فصل: تفسير الآية رقم (15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (15):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَائكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنّ أَرْبَعةً مّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ حَتّىَ يَتَوَفّاهُنّ الموْتُ أَوْ يجعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً} [15].
{وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} أي: الخصلة البليغة في القبح، وهي الزنى، حال كونهن.
{مِن نّسَائكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنّ} أي: فاطلبوا من القاذفين لهن.
{أَرْبَعةً مّنكُمْ} أي: من المسلمين.
{فَإِن شَهِدُواْ} عليهن بها.
{فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ} أي: احبسوهن فيها، ولا تمكنوهن من الخروج، صوناً لهن عن التعرض بسببه للفاحشة.
{حَتّىَ يَتَوَفّاهُنّ الموْتُ} أي: يستوفي أرواحهن، وفيه تهويل للموت وإبراز له في صورة من يتولى قبض الأرواح وتوفيها، أو يتوفاهن ملائكة الموت.
{أَوْ يجعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً} أي: يشرع لهن حكماً خاصاً بهن، ولعل التعبير عنه بالسبيل للإيذان بكونه طريقاً مشكوكاً، قاله أبو السعود.
وقد بينت السنة أن الله تعالى أنجز وعده، وجعل لهن سبيلاً، وذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ قال: إنّ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كَانَ إِذَا أنَزَلَ الْوَحْيُ كَرَبَ لَهُ وَتَرَبّدَ وَجْهُهُ، وَإِذَا سُرّيَ عَنْهُ قَالَ: «خُذُوا عَنّي خُذُوا عَنّي- ثَلاَثَ مِرَارٍ- قَدْ جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً، الثّيّبُ بِالثّيّبِ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ، الثّيّبُ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرّجْمُ، وَالْبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ».
هذا لفظ الإمام أحمد وكذا رواه أبو داود الطيالسي ولفظه عن عبادة: إن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان إذا نزل عليه الوحي عرف ذلك فيه، فلما أنزلت: {أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً} [النساء: 15] وارتفع الوحي قال: رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «خذوا حذركم قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة، والثيب بالثيب، جلد مائة ورجم بالحجارة».

.تفسير الآية رقم (16):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً رّحِيماً} [16].
{وَاللّذَانَ}: بتخفيف النون وتشديدها.
{يَأْتِيَانِهَا} أي: الفاحشة: {مِنكُمْ} أي: الرجال.
{فَآذُوهُمَا} بالسب والتعبير، ليندما على ما فعلا.
{فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا} أي: أعمالهما.
{فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} بقطع الأذية والتوبيخ، وبالإغماض والستر، فإن التوبة والصلاح مما يمنع استحقاق الذم والعقاب.
{إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً} أي: على من تاب.
{رّحِيماً} واسع الرحمة، وهو تعليل للأمر بالإعراض.
تنبيه:
هذا الحكم المذكور في الآيتين منسوخ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة.
قال الإمام الشافعيّ في الرسالة في أبواب الناسخ والمنسوخ بعد ذكره هاتين الآيتين [376]: ثم نسخ الله الحبس والأذى في كتابه فقال: {الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: من الآية 2].
[377] فدلت السنة على أن جلد المائة للزانيين البكرَين- لحديث عُبَاْدَة بن الصامت المتقدم-.
ثم قال: [380] فدلت سنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرين، ومنسوخ عن الثيبين، وأن الرجم ثابت عن الثيبين الحرين، ثم قال: [381] لأن قول رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»- أَوّلُ ما نزل، فنُسِخَ به الحبس والأذى عن الزانيين.
[382] فلما رجم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ماعزاً ولم يجلده، وأمر أنيساً أن يغدو على امرأة الأسلمي، فإن اعترفت رجمها- دل على نسخ الجلد عن الزانيين الحرين الثيبين، وثبت الرجم عليهما، لأن كل شيء أبداً بعد أول فهو آخر. انتهى.

.تفسير الآية رقم (17):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [17].
{إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ} استئناف مسوق لبيان أن قبول التوبة من الله تعالى ليس على إطلاقه، كما ينبئ عنه وصفه تعالى بكونه تواباً رحيماً، بل هو مقيد بما سينطق به النص الكريم.
قوله تعالى: {التّوْبَةُ} مبتدأ وقوله تعالى: {لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ} خبره.
وقوله تعالى: {عَلَى اللّهِ} متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، ومعنى كون التوبة عليه سبحانه، صدورُ القبول عنه تعالى، وكلمة: {عَلَى} للدلالة على التحقق البتة بحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه، والمراد بالسوء المعصية، صغيرة أو كبيرة- كذا في أبي السعود.
{بِجَهَالَةٍ} متعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل.
{يَعْمَلُونَ} أي: متلبسين بها، أي: جاهلين سفهاء، أو بـ: {يَعْمَلُونَ} على أن الباء سببية، أي: يعملونه بسبب الجهالة، والمراد بالجهل السفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، لا عدم العلم، فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة: والجهلُ بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب، كقوله:
فنجهل فوق جهل الجاهلينا

{ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} أي: من زمان قريب، وظاهر الآية اشتراط وقوع التوبة عقب المعصية بلا تراخ، وإنها بذلك تنال درجة قبولها المحتم تفضلاً، إذ بتأخيرها وتسويفها يدخل في زمرة المصرين، فيكون في الآية إرشاد إلى المبادرة بالتوبة عقب الذنب، والإنابة إلى المولى بعده فوراً، ووجوب التوبة على الفور مما لا يستراب فيه، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان وهو واجب على الفور، وتتمته في الإحياء.
إذا عرفت هذا، فما ذكره كثير من المفسرين من أن المراد من قوله تعالى: {مِن قَرِيبٍ} ما قبل حضور الموت- بعيد من لفظ الآية وسرها التي أرشدت إليه، أعني البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان، عياذاً بالله تعالى.
فإن قيل: من أين يستفاد قبول التوبة قبل حضور الموت؟
قلنا يستفاد من الآية التي بعدها، ومن الأحاديث الوافرة في ذلك لا من قوله تعالى: {مِن قَرِيبٍ} بما أولوه، وذلك لأن الآية الثانية وهي قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ}- صريحة في أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقي ما وراءه في حيز القبول.
وقد روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ: «إِنّ اللّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ».
ورواه ابن ماجة والترمذيّ وقال: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وروى أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عَمْرو قال: «من تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه»، قال أيوب: فقلت له: إنما قال الله عز وجل: {إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} فقال: إنما أحدثك ما سمعت من رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم.
وروى نحوه الإمام أحمد وسعيد بن منصور وابن مردويه.
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَاْلَ: قَاْلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، تَابَ اللّهُ عَلَيْهِ».
وروى الحاكم مرفوعاً: «من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه».
وروى ابن ماجة عن ابن مسعود بإسناد حسن: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له».
وقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ} أي: يقبل توبتهم: {وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً}.

.تفسير الآية رقم (18):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [18].
{وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموْتُ} عند النزاع.
{قَالَ} عند مشاهدة ما هو فيه.
{إِنّي تُبْتُ الآنَ} فلا ينفعه ذلك ولا يقبل منه.
{وَلاَ الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ} فلا ينفعهم ندمهم ولا توبتهم لأنهم بمجرد الموت يعاينون العذاب.
روى الإمام أحمد عن أبي ذَرّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «إِنّ اللّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ وْيَغْفِرُ لِعَبْدِهِ مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ»، قيل: يَا رَسُولَ اللّهِ! وَمَا الْحِجَابِ؟ قَالَ: «أَنْ تَمُوتَ النّفْسُ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ».
ولهذا قال تعالى: {أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا} أي: أعددنا: {لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.

.تفسير الآية رقم (19):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنّ بِالمعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيجعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [19].
وقوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً} نهيٌ عما كان يفعله أهل الجاهلية بالنساء من الإيذاء والظلم.
روى البخاريّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانُوا إِذَا مَاتَ الرّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوّجُوهَا، فَهُمْ أَحَقّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ} الآية.
ورواه أبو داود والنسائي وغيرهم، ولفظ أبي داود عن ابن عباس: أَنّ الرّجُلَ كَانَ يَرِثُ امْرَأَةَ ذِي قَرَابَتِهِ فَيَعْضُلُهَا حَتّى تَمُوتَ، أَوْ تَرُدّ إِلَيْهِ صَدَاقَهَا، فَأَحْكَمَ اللّهُ عَنْ ذَلِكَ، أي: نَهَى عَنْه.
قال السيوطيّ: ففيه أن الحر لا يتصور ملكه ولا دخوله تحت اليد، ولا يجري مجرى الأموال بوجه.
و: {كَرْهاً} بفتح الكاف وضمها، قراءتان، أي: حال كونهن كارهات لذلك! أو مكرهات عليه، والتقييد بالكره لا يدل على الجواز عند عدمه، لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، كما في قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: من الآية 31].
{وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ} الخطاب للأزواج، كما عليه أكثر المفسرين.
روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: أن الآية في الرجل تكون له المرأة، وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر، فيضرها لتفتدي به.
والعضل الحبس والتضييق، أي: ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن، أي: من الصداق، بأن يدفعن إليكم بعضه اضطراراً فتأخذوه منهن.
{إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ} أي: زنى، كما قاله جماعة من الصحابة والتابعين، يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتضاجرها حتى تتركه لك، وتخالعها، كما قال تعالى في سورة البقرة: {وَلا يَحِلّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخَافَا أَلّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ} [البقرة: من الآية 229]، الآية.
وروي عن ابن عباس أيضاً وغيره: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان، واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله: الزنى والعصيان والنشوز وبذاء اللسان وغير ذلك، يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه، ويفارقها.
قال ابن كثير: وهذا جيد، والله أعلم.
قال أبو السعود: {مبينة} على صيغة الفاعل من بيّن بمعنى تبين، وقرئ على صيغة المفعول، وعلى صيغة الفاعل من أَبَان بمعنى تبين أي: بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة.
ويعضده قراءة أُبي: {إلا أن يفحشن عليكم} انتهى.
وفي الإكليل استدل قوم بقوله: {بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ}: على منع الخلع بأكثر مما أعطاها. انتهى.
ثم بين تعالى حق الصحبة مع الزوجات بقوله: {وَعَاشِرُوهُنّ} أي: صاحبوهن: {بِالمعْرُوفِ} أي: بالإنصاف في الفعل والإجمال في القول حتى لا تكونوا سبب الزنى بتركهن، أو سبب النشوز أو سوء الخلق، فلا يحل لكم حينئذ.
قال السيوطيّ في الإكليل: في الآية وجوب المعروف من توفية المهر والنفقة والقَسْم واللين في القول وترك الضرب والإغلاظ بلا ذنب.
واستدل بعمومها مَنْ أوجب لها الخدمة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها.
{فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ} يعني كرهتمو الصحبة معهن.
{فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيجعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} أي: ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولداً صالحاً يكون فيه خير كثير، وبأن ينيلكم الثواب الجزيل في العقبى بالإنفاق عليهن والإحسان إليهن، على خلاف الطبع.
وفي الإكليل قال الكيا الهراسيّ: في هذه الآية استحباب الإمساك بالمعروف وإن كان على خلاف هوى النفس، وفيها دليل على أن الطلاق مكروه.
وقد روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ».
يَفرَك بفتح الياء والراء، معناه بغض.
لطيفة:
قال أبو السعود: ذكر الفعل الأول مع الاستغناء عنه، وانحصار العلية في الثاني، للتوسل إلى تعميم مفعوله- ليفيد أن ترتيب الخير الكثير من الله تعالى ليس مخصوصاً بمكروه دون مكروه، بل هو سنة إلهية جارية على الإطلاق، حسب اقتضاء الحكمة، وإن ما نحن فيه مادة من موادها، وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميم الإرشاد، ما لا يخفى.
تنبيه جليل في الوصية بالنساء والإحسان إليهن:
كفى في هذا الباب هذه الآية الجليل الجامعة، وهي قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنّ بِالمعْرُوفِ}.
قال ابن كثير: أي: طَيّبُوا أَقْوَالكُمْ لَهُنّ، وَحَسّنُوا أَفْعَالكُمْ وَهَيْئَاتكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتكُمْ، كَمَا تُحِبّ ذَلِكَ مِنْهَا، فَافْعَلْ أَنْتَ بِهَا مِثْله، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُنّ مِثْل الّذِي عَلَيْهِنّ} [البقرة: 228].
وَقَالَ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «خَيْركُمْ خَيْركُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْركُمْ لِأَهْلِي»، رواه الترمذيّ عن عائشة، وابن ماجة عن ابن عباس، والطبراني عن معاوية.
وقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «خيركم خيركم للنساء»، رواه الحاكم عن ابن عباس.
وقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم»، رواه ابن عساكر عن عليّ عليه السلام.
وعَنْ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ رَضِي اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ سمع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في حَجّةَ الْوَدَاعِ يقول: بعد أن حَمِدَ اللّهَ تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَذَكّرَ وَوَعَظَ ثم قَالَ: «أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بِالنّسَاءِ خَيْراً، فَإِنّمَا هُنّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنّ شَيْئاً غَيْرَ ذَلِكَ، إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً، أَلاَ إِنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّا، فَحَقّكُمْ عَلَيهن أَن لاّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلاَ يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلاَ وَحَقّهُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنّ فِي كِسْوَتِهِنّ وَطَعَامِهِنّ»، رواه الترمذيّ، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وقوله: عوان أي: أسيرات، جمع عانية.
وعن معاوية بن حيدة رَضِي اللّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا حَقّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلاَ تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلاَ تُقَبّحْ وَلاَ تَهْجُرْ إِلاّ فِي الْبَيْتِ»، رواه أبو داود.
وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «لَيْسَ مِنَ اللّهْوِ إِلاّ ثَلاَثٌ: تَأْدِيبُ الرّجُلِ فَرَسَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ، وَمُلاَعَبَتُهُ أَهْلَهُ»، رواه أبو داود.
وفي رواية له: «كل شيء يلهوا به الرجل باطل، إلا تأديبه فرسه ورميه عن قوسه ومداعبته أهله».
قال ابن كثير: وَكَانَ مِنْ أَخْلَاق النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أَنّهُ جَمِيل الْعِشْرَة، دَائِم الْبِشْر، يُدَاعِب أَهْله، وَيَتَلَطّف بِهِمْ، وَيُوسِعهُمْ نَفَقَة، وَيُضَاحِك نِسَاءَهُ، حَتّى إِنّهُ كَانَ يُسَابِق عَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ- رَضِي اللّهُ عَنْهَا-، يَتَوَدّد إِلَيْهَا بِذَلِكَ، قَالَتْ: سَابَقَنِي رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فَسَبَقْته، وَذَلِكَ قَبْل أَنْ أَحْمِل اللّحْم، ثُمّ سَابَقْته بَعْدَمَا حَمَلْت اللّحْم فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: «هَذِهِ بِتِلْكَ».
وكان صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يَجْمَع نِسَاءَهُ كُلّ لَيْلَة فِي بَيْت الّتِي يَبِيت عِنْدهَا، فَيَأْكُل مَعَهُنّ الْعَشَاء فِي بَعْض الْأَحْيَان ثُمّ تَنْصَرِف كُلّ وَاحِدَة إِلَى مَنْزِلهَا، وَكَانَ يَنَام مَعَ الْمَرْأَة مِنْ نِسَائِهِ فِي شِعَار وَاحِد، يَضَع عَنْ كَتِفَيْهِ الرّدَاء وَيَنَام بِالْإِزَارِ.
وَكَانَ إِذَا صَلّى الْعِشَاء يَدْخُل مَنْزِله يَسْمُر مَعَ أَهْله قَلِيلاً قَبْل أَنْ يَنَام، يُؤَانِسهُمْ بِذَلِكَ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، وَقَدْ قَالَ اللّه تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللّه أُسْوَة حَسَنَة} انتهى.
وقال الغزالي في الإحياء في آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح: الأدب الثاني: حسن الخلق معهن واحتمال الأذى منهن، ترحماً عليهن، لقصور عقلهن، قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنّ بِالمعْرُوفِ}: وقال في تعظيم حقهن: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ ميثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: من الآية 21]، وقال تعالى: {وَالصّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: من الآية 36]، قيل: هي المرأة.
ثم قال: واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها، اقتداء برسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام، وتهجره الواحدة منهن يوماً إلى الليل، وراجعت امرأةُ عمرَ عُمَر رَضِي اللّهُ عَنْهُ فقال: أتراجعيني؟ فقالت: إن أزواج رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يراجعنه، وهو خير منك.
وكان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول لعائشة: «إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليّ غضبى». قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: «أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا، ورب محمد!، وإذا كنت غضبى قلت: لا، ورب إبراهيم! قالت: قلت: أجل، والله! يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك».
ثم قال الغزالي:
الثالث: أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة، فهي التي تطيب قلوب النساء، وقد كان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال، حتى روي أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان يسابق عائشة في العدو فسبقته يوماً وسبقها في بعض الأيام، فقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «هذه بتلك».
قال العراقي: رواه أبو داود، والنسائي في الكبرى وابن ماجة في حديث عائشة بسند صحيح.
وقالت عائشة- رَضِي اللّهُ عَنْهَا-: سمعت أصوات أناس من الحبشة وغيرهم وهم يلعبون في يوم عيد، فقال لي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «أتحبين أن تري لعبهم؟ قالت: قلت: نعم، فأرسل إليهم فجاؤوا، وقام رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بين البابين، فوضع كفه على الباب ووضعت رأسي على منكبه، وجعلوا يلعبون وأنظر، وجعل رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول: حسبك! وأقول: لا تعجل،- مرتين أو ثلاثاً- ثم قال: يا عائشة! حسبك، فقلت: نعم».
وفي رواية للبخاري قالت: قَالَتْ: رَأَيْتُ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، حَتّى أَكُونَ أَنَا الّذِي أَسْأَمُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السّنّ، الْحَرِيصَةِ عَلَى اللّهْوِ.
وقال عمر رَضِي اللّهُ عَنْهُ: ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا التمسوا ما عنده وجد رجلاً.
وقال لقمان رحمه الله تعالى: ينبغي للعاقل أن يكون في أهله كالصبي، وإذا كان في القوم وجد رجلاً.
وقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لجابر: «هلاّ بكراً تلاعبها وتلاعبك؟» رواه الشيخان.
ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت: والله! لقد كان ضحوكاً إذا ولج، سكوتاً إذا خرج، آكلاً ما وجد، غير سائل عما فقد. انتهى بتصرف.
ثم نهى تعالى عن أخذ شيء من صداق النساء من أراد فراقهن، بقوله تعالى: