحمد عن جارية بن قُدَامة السَّعدِي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قل لي قولاً ينفعني وأقلل عليّ لعلي أعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تغضب». فأعاد عليه. حتى أعاد عليه مراراً. كل ذلك يقول: «لا تغضب»- انفرد به أحمد- وروى من طريق آخر أن رجلاً قال: يا رسول الله أوصني، قال: «لا تغضب..» قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} أي: ظلمهم لهم، ولو كانوا قد قتلوا منهم، فلا يؤاخذون أحداً بما يجني عليهم، ولا يبقى في أنفسهم موجدة، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]. قال القفال رحمه الله: يحتمل أن يكون هذا راجعاً إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا. فنهى المؤمنون عن ذلك، وندبوا إلى العفو عن المعسرين، قال تعالى عقيب قصة الربا والتداين: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]. ويحتمل أن يكون كما قال تعالى في الدية: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]. إلى قوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مثلوا بحمزة وقال: «لأمثلنّ بهم». فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه، والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة، فكان تركه فعل ذلك عفواً. قال تعالى في هذه القصة: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]- انتهى-.
وظاهر أن عموم الآية مما يشمل كل ما ذكر؛ إذ لا تعيين: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} اللام إما للجنس، وهم داخلون فيه دخولاً أولياً. وإما للعهد، عبر عنهم بالمحسنين إيذاناً بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي، وقد فسره صلى الله عليه وسلم بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك». والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها- أفاده أبو السعود-.

.تفسير الآية رقم (135):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [135].
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} من السيئات الكبار: {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} أي: بأي نوع من الذنوب: {ذَكَرُواْ اللّهَ} أي: تذكروا حقه وعهده فاستحيوه وخافوه: {فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} أي: لأجلها بالتوبة والإنابة إليه تعالى.
قال البقاعي: ولما كان هذا مفهماً أنه يغفر لهم لأنه غفار لمن تاب، أتبعه بتحقيق ذلك، ونفى القدرة عليه عن غيره، مرغباً في الإقبال عليه بالاعتراض بين المتعاطفين بقوله: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} أي: يمحو آثارها حتى لا تذكر. ولا يجازي عليها: {إِلاَّ اللّهُ} أي: الملك الأعلى. وقال أبو السعود: {مَن} استفهام إنكاري. أي: لا يغفر الذنوب أحد إلا الله، خلا أن دلالة الاستفهام على الانتفاء أقوى وأبلغ لإيذانه بأنه كل أحد ممن له حظ من الخطاب يعرف ذلك الانتفاء، فيسارع إلى الجواب به، والمراد به وصفه سبحانه بغاية سعة الرحمة وعموم المغفرة، والجملة معترضة بين المعطوفين، أو بين الحال وصاحبها لتقرير الاستغفار والحث عليه، والإشعار بالوعد بالقبول.
وقال الزمخشري: في هذه الجملة وصف لذاته تعالى بسعة الرحمة، وقرب المغفرة، وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه، وأن عدله يوجب المغفرة للتائب، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه، وجب العفو والتجاوز، وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبعث عليها، وردع عن اليأس والقنوط، وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجلّ، وكرمه أعظم، والمعنى: أنه وحده معه مصححات المغفرة- انتهى-.
في ومسند الإمام أحمد عن الأسود بن سريع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بأسير، فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عرف الحق لأهله». وفيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال الله: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني.
وفيه أيضاً عن علي رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيري استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر رضي الله عليه حدثني، وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يصلي ركعتين، فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له»، ورواه أهل السنن وابن حبان في صحيحه وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن: {وَلَمْ يُصِرُّواْ} أي: لم يقيموا: {عَلَى مَا فَعَلُواْ} أي: ما فعلوه من الذنوب من غير استغفار: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال من فاعل يصروا أي: لم يصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه، والنهي عنه، والوعيد عليه. والتقييد بذلك، لما أنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح. وقد روى أبو داود والترمذي والبزار وأبو يعلى عن مولى لأبي بكر الصديق رضي الله عنه عن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة»، وإسناده لا بأس به. قال ابن كثير: وقول علي بن المديني والترمذي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك- فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر، ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير، ويكفيه نسبته إلي أبي بكر، فهو حديث حسن. والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (136):

القول في تأويل قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ جَزَاؤهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [136].
{أُوْلَئِكَ} إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما مرّ من الصفات الحميدة: {جَزَاؤهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} أي: ستر لذنوبهم: {وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي: من أنواع المشروبات: {خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} المخصوص بالمدح محذوف، أي: ذلك. يعني ما ذكر من المغفرة والجنات، ثم عاد التنزيل إلى تفصيل بقية قصد أُحُد، بعد تمهيده مبادئ الرشد والصلاح بقوله:

.تفسير الآية رقم (137):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} [137].
{قَدْ خَلَتْ} أي: مضت: {مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} أي: وقائع من أنواع المؤاخذات والبلايا للأمم المكذبين: {فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ} التي فيها ديارهم الخربة وآثار إهلاكهم: {فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} أي: وقيسوا بها عاقبة اللاحقين بهم في الهلاك والاستئصال، والأمر بالسير والنظر؛ لما أن لمشاهدة آثار المتقدمين أثراً في الاعتبار، والروعة أقوى من أثر السماع.

.تفسير الآية رقم (138):

القول في تأويل قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [138].
{هَذَا} أي: القرآن أو ما تقدم من مؤاخذة المذكورين: {بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} أي: تخويف نافع: {لِّلْمُتَّقِينَ} ثم شجع قلوب المؤمنين وسلاهم عما أصابهم بقوله:

.تفسير الآية رقم (139):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [139].
{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي: لا تضعفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح، ولا تحزنوا على من قتل منكم، والحال أنكم الأعلون الغالبون دون عدوكم، فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من عاقبة أسلافهم، فهو تصريح بالوعد بالنصر بعد الإشعار به فيما سبق، وقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} متعلق بالنهي أو بالأعلون. وجوابه محذوف لدلالة ما تعلق به عليه. أي: إن كنتم مؤمنين، فلا تهنوا ولا تحزنوا، فإن الإيمان يوجب قوة القلب، والثقة بصنع الله تعالى، وعدم المبالاة بأعدائه. أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون. فإن الإيمان يقتضي العلو لا محالة- أفاده أبو السعود-.

.تفسير الآية رقم (140):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [140].
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} بالفتح والضم قراءتان، وهما لغتان، كالضَّعف والضُّعف، أي: إن أصابكم يوم أحد جراح: {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} أي: يوم بدر، ولم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى، لأنكم موعودون بالنصر دونهم، أي: فقد استويتم في الألم، وتباينتم في الرجاء والثواب، كما قال: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104]. فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم، فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان، وأنتم أصبتم في سبيل الله، وابتغاء مرضاته. وقيل: كلا المسَّين كان يوم أحد، فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَتِلْكَ الأيَّامُ} أي: أيام هذه الحياة الدنيا: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} أي: نصرفها بينهم، نديل تارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء فهي عرض حاضر، يقسمها بين أوليائه وأعدائه. بخلاف الآخرة، فإن عرضها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا.
قال ابن القيم قدس سره في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد:
ومنها أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة. فإنهم وانتصروا دائماً دخل معهم المسلمون وغيرهم، ولم يميز الصادق من غيره. ولو انتصر عليهم دائماً لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة. فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاءوا به، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة- انتهى-.
وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} قال ابن القيم: حكمة أخرى وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم، علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه، وذلك العلم الغيبي لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، وإنما يترتبان على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً في الحسّ.
لطيفة:
في الآية وجهان:
أحدهما: أن يكون المعلل محذوفاً معناه: {وَلِيَعْلَمَ} إلخ فعلنا ذلك.
الثاني: أن تكون العلة محذوفة، وهذا عطف عليه معناه: وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت، وليعلم الله. وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسليهم عما جرى عليهم وليبصرهم أن العبد يسوؤه ما يجري عليه من المصائب، ولا يشعر أن لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه- أفاده الزمخشري-.
تنبيه:
في هذه الآية بحث مشهور، وذلك بأن ظاهرها مشعر بأنه تعالى إنما فعل ذلك ليكتسب هذا العلم، ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى، ونظيرها في الإشكال قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} [آل عِمْرَان: 142] الخ. وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3] وقوله: {لِنَعْلَمَ أي الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الكهف: 12] وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]. وقوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة: 143].
قال الرازي: وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها، فقال: كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها.
ولما كانت الدلائل القطعية دالة على أزلية علمه جل اسمه، أجاب عن ذلك العلماء بأجوبة:
منها: أنها من باب التمثيل. فالتقدير في هذه الآية: ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم.
ومنها: أن العلم فيه مجاز عن التمييز بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب، أي: لميز الثابتين على الإيمان من غيرهم.
ومنها: أن العلم على حقيقته، إلا أنه معتبر من حيث تعلقه بالمعلوم، من حيث إنه واقع موجود بالفعل، أي: ليعلم الثابت واقعاً منهم كما كان يعلم أنه سيقع لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد، وهذا ما اعتمده ابن القيم كما نقلناه أولاً.
ومنها: أن الكلام على حذف مضاف. أي: ليعلم أولياء الله، فأضاف إلى نفسه تفخيماً. والله أعلم.
ثم ذكر حكمة أخرى وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء بقوله: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} أي: وليكرم ناسا ًمنكم بالشهادة ليكونوا مثالاً لغيرهم في تضحية النفس شهادته للحق، واستماتة دونه، وإعلاء لكلمته، وهو تعالى يحب الشهداء من عباده، وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها، وقد اتخذهم لنفسه، فلابد أن ينيلهم درجة الشهادة. وفي لفظ الاتخاذ المنبئ عن الاصطفاء والتقريب، من تشريفهم وتفخيم شأنهم ما لا يخفى. وقوله: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} قال ابن القيم: تنبيه لطيف الموقع جدًّا على أن كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخزلوا عن نبيه يوم أحد فلم يشهدوه، ولم يتخذ منهم شهداء، لأنه لم يحبهم، فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنون في ذلك اليوم، وما أعطاه من استشهد منهم، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه. انتهى.
فالتعريض بالمنافقين ويحتمل أن يكون بالكفرة الذين أديل لهم، تنبيهاً على أن ذلك ليس بطريق النصرة لهم، بل لما ذكر من الفوائد العائدة إلى المؤمنين. ثم ذكر حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم بقوله: