فصل: تفسير الآية رقم (141):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (141):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [141].
{وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} أي: لينقيهم ويخلصهم من الذنوب ومن آفات النفوس. وأيضاً فإن خلصهم ومحصهم من المنافقين، فتميزوا منهم. فحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم وهو عدو. ثم ذكر حكمة أخرى وهي محق الكافرين بقوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} أي: يهلكهم، فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا. فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم، إذ جرت سنة الله تعالى، إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم. ومن أعظمها، بعد كفرهم، بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم. والمحق: ذهاب الشيء بالكلية حتى لا يرى منه شيء، وقد محق الله الذي حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وأصروا على الكفر جميعاً، ثم أنكر تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون الجهاد في سبيله والصبر على أذى أعدائه، وأن هذا ممتنع بحيث ينكر على من ظنه وحسبه: فقال:

.تفسير الآية رقم (142):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [142].
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} أي: ولما يقع ذلك منكم فيعلمه، فإنه لو وقع لعلمه فجازاكم عليه بالجنة. فيكون الجزاء على الواقع المعلوم، لا على مجرد العلم، فإن الله لا يجزي العبد على مجرد علمه فيه دون أن يقع معلومه- أفاده ابن القيم-.
وفي الكشاف: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} بمعنى: ولما تجاهدوا لأن العلم متعلق بالمعلوم، فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقة، لأنه منتف بانتفائه، يقول الرجل: ما علم الله في فلان خيراً، يريد ما فيه خير حتى علمه، ولما بمعنى لم، إلا أن فيها ضرباً من التوقع، فدل على نفي الجهاد فيما مضى، وعلى توقعه فيما يستقبل، وتقول: وعدني أن يفعل كذا ولما. تريد: ولما يفعل، وأنا أتوقع فعله.
لطيفة:
قال أبو مسلم في: {أَمْ حَسِبْتُمْ}: إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت، وتلخيصه: لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد، وهو كقوله: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1- 2]. وافتتح الكلام بذكر أم التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين، يشك في أحدهما لا بعينه. يقولون: أزيداً ضربت أم عمراً؟ مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما. قال: وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً، فلما قال: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} كأنه قال: أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر!. وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة، وأوجب أصبر على تحمل متاعبها، وبين وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا، فلما كان كذلك، فمن البعيد أن يصل الْإِنْسَاْن إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة- انتهى-.
ثم وبخهم على هزيمتهم من أمر كانوا يتمنونه ويودون لقاءه فقال:

.تفسير الآية رقم (143):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [143].
{وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} أي: الحرب، فإنها من مبادئه، أو الموت على الشهادة: {مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} أي: تشاهدوه وتعرفوا هوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي: ما تتمنونه من أسباب الموت، أو الموت بمشاهدة أسبابه العادية، أو قتل إخوانكم بين أيديكم: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} حال من ضمير المخاطبين، وفي إيثار الرؤية على الملاقاة، وتقييدها بالنظر، مبالغة في مشاهدتهم له.
قال ابن عباس: لما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة، رغبوا في الشهادة، فتمنوا قتالاً يستشهدون فيه فيلحقون إخوانهم، فأراهم الله ذلك يوم أحد، وسببه لهم، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ} الآية. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف».
قال أهل المغازي: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، أقبل عبد الله بن قميئة يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذبّ عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه، وهو يومئذ صاحب رايته، فقتله ابن قميئة، وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع فقال: قد قتلت محمداً، وصرخ الشيطان: ألا إن محمداً قد قتل. فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال. ففي ذلك أنزل الله تعالى:

.تفسير الآية رقم (144):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [144].
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} والرسل منهم من مات، ومنهم من قتل، فلا منافاة بين الرسالة والقتل والموت، إذ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} فسيخلو كما خلوا: {أَفَإِن مَّاتَ} أي: أتؤمنون به في حال حياته، فإن مات: {أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ} أي: ارتددتم: {عَلَى أَعْقَابِكُمْ} أي: بعد علمكم بخلو الرسل قبله، وبقاء دينهم، متمسكاً به: {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً} وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب: {وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} بالنصر والغلبة في الدنيا، والثواب والرضوان في الآخرة، وهم الذين لم ينقلبوا، بل قاموا بطاعته، وقاتلوا على دينه، واتبعوا رسوله حياً وميتاً. وسماهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام الذي هو أجلّ نعمة وأعزّ معروف. والمعنى: أن من كان على يقين من دينه، وبصيرة من ربه، لا يرتد بموت الرسول وقتله، ولا يفتر عما كان عليه، لأنه يجاهد لربه لا للرسول، كأصحاب الأنبياء السالفين، كما قال أنس عم أنس بن مالك، يوم أحد حين أرجف بقتل رسول الله عليه السلام وشاع الخبر، وانهزم المسلمون، وبلغ إليه تفاؤل بعضهم: ليت فلاناً يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وقول المنافقين: لو كان نبياً ما قتل: يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد حي لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء هؤلاء، ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل- أفاده القاشاني-.
روى ابن أبي نَجِيْح عن أبيه أن رجلاً من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل، فقد بلّغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل: {وَمَا مُحَمَّدٌ} الآية. ورواه أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة.
قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد:
ومنها: أي: من الغايات في هذه الغزوة أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل. بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده، يموتوا عليه ويقتلوا، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حي لا يموت. فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه، وما جاء به، فكل نفس ذائقة الموت، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ليخلد، لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لابد منه، فسواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان بأن محمداً قد قتل، فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} الآية- والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا وقتلوا، فظهر أثر هذا العتاب، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد على عقبيه، وثبت الشاكرون على دينهم، فنصرهم الله وأعزهم، وأظفرهم بأعدائهم وجعل العاقبة لهم- انتهى-.
وثبت في الصحيح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه تلا هذه الآية يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم. وتلاها منه الناس كلهم، والحديث مشهور. ثم أخبر تعالى أنه جعل لكل نفس أجلاً، لابد أن تستوفيه وتلحق به، فيرد الناس كلهم حوض المنايا مورداً واحداً، وإن تنوعت أسبابه، ويصدرون عن موقف القيامة مصادر شتى، فريق في الجنة وفريق في السعير، بقوله:

.تفسير الآية رقم (145):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [145].
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي: بأمره وإرادته: {كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} مصدر مؤكد لمضمون ما قبله، أي: كتب لكل نفس عمرها كتاباً مؤقتاً بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر. وفي الآية تشجع للجبناء وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه: {وَمَن يُرِدْ} أي: بعمله: {ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي: ما نشاء أن نؤتيه، ولم يكن له في الآخرة من نصيب، وهو تعريض بمن حضر لطلب الغنائم: {وَمَن يُرِدْ} أي: بعمله: {ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} ونظير هذه الآية قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]. وقوله سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} [الإسراء: 18- 19].
واعلم أن الآية، وإن كان سياقها في الجهاد ولكنها عامة في جميع الأعمال، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب أو العقاب هو النيات والدواعي، لا ظواهر الأعمال. ثم نعى عليهم تقصيرهم وسوء صنيعهم في صدودهم عن سنن الربانيين المجاهدين في سبيل الله مع الرسل الخالية، عليهم السلام، بقوله:

.تفسير الآية رقم (146):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [146].
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} أي: كم من الأنبياء قاتل معهم، لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، جماعتهم الأتقياء العباد: {فَمَا وَهَنُواْ} أي: ضعفوا: {لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} من الجراح وشهادة بعضهم، لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه، ونصرة رسوله: {وَمَا ضَعُفُواْ} أي: عن الجهاد أو العدو أوالدين: {وَمَا اسْتَكَانُواْ} للأعداء بل صبروا على قتالهم: {وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} على قتال أعدائه.
تنبيهات:
الأول: كأين بمعنى كم الخبرية، وفيها لغات، قرئ منها في السبع {كائن} ممدوداً مهموزاً لابن كثير. والباقون بالتشديد. وفيها كلام كثير في معناها ولغاتها وقراءاتها المتواترة والشاذة وصلاً ووقفاً، وفي رسمها، فانظر موادّ ذلك.
الثاني: قرئ في السبع: {قُتِلَ} بالبناء للمجهول ونائب الفاعل: {رِبِّيُّونَ} قطعاً. وأما احتمال أن يكون ضميراً لنبي ومعه ربيون حال، أو يكون على معنى التقديم والتأخير، أي: وكائن من نبي معه ربيون قتل، فتكلفٌ ينبوا عن سُلَيم الأفهام. وتعسف يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله. وإن نقله القفال، ونصره السهيلي وبالغ فيه. فما كل سوداء تمرة.
الثالث: الربيون بكسر الراء قراءة الجمهور، وقرئ بضمها وفتحها، فالفتح على القياس، والكسر والضم من تغييرات النسب، وهم الربانيون، أي: الذين يعبدون الرب تعالى.
ثم أخبر سبحانه، بعد بيان محاسنهم الفعلية، بمحاسنهم القولية، وهو ما استنصرت به الأنبياء وأممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم أن يثبت أقدامهم، وأن ينصرهم على عدوهم، فقال:

.تفسير الآية رقم (147):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [147].
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} أي: هؤلاء الربانيين، مثل قول المنافقين ولا المعجبين. و{قَوْلَهُمْ} بالنصب خبر لكان، واسمها أن وما بعدها في قوله تعالى: {إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
قال ابن القيم: لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزموهم بها، وأنها نوعان: تقصير في حق، أو تجاوز لحد. وأن النصر منوط بالطاعة، قالوا: {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}. ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى، وإن لم يثبت أقدامهم وينصرهم، لم يقدروا على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم، فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم، وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم، لم يثبتوا ولم ينتصروا. فوفوا المقامين حقهما: مقام المقتضى، وهو التوحيد، والالتجاء إليه سبحانه. ومقام إزالة المانع من النصرة، وهو الذنوب والإسراف- انتهى-.
قال القاضي: وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن، سواء كان في الجهاد أو غيره.

.تفسير الآية رقم (148):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [148].
{فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} من النصر والغنيمة، وقهر العدو، والثناء الجميل، وانشراح الصدر بنور الإيمان، وكفارة السيئات: {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} وهو الجنة وما فيها من النعيم المقيم. وتخصيص وصف الحسن بثواب الآخرة للإيذان بفضله ومزيته، وأنه المعتد به عنده تعالى، بخلاف الدنيا؛ لقلتها وامتزاجها بالمضار، وكونها منقطعة زائلة: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} إشارة إلى أن ما حكى عنهم من الأفعال والأقوال من باب الإحسان.
قال الرازي: فيه دقيقة لطيفة، وهي أن هؤلاء لما اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} الآية- سماهم الله محسنين، كأن الله تعالى يقول لهم: إذا اعترفت بإساءتك وعجزك فأنا أصفك بالإحسان وأجعلك حبيباً لنفسي حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز.
ثم حذرهم سبحانه، إثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء المفضي لسعادة الدارين، من طاعة عدوهم. وأخبر أنه إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة. وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفروا يوم أحد، بقوله: