فصل: تفسير الآية رقم (149):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (149):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} [149].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} أي: إلى الشرك. والارتداد على العقب عَلَمٌ في انتكاس الأمر، ومثلٌ في الحور بعد الكور: {فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} لدين الإسلام ولمحبة الله ورضوانه وثوابه الدنيوي والأخروي. فلا تعتقدوا أنهم يوالونكم كما توالونهم. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية الدلالة على أن على المؤمنين أن لا ينزلوا على حكم الكفار، ولا يطيعوهم، ولا يقبلوا مشورتهم، خشية أن يستنزلوهم عن دينهم.

.تفسير الآية رقم (150):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [150].
{بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ} فأطيعوه: {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} ينصركم خيراً من نصرهم لو نصروكم، وكيف لا يكون خير الناصرين وهو ينصركم بغير قتال، كما وعد بقوله:

.تفسير الآية رقم (151):

القول في تأويل قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [151].
{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} أي: الذي يمنعهم من الهجوم عليكم والإقدام على حرمكم: {بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ} أي: بكونه إلهاً أو متصفاً بصفاته أو مستحقاً للعبادة: {سُلْطَاناً} أي: حجة قاطعة ينبني عليها الاعتقادات: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} هي. والمثوى: المقر والمأوى والمقام. من ثوى يثوي.
لطائف:
الأولى: أفادت الآية أن ذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله، وعلى قدر الشرك يكون الرعب. قال القاشاني: جعل إلقاء الرعب في قلوب الكفار مسبباً عن شركهم لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس لتنورها بنور التوحيد، فلا تكون تامة إلا للموحد الموقن في توحيده. وأما المشرك فلأنه محجوب عن منيع القدرة بما أشرك بالله من الموجود المشوب بالعدم الذي لم يكن له بحسب نفسه قوة، ولم ينزل الله بوجوده حجة، فليس له إلا العجز والجبن وجميع الرذائل.
وقال القفال رحمه الله: كأنه قيل: إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أُحُد إلا أن الله تعالى سيلقي الرعب منكم بعد ذلك، في قلوب الكافرين، حتى يقهر الكفار، ويظهر دينكم على سائر الأديان. وقد فعل الله ذلك، حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل- انتهى-.
وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة».
الثانية: في ذكر عدم تنزيل الحجة مع استحالة تحققها في نفسها، إشعار بنفيها ونفي نزولها جميعاً، لأن ما لم ينزل به سلطاناً، لا سلطان له.
الثالثة: قال أبو السعود: في الآية إيذان بأن المتبع في الباب هو البرهان السماوي، دون الآراء والأهواء الباطلة.
وقد سبقه إلى ذلك الرازي حيث قال: هذه الآية دالة على فساد التقليد. وذلك لأن الآية دالة على أن الشرك لا دليل عليه، فوجب أن يكون القول به باطلاً، وهذا إنما صح إذا كان القول بإثبات ما لا دليل على ثبوته، يكون باطلاً، فيلزم فساد القول بالتقليد- انتهى- ثم أخبرهم أنه صدقهم وعده في النصر على عدوه، وهو الصادق الوعد، وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزموا أمر الرسول لاستمرت نصرتهم، ولكن انخلعوا عن الطاعة، وفارقوا مركزهم ففارقهم النصر، فصرفهم عن عدوهم عقوبة وابتلاء وتعريفاً لهم سوء عواقب المعصية وحسن عاقبة الطاعة بقوله:

.تفسير الآية رقم (152):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [152].
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ} في قوله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} {إِذْ تَحُسُّونَهُم} أي: تقتلونهم قتلاً كثيراً. من حسه إذا أبطل حسه: {بِإِذْنِهِ} أي: بتيسيره وتوفيقه: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} أي: ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة: {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} أي: في الإقامة بالمركز، فقال أصحاب عبد الله: الغنيمة. أي: قوم! الغنيمة. ظهر أصحابكم فما تنظرون؟ قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين- رواه الإمام أحمد-.
والأمر إما بمعنى الشأن والقصة، وإما الذي يضاده النهي أي: فيهم أمرتم به من عدم البراح: {وَعَصَيْتُم} أي: أمر الرسول أن لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم، وإن رأيتموهم ظهروا علينا، فلا تعينونا- رواه البخاري-: {مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ} أي: من الظفر والغنيمة، وانهزام العدو. روى البخاري عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً من الرماة، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وقال: لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم- بلفظ ما تقدم- ثم قال البراء: فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة.. الحديث {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} أي: الغنيمة فترك المركز {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} فثبت فيه، وهم الذين نالوا شرف الشهادة، ومنهم أنس بن النضر الأسد المقدام، القائل وقتئذ: اللهم! إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه، فلقي سعد بن معاذ فقال: أين يا سعد؟ إني أجد ريح الجنة دون أُحُد! فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم- هذا لفظ البخاري- وأخرجه مسلم بنحوه، فرضي الله عنه وأرضاه وقدس روحه الزكية: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أي: كفكم عنهم حتى حالت الحال، ودالت الدولة. وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفى: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي: ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله، وترجعوا إليه، وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره، وملتم إلى الغنيمة. ثم أعملهم أنه تعالى قد عفا عنهم بقوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} أي: تفضلاً عليكم لإيمانكم: {وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي: في الأحوال كلها، إما بالنصرة وإما بالابتلاء، فإن الابتلاء فضل ولطف خفي، ليتمرنوا بالصبر على الشدائد، والثبات في المواطن، ويتمكنوا في اليقين، ويجعلوه ملكة لهم، ويتحققوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يميلوا إلى الدنيا وزخرفها، ولا يذهلوا على الحق، وليكون عقوبة عاجلة للبعض، فيتمحصوا عن ذنوبهم، وينالوا درجة الشهادة، فيلقوا الله ظاهرين- أفاده القاشاني-.
لطائف:
الأولى: إذا في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} إما شرط، أو لا. وعلى الأول فجوابها إما محذوف أو مذكور. فتقديره على كونه محذوفاً: حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منعكم الله نصره- لدلالة صدر الآية عليه- أو صرتم فريقين، لأن قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ} إلخ يفيد فائدته ويؤدي معناه، وعلى كونه مذكوراً فهو إما: {وَعَصَيْتُمْ} والواو صلة، وحكي هذا عن الكوفيين والفراء. قالوا: ونظيره قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات: 103- 104]. والمعنى: ناديناه.
وبعض من نصر هذا الوجه زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب حتى إذا بدليل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]. أي: فتحت. وأجابوا عما أورد عليهم من لزوم تعليل الشيء بنفسه- إذ الفشل والتنازع معصية فكيف يكونان علة لها- بأن المراد من العصيان خروجهم عن ذلك المكان. ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عنه، فلا لزوم. وإما قوله تعالى: {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} وكلمة ثم صلة- قاله أبو مسلم-.
وعلى الثاني: أعني كونها ليست شرطاً فهي اسم وحتى حرف جر بمعنى إلى متعلقة بقوله تعالى: {صَدَقَكُمُ} باعتبار تضمنه لمعنى النصر، كأنه قيل: لقد نصركم الله إلى وقت فشلكم وتنازعكم.
الثانية: فائدة قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} التنبيه على عظم المعصية، لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بإنجاز الوعد، كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية، فلما أقدموا عليها سلبوا ذلك الإكرام.
الثالثة: ظاهر قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ}. أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة، لأنها لم تذكر، فدل على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر.
الرابعة: في قوله تعالى: {وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن، فإن الذنب في الآية كان كبيرة- والله أعلم-.
ثم ذكرهم تعالى بحالهم وقت الفرار بقوله:

.تفسير الآية رقم (153):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [153].
إذ تصعدون متعلق بصرفكم أو بقوله ليبتليكم، أو بمقدر. والإصعاد: الإبعاد في الأرض. أي: تبعدون في الفرار، وقرئ: {تَصعَدون} من الثلاثي، أي: في الجبل: {وَلاَ تَلْوُونَ} أي: لا تعطفون بالوقوف: {عَلَى أحَدٍ} أي: من قريب ولا بعيد، من الدهش والروعة: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} أي: ساقتكم وجماعتكم الأخرى، إلى ترك الفرار من الأعداء وإلى العود والكرة عليهم. وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير وثوقاً بوعد الله ومراقبة له.
قال السدَي: لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد، فهزموهم، دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها. فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: «إليَّ عَبَّاد الله! إليَّ عَبَّاد الله!» فذكر الله صعودهم إلى الجبل- ثم ذكر دعاء النبيَ صلى الله عليه وسلم إياهم فقال: {إِذْ تُصْعِدُونَ} الخ.
قال ابن كثير: وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد.
وفي حديث البراء رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد أنهم لما انهزموا لم يبق مع النبيَ صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً. وروى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش: {فَأَثَابَكُمْ} أي: جازاكم بهذا الهرب والفرار: {غُمَّاً بِغَمٍّ} أي: غماً متصلاً بغم، يعني غم الهزيمة والكسرة، وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمداً قتل. وقيل: الباء بمعنى مع، وقيل: بمعنى على، وهما قريبان من الأول. وقيل: الباء للمقابلة والعوض، أي: أذاقكم عماً بمقابلة غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عصيانكم أمره. قاله الزجاج. وقال الحسن: يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين، وقيل: المعنى غماً بعد غم أي: غماً مضاعفاً. ثم أشار إلى سر ذلك بقوله: {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أي: لتتمرنوا بالصبر على الشدائد، والثبات فيها، وتتعودوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة، وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم، فلا تحزنوا على ما فاتكم من الحظوظ والمنافع. وقوله: {وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ} من الغموم والمضار.
قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد: وقيل جازاكم غماً بما غممتم به رسوله بفراركم عنه، وأسلمتموه إلى عدوه. فالغم الذي حصل لكم جزاءً على الغم الذي أوقعتموه بنبيه. والقول الأول أظهر لوجوه:
أحدها: أن قوله: {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ} تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم، وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر، وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح، فنسوا بذلك السلب، وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر.
الثاني: أنه مطابق للواقع، فإنه حصل لهم غم فوات الغنيمة، ثم أعقبه غم الهزيمة، ثم غم الجراح الذي أصابهم، ثم غم القتل، ثم غم سماعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم. وليس المراد غمين اثنين خاصة، بل غماً متتابعاً لتمام الابتلاء والامتحان.
الثالث: أن قوله بغم من تمام الثواب، لا أنه سبب جزاء الثواب. والمعنى: أثابكم غماً متصلاً بغم، جزاء على ما وقع منكم من الهرب، وإسلامكم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وترك استجابتكم له وهو يدعوكم، ومخالفتكم له في لزوم مركزكم، وتنازعكم في الأمر وفشلكم. وكل واحد من هذه الأمور يوجب غماً يخصه، فترادفت عليهم الغموم، كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها. ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمراً آخر. ومن لطفه بهم، ورأفته ورحمته، أن هذه الأمور التي صدرت منهم كان من أمور الطباع، وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة، فقيض لهم بلطفه أسباباً أخرجها من القوة إلى الفعل، فيترتب عليها آثارها المكروهة، فعلموا حينئذ أن التوبة منها، والاحتراز من أمثالها، ودفعها بأضدادها، أمرٌ متعين لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به، فكانوا أشد حذراً بعدها ومعرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها. وربما صحت الأجسام بالعلل.
لطيفة:
لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير، ويجوز أيضاً استعماله في الشر، لأنه مأخوذ من قولهم: ثاب إليه عقله، أي: رجع إليه. قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 125]. والمرأة تسمى ثيَباً لأن الواطئ عائد إليها. وأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله، سواء كان خيراً أو شراً، إلا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير. فإن حملنا لفظ الثواب هاهنا على أصل اللغة استقام الكلام، وإن حملنا على مقتضى العرف كان ذلك وارداً على سبيل التهكم، كما يقال: تحيته الضرب وعتابه السيف، أي: جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب على حد: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} [آل عِمْرَان: 21]- قاله الرازي-.
تنبيه:
قال المفضل: لا زائدة، والمعنى: لتتأسفوا على مما فاتكم وعلى ما أصابكم عقوبة لكم، كقوله: {أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]، و{لِئَلَّا يَعْلَمَ} [الحديد: 29]، أي: أن تسجد وليعلم.
وعندي أنه بعيد، لاسيما مع تكرار لا في المعطوف، واستقامة المعنى الجيد على اعتبارها، فالوجه ما سلف.
{وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} خيراً وشراً، قادر على مجازاتكم، وفيه أعظم زاجر عن الإقدام على المعصية. ثم إنه تداركهم سبحانه برحمته، وخفف عنهم ذلك الغم، وغيَّبه عنهم بالنعاس الذي أنزله عليهم أمناً منه، كما قال: