فصل: الرجاء والخوف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين **


كتاب الرجاء والخوف

اعلم‏:‏ أن الرجاء والخوف جناحان، بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع طريق الآخرة كل عقبة كؤود، ولابد من بيان حقيقتهما وفضيلتهما وسببهما، وما يتعلق بذلك، ونحن نذكرهما في شطرين‏:‏

الشطر الأول‏:‏ الرجاء‏.‏

واعلم‏:‏ أن الرجاء من جملة مقامات السالكين وأحوال الطالبين، وإنما يسمى الوصف مقاماً إذا ثبت وأقام، فإن كان عارضاً سريع الزوال سمى حالاً، كما أن الصفرة تنقسم إلى ثابتة، كصفرة الذهب، وإلى سريعة، كصفرة الوجل، وإلى ما بينهما كصفرة المرض، وكذلك صفات القلب تنقسم إلى هذه الأقسام، وإنما سمى غير الثابت حالاً، لأنه يحول عن القلب‏.‏

واعلم‏:‏ أن كل ما يلاقيك من محبوب أو مكروه ينقسم إلى موجود في الحال وإلى موجود فيما مضى‏.‏

فالأول‏:‏ يسمى وجداً وذوقاً وإدراكاً‏.‏

والثانى‏:‏ يسمى ذكراً وإن كان قد خطر ببالك شئ في الاستقبال، وغلب على قلبك، سمى انتظاراً وتوقعاً، فإن كان المنتظر محبوباً، سمى رجاء، وإن كان مكروهاً، سمى خوفاً‏.‏

فالرجاء‏:‏ هو ارتياح لانتظار ما هو محبوب عنده، ولكن ذلك المتوقع لابد له من سبب حاصل، فإن لم يكن السبب معلوم الوجود ولا معلوم الانتفاء، سمى تمنياً، لأنه انتظار من غير سبب، ولا يطلق اسم الرجاء والخوف إلا على ما يتردد فيه، فأما ما يقطع به فلا، إذ لا يقال‏:‏ أرجو طلوع الشمس وأخاف غروبها، لأن ذلك مقطوع به عند طلوعها وغروبها، ولكن يقال‏:‏ أرجو نزول المطر وأخاف انقطاعه‏.‏

وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض، والإيمان كالبذر فيه، والطاعات جارية مجرى تنقية الأرض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار ومساقى الماء إليها‏.‏

وإن القلب المستغرق بالدنيا، كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر‏.‏

ويوم القيامة هو يوم الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع، ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان، وقل أن ينفع مع خبث القلب وسوء أخلاقه، كما لا ينمو البذر فى الأرض السبخة‏.‏

فينبغي أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع، فكل من طلب أرضاً طيبة، وألقى فيها بذراً جيداً غير مسوس ولا عفن، ثم ساق إليها الماء فى أوقات الحاجة، ونقَّى الأرض من الشوك والحشيش وما يفسد الزرع، ثم جلس ينتظر من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة، إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته، فهذا يسمى انتظاره رجاء‏.‏

فأما إن بذر فى أرض سبخة صلبة مرتفعة لا يصل إليها الماء ولم يتعاهدها أصلاً، ثم انتظر الحصاد، فهذا يسمى انتظاره حمقاً وغروراً، لا رجاء‏.‏

وإن بث البذر فى أرض طيبة، ولكن لا ماء لها، وأخذ ينتظر مياه الأمطار،سمى انتظاره تمنياً لا رجاء‏.‏

فإذن اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد، ولم يبق إلا ما ليس إلى اختياره، وهو فضل الله سبحانه، بصرف الموانع المفسدات، فالعبد إذا بث بذر الإيمان، وسقاه ماء الطاعات، وطهر القلب من شوك الأخلاق الرديئة، وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت، وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة، كان انتظاره لذلك رجاءً محموداً باعثاً على المواظبة على الطاعات والقيام بمقتضى الإيمان إلى الموت، وإن قطع بذر الإيمان عن تعهده بماء الطاعات أو ترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق، وانهمك فى طلب لذات الدنيا، ثم انتظر المغفرة، كان ذك حمقاً وغروراً ‏.‏ قال الله تعالى ‏:‏‏{‏فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 169‏]‏ وذم القائل ‏:‏‏{‏ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيراً منها منقلبا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وروى شداد بن أوس، قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏‏"‏ الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله عز وجل الأماني‏"‏ ‏(‏

وقال معروف الكرخى رحمه الله ‏:‏ رجاؤك لرحمة من لا تطيعه خذلان وحمق، ولذلك

قال الله تعالى ‏:‏‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا فى سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 218‏]‏‏.‏المعنى‏:‏ أولئك الذين يستحقون أن يرجوا، ولم يرد به تخصيص وجود الرجاء، لأن غيرهم أيضاً قد يرجو ذلك‏.‏

واعلم‏:‏ أن الرجاء محمود، لأنه باعث على العمل، واليأس مذموم، لأنه صارف عن العمل، إذ من عرف أن الأرض سبخة، وأن الماء مغور، وأن البذر لا ينبت، ترك تفقد الأرض، ولم يتعب فى تعاهدها‏.‏

وأما الخوف، فليس بضد الرجاء، بل رفيق له، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

وحال الرجاء يورث طريق المجاهدة بالأعمال، والمواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال، ومن آثاره التلذذ بدوام الإقبال على الله عز وجل، والتنعم بمناجاته، والتلطف فى التملق له، فإن هذه الأحوال لابد أن تظهر على كل من يرجو ملكاً من الملوك، أو شخصاً من الأشخاص، فكيف لا يظهر ذلك فى حق الله سبحانه وتعال‏؟‏ فمتى لم يظهر، استدل به على حرمان مقام الرجاء، فمن رجا أن يكون مراداً بالخير من غير هذه العلامات، فهو مغرور‏.‏

1ـ فصل في فضيلة الرجاء

روى فى “ الصحيحين” من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ قال الله عز وجل‏:‏ أنا عند ظن عبدى بي وفى رواية أخرى ‏"‏ فليظن بى ما شاء‏"‏‏.‏

وفى حديث آخر من رواية مسلم‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ “ لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله‏"‏‏.‏

وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام‏:‏ أحبنى، وأحب من يحبنى، وحببنى إلى خلقي‏.‏ قال‏:‏ يارب‏:‏ كيف أحببك إلى خلقك‏؟‏ قال‏:‏ اذكرني بالحسن الجميل، واذكر آلائي وإحساني‏.‏

وعن مجاهد رحمه الله قال‏:‏ يؤمر بالعبد يوم القيامة إلى النار، فيقول‏:‏ ما كان هذا ظني فيقول‏:‏ ما كان ظنك‏؟‏ فيقول‏:‏ أن تغفر لى، فيقول‏:‏ خلو سبيله‏.‏

2ـ فصل في دواء الرجاء والسبب الذي يحصل به

اعلم‏:‏ أن دواء الرجاء يحتاج إليه رجلان‏:‏

إما رجل قد غلب عليه اليأس حتى ترك العبادة‏.‏

وإما رجل غلب عليه الخوف حتى أضر بنفسه وأهله‏.‏

فأما العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة، فلا ينبغي أن يستعمل فى حقه إلا أدوية الخوف، فإن أدوية الرجاء تقلب فى حقه سموماً، كما أن العسل شفاء لمن غلبت عليه البرودة، مضر لمن غلبت عليه الحرارة‏.‏

ولهذا يجب أن يكون واعظ الناس متلطفاً، ناظراً إلى مواضع العلل، معالجاً كل علة بما يليق بها، وهذا الزمان لا ينبغي أن يستعمل فيه مع الخلق أسباب الرجاء، بل المبالغة فى التخويف، وإنما يذكر الواعظ فضيلة أسباب الرجاء إذا كان مقصوده استمالة القلوب إليه، لإصلاح المرضى‏.‏

وقد قال على رضى الله عنه‏:‏ إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم مكر الله‏.‏

إذا عرفت هذا، فاعلم أن من أسباب الرجاء، ما هو من طريق الاعتبار، ومنها ما هو من طريق الأخبار‏.‏

أما الاعتبار، فهو أن يتأمل جميع ما ذكرناه من أصناف النعم فى كتاب الشكر، فإذا علم لطائف الله تعالى بعباده فى الدنيا، وعجائب حكمته التي راعاها فى فطرة الإنسان، وأن لطفه الإلهي لم يقصر عن عباده فى دقائق مصالحهم فى الدنيا، ولم يرض أن تفوتهم الزيادات فى الرتبة، فكيف يرضى سياقتهم إلى الهلاك المؤبد‏؟‏‏!‏ فإن من لطف فى الدنيا يلطف فى الآخرة، لأن مدبر الدارين واحد‏.‏

وأما استقراء الآيات والأخبار، فمن ذلك قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن فى الأرض‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وأخبر تعالى أنه أعد النار لأعدائه، وإنما خوف بها أولياءه، فقال‏:‏ ‏{‏لهم من فوقهم ظلل من النار، ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا النار التي أعدت للكافرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 131‏]‏‏.‏ وقال‏:‏‏{‏فأنذرتكم ناراً تلظى* لا يصلاها إلا الأشقى* الذي كذب وتولى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 14-16‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم‏}‏ ‏[‏ الرعد‏:‏ 6‏]‏‏.‏

ومن الأخبار ما روى أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول‏:‏ “إن إبليس قال لربه عز وجل‏:‏ بعزتك وجلالك، لا أبرح أغوى بنى آدم ما دامت الأروح فيهم‏.‏ فقال الله عز وجل‏:‏ فبعزتي وجلالى، لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني(1)‏‏.‏

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ “والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون فيغفر لهم” رواه مسلم‏.‏

وفى “الصحيحين من حديث عائشة رضى الله عنها، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ “ سدودا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل أحداً الجنة عمله، قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله منه برحمته”‏.‏

وفى “الصحيحين” من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ “ يقول الله عزل وجل يوم القيامة‏:‏ يا آدم‏:‏ قم فابعث بعث النار فيقول‏:‏ لبيك وسعديك والخير فى يديك‏.‏ يارب‏:‏ وما بعث النار‏؟‏ قال‏:‏ من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ يشيب المولود، ‏{‏وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏2‏]‏‏.‏ فشق ذلك على الناس، حتى تغيرت وجوههم، وقالوا‏:‏ يارسول الله‏!‏ وأينا ذلك الواحد‏؟‏ فقال صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ “من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون، ومنكم واحد” فقال الناس، حتى تغيرت وجوهم، وقالوا‏:‏ يارسول الله‏!‏ وأينا ذلك الواحد‏؟‏ فقال صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ الله أكبر‏.‏ فقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ “ والله إنى لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة‏.‏ والله إنى لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، والله إنى لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة‏.‏ فكبر الناس، فقال‏:‏ “ ما أنتم يومئذ فى الناس إلا كالشعرة البيضاء فى الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء فى الثور الأبيض”‏.

فانظر كيف جاء بالتخويف، فلما أزعج جاء باللطف، ومتى اطمأنت القلوب إلى الهوى، فينبغي أن تزعج فإذا اشتد قلقها، ينبغي أن تسكن ليعتدل الأمر‏.‏

وقال ابن مسعود رضى الله عنه‏:‏ ليغفر الله عز وجل يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر‏.‏

وروى أن مجوسياً استضاف إبراهيم الخليل عليه السلام فلم يضفه وقال‏:‏ إن أسلمت، أضفتك، فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ يا إبراهيم منذ تسعين سنة أطعمه على كفره فسعى إبراهيم عليه السلام خلفه، فرده وأخبره فى الحال، فتعجب من لطف الله تعالى‏.‏ فأسلم‏.‏

فهذه الأسباب التي تجتلب بها روح الرجاء إلى قلوب الخائفين واليائسين‏.‏ فأما الحمقى المغرورون، فلا ينبغي أن يسمعوا شيئاً من ذلك، بل يسمعون ما سنورده فى أسباب الخوف، فإن أكثر الناس لا يصلحون إلا على ذلك، كعبد السوء الذي لا يستقيم إلا بالعصا‏.‏

الشطر الثاني من الكتاب في

3ـ الخوف وحقيقته وبيان درجاته وغير ذلك

اعلم‏:‏ أن الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال‏.‏

مثال ذلك، من جنى على ملك جناية، ثم وقع في يده، فهو يخاف القتل، ويجوز العفو، ولكن يكون تألم قلبه بحسب قوة علمه بالأسباب المفضية إلى قتله، وتفاحش جنايته، وتأثيرها عند الملك، وبحسب ضعف الأسباب يضعف الخوف‏.‏ وقد يكون الخوف لا عن سبب جناية، بل عن صفة المخوف وعظمته وجلاله، إذ قد علم أن الله سبحانه، لو أهلك العالمين لم يبال، ولم يمنعه مانع ، فبحسب معرفة الإنسان بعيوب نفسه، وبجلال الله تعالى واستغنائه، وأنه لا يسأل عمل يفعل، يكون خوفه‏.‏

وأخوف الناس أعرفهم بنفسه وبربه، ولذلك قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ “أنا أعرفكم بالله، وأشدكم له خشية”‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏ وإذا كملت المعرفة، أثرت الخوف، ففاض أثرت الخوف، ففاض أثره على القلب، ثم ظهر على الجوارح والصفات بالنحول والاصفرار والبكاء والغشى، وقد يفضي إلى الموت، وقد يصعد إلى الدماغ فيفسد العقل‏.‏

وأما ظهور أثره على الجوارح، فبكفها عن المعاصي، وإلزامها الطاعات، تلافياً لما فرط، واستعداداً للمستقبل‏.‏

قال بعضهم‏:‏ من خاف أدلج‏.‏

وقال آخر‏:‏ ليس الخائف من بكى، إنما الخائف من ترك ما يقدر عليه‏.‏

ومن ثمرات الخوف، أنه يقمع الشهوات، ويكدر اللذات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العسل مكروهاً عند من يشتهيه إذ علم أن فيه سماً، فتحترق الشهوات بالخوف، وتتأدب الجوارح، ويذل القلب ويستكين، ويفارقه الكبر والحقد والحسد، ويصير مستوعب الهم لخوفه، والنظر في خطر عاقبته، فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة، والمجاهدة، والضنة بالأنفاس واللحظات، ومؤاخذة النفس فى الخطرات والخطوات والكلمات، ويكون حاله كحال من وقع في مخالب سبع ضار لا يدرى أيغفل عنه فيفلت، أو يهجم عليه فيهلكه، ولا شغل له إلا ما وقع فيه، فقوة المراقبة والمحاسبة بحسب قوة الخوف ، وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله تعالى، وصفاته، وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال‏.‏

وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره فى الأعمال، أن يمنع المحظورات، فإن منع ما يتطرق إليه إمكان التحريم، سمى ورعاً، وإن انضم إليه التجرد والاشتغال بذلك عن فضول العيش، فهو الصدق‏.‏

4ـ فصل ‏[‏ الخوف سوط الله تعالى‏]‏

اعلم‏:‏ أن الخوف سوط الله تعالى يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل، لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى‏.‏

والخوف، له إفراط، وله اعتدال، وله قصور‏.‏

والمحمود من ذلك الاعتدال، وهو بمنزلة السوط للبهيمة فإن الأصلح للبهيمة أن لا تخلو عن سوط، وليس المبالغة في الضرب محمودة ولا التقاصر عن الخوف أيضاً محمود، وهو كالذي يخطر بالبال عند سماع آية، أو سبب هائل، فيورث البكاء، فإذا غاب ذلك السبب عن الحس، رجع القلب إلى الغفلة، فهو خوف قاصر قليل الجدوى، ضعيف النفع، وهو كالقضيب الضعيف الذي يضرب به دابة قوية فلا يؤلمها ألماً مبرحاً، فلا يسوقها إلى المقصد، ولا يصلح لرياضتها، وهذا هو الغالب على الناس كلهم، إلا العارفين والعلماء، أعنى العلماء بالله وبآياته، وقد عز وجودهم‏.‏ وأما المرتسمون برسوم العلم، فإنهم أبعد الناس عن الخوف‏.‏

وأما القسم الأول، وهو الخوف المفرط، فهو كالذي يقوى ويجاوز حد الاعتدال حتى يخرج إلى اليأس والقنوط، فهو أيضاً مذموم، لأنه يمنع من العمل، وقد يخرج المرض والوله والموت، وليس ذلك محموداً، وكل ما يراد لأمر، فالمحمود منه ما يفضي إلى المراد المقصود منه، وما يقصر عنه أو يجاوزه، فهو مذموم، وفائدة الخوف الحذر، والورع، والتقوى، والمجاهدة والفكر، والذكر، والتعبد وسائر الأسباب التي توصل إلى الله تعالى، وكل ذلك يستدعى الحياة، مع صحة البدن وسلامة العقل، فإذا قدح في ذلك شىء، كان مذموماً‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تقول فيمن مات من الخوف‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنه ينال لموته على تلك الحال مرتبة لا ينالها لو مات من غير خوف، إلا أنه لو عاش وترقى إلى درجات المعارف والمعاملة، كان أفضل، فإن أفضل السعادة طول العمر فى طاعة الله تعالى، فكل ما أبطل العمر والعقل والصحة فهو نقصان وخسران‏.‏

5ـ بيان أقســــام الخوف

اعلم‏:‏ أن مقامات الخائفين تختلف، فمنهم من يغلب على قلبه خوف الموت قبل التوبة ، ومنهم من يغلب عليه خوف الاستدراج بالنعم ، أو خوف الميل عن الاستقامة ، ومنهم من يغلب عليه خوف سوء الخاتمة ‏.‏ وأعلى من هذا خوف السابقة ، لأن الخاتمة فرع السابقة ، والله تعالى يرفع من يشاء من غير وسيلة ، ويضع من يشاء من غير وسيلة ، لا يسأل عما يفعل ‏.‏

وقد قال ‏:‏ ‏"‏ هؤلاء في الجنة ولا أبالي ، وهؤلاء في النار ولا أبالي ‏"‏ ‏.‏

ومن أقسام الخائفين ، من يخاف سكرات الموت وشدته ، أو سؤال منكر ونكير ، أو عذاب القبر ، ومنهم من يخاف هيبة الوقوف بين يدي الله تعالى ، والخوف من المناقشة والعبور على الصراط ، والخوف من النار وأهوالها ، أو حرمان الجنة ، أو الحجاب عن الله سبحانه وتعالى، وكل هذه الأسباب مكروهة في أنفسها، مخوفة‏.‏

فأعلاها رتبة خوف الحجاب عن الله تعالى، وهو خوف العارفين، وما قبل ذلك خوف الزاهدين والعابدين‏.‏

6ـ فصل في فضيلة الخوف والرجاء وما ينبغي أن يكون الغالب منهما‏.‏

فضيلة كل شىء بقدر إعانته على طلب السعادة، وهى لقاء الله تعالى، والقرب منه، فكل ما أعان على ذلك فهو فضيلة‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولمن خاف مقام ربه جنتان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏8‏]‏‏.‏

وفى الحديث عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ “إذا اقشعر جلد العبد من مخافة الله عز وجل تحاتت عنه ذنوبه، كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها”

وفى حديث آخر‏:‏ “لن يغضب الله على من كان فيه مخافة” (2)

وقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ قال الله عز وجل‏:‏ “ وعزتي وجلالى، لا أجمع على عبدى خوفين، ولا أجمع له أمنين، إن أمنني في الدنيا، أخفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا، أمنته يوم القيامة”

وعن ابن عباس رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ “عينان لا تمسهما النار أبداً‏:‏ عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله”‏.‏

واعلم‏:‏ أن قول القائل‏:‏ أيما أفضل الخوف، أو الرجاء‏؟‏ كقوله‏:‏ أيما أفضل الخبز أو الماء‏؟‏

وجوابه‏:‏ أن يقال الخبز للجائع أفضل، والماء للعطشان أفضل، فإن اجتمعا، نظر إلى الأغلب، فإن استويا، فهما متساويان، والخوف والرجاء دواء أن يداوى بهما القلوب، ففضلهما بحسب الداء الموجود، فإن كان الغالب على القلب الأمن من مكر الله، فالخوف أفضل، وكذلك إن كان الغالب على العبد المعصية، وإن كان الغالب عليه اليأس والقنوط، فالرجاء أفضل‏.‏ ويجوز أن يقال مطلقاً‏:‏ الخوف أفضل، كما يقال‏:‏ الخبز أفضل من السكنجبين لأن الخبز يعالج به مرض الجوع، والسكنجبين يعالج به مرض الصفراء، ومرض الجوع أغلب وأكثر، فالحاجة إلى الخبز أكثر، فهو أفضل بهذا الاعتبار، لأن المعاصي والاغترار من الخلق أغلب‏.‏

وإن نظرنا إلى موضع الخوف والرجاء فالرجاء أفضل لأن الرجاء يستقي من بحر الرحمة ، والخوف يستقي من بحر الغضب ‏.‏

وإما المتقي ، فالأفضل عنده اعتدال الخوف والرجاء ،ولذلك قيل‏:‏ لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه، لاعتدلا‏.‏

قال بعض السلف‏:‏ لو نودي‏:‏ ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلاً واحداً، لخشيت أن أكون أنا ذلك الرجل‏.‏ ولو نودي‏:‏ ليدخل النار كل الناس إلا رجلاً واحداً، لرجوت أن أكون أنا ذلك الرجل‏.‏ وهذا ينبغي أن يكون مختصاً بالمؤمن المتقى‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف اعتدال الخوف والرجاء في قلب المؤمن، وهو على قدم التقوى‏؟‏ فينبغي أن يكون رجاؤه أقوى‏.‏

فالجواب‏:‏ أن المؤمن غير متيقن صحة عملهن فمثله مثل من بذر بذراً ولم يجرب جنسه في أرض غريبة، والبذر الإيمان، وشروط صحته دقيقة، والأرض القلب، وخفايا خبثه وصفائه من النفاق، وخبايا الأخلاق غامضة، والصواعق أهوال سكرات الموت، وهناك تضطرب العقائد، وكل هذا يوجب الخوف عليه، وكيف لا يخاف المؤمن‏؟‏

وهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه يسأل حذيفة رضى الله عنه‏:‏ هل أنا من المنافقين‏؟‏ وإنما خاف أن تلتبس حاله عليه، ويستتر عيبه عنه، فالخوف المحمود هو الذي يبعث على العمل، ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا‏.‏

وأما عند نزول الموت، فالأصلح للإنسان الرجاء، لأن الخوف كالسوط الباعث على العمل، وليس ثمة عمل، فلا يستفيد الخائف حيئنذ إلا تقطيع نياط (3)

قلبه، والرجاء فى هذه الحال يقوى قلبه، ويحبب إليه ربه، فلا ينبغي لأحد أن يفارق الدنيا إلا محباً لله تعالى، محباً، للقائه، حسن الظن به‏.‏

وقد قال سليمان التيمي عند الموت لمن حضره‏:‏ حدثني بالرخص، لعلى ألقى الله وأنا أحسن الظن به‏.‏

7ـ فصل في بيان الدواء الذي يستجلب به الخوف

وذلك يحصل بطريقين‏:‏

أحدهما أعلى من الآخر‏.‏ مثاله أن الصبي إذا كان في بيت، فدخل عليه سبع، أو حية، ربما لم يخف منه، وربما مد يده إلى الحية ليأخذها يلعب بها، ولكن إذا كان معه أبوه فهرب منها وخافها، هرب الصبي، وخاف موافقة لأبيه، فخوف الأب عن معرفة، وخوف الولد من غير معرفة، بل هو تقليد لأبيه‏.‏

فإذا عرفت هذا، فاعلم أن الخوف من الله تعالى على مقامين‏:‏

أحدهما‏:‏ الخوف من عذابه، وهذا خوف عامة الخلق، وهو حاصل بالإيمان بالجنة والنار، وكونها جزاءين على الطاعة والمعصية، ويضعف هذا الخوف بسبب ضعف الإيمان، أو قوة الغفلة‏.‏

وزوال الغفلة يحصل بالتذكر، والتفكر في عذاب الآخرة، ويزيد بالنظر إلى الخائفين ومجالستهم، أو سماع أخبارهم‏.‏

المقام الثاني‏:‏ الخوف من الله تعالى، وهو خوف العلماء العارفين‏.‏ قال الله تعالى‏:‏

{‏ ويحذركم الله نفسه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وصفاته سبحانه تقتضي الهيبة والخوف، فهم يخافون البعد والحجاب‏.‏

قال ذو النون‏:‏ خوف النار عند خوف الفراق، كقطرة في بحر، ولعامة الناس حظ من هذا الخوف، ولكن بمجرد التقليد، فهو يضاهى خوف الصبي من الحية، تقليداً لأبيه، فلذلك يضعف، فإن العقائد التقليدية ضعيفة في الغالب، إلا إذا قويت بمشاهدة أسبابها المولدة لها على الدوام، وبالمواظبة على مقتضاها في تكثير الطاعات، واجتناب المعاصي، فإذا ارتقى العبد إلى معرفة اله تعالى، خافه بالضرورة، ولا يحتاج إلى علاج يجلب الخوف إلى قلبه، بل يخاف بالضرورة‏.‏من قصر، فسبيله أن يعالج نفسه بسماع الأخبار والآثار، فيطالع أحوال الخائفين وأقوالهم، ويسبب عقولهم ومناصبهم إلى مناصب الراجين المغرورين، فلا يتمارى في أن الاقتداء لهم أولى، لأنهم الأنبياء والعلماء والأولياء‏.‏

وفى “صحيح مسلم” من حديث عائشة رضى الله عنها، قالت‏:‏ دعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يدرك الشر ولم يعمله، قال‏:‏ “ أو غير ذلك يا عائشة‏؟‏ إن الله عز وجل خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم فى أصلاب آبائهم‏.‏

ومن أعجب ما ظاهره الرجاء وهو شديد التخويف، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى‏}‏ ‏[‏ طه‏:‏ 82‏]‏ فإنه علق المغفرة على أربعة شروط، يبعد تصحيحها‏.‏

ومن المخوفات قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والعصر* إن الإنسان لفى خسر‏}‏ ‏[‏ العصر‏:‏ 1-2‏]‏ ثم ذكر بعدها أربعة شروط، بها يقع الخلاص من الخسران‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها، ولكن حق القول منى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏}‏ ‏[‏ السجدة‏:‏ 13‏]‏‏.‏

ومعلوم أنه لو كان الأمر مستأنفاً لامتدت الأطماع في التحيل، فأما ما حق في القدم، فلا يمكن تداركه فليس إلا التسليم، لولا أن الله تعالى لطف بعارفيه، وروح قلوبهم بالرجاء، لاحترقت من نار الخوف‏.‏

وقال أبو الدراء رضى الله عنه‏:‏ ما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه عند الموت إلا سلبه‏.‏

ولما حضرت سفيان الثوري الوفاة، جعل يبكى، فقال له رجل‏:‏ يا أبا عبد الله‏:‏ أراك كثير الذنوب، فرفع شيئاً من الأرض وقال‏:‏ والله لذنوبي أهون عندي من هذا، ولكن أخاف أن أسلب الإيمان قبل الموت‏.‏

وكان سهل رحمه الله تعالى يقول‏:‏ المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي، والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر‏.‏ويروى أن نبياً من الأنبياء، شكا إلى الله تعالى الجوع والعرى، فأوحى الله عز وجل إليه‏:‏ عبدى، أما رضيت أن عصمت قلبك أن يكفرني حتى تسألني الدنيا‏؟‏‏!‏

فأخذ التراب فوضعه على رأسه وقال‏:‏ بلى قد رضيت، فاعصمني من الكفر‏.‏

فإذا كان هذا خوف العارفين من سوء الخاتمة مع رسوخ أقدامهم، فكيف لا يخاف ذلك الضعفاء‏؟‏‏!‏

ولسوء الخاتمة أسباب تتقدم على الموت، مثل البدعة، والنفاق، والكبر، ونحو ذلك من الصفات المذمومة، ولذلك اشتد خوف السلف من النفاق‏.‏

قال بعضهم‏:‏ لو أعلم أنى برى من النفاق، كان أحب إلى مما طلعت عليه الشمس، ولم يريدوا بذلك نفاق العقائد، إنما أرادوا نفاق الأعمال، كما ورد فى الحديث الصحيح‏:‏ “أية المنافق ثلاث‏:‏ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان”‏.‏

وسوء الخاتمة على رتبتين‏:‏

إحداهما أعظم، وهو أن يغلب على القلب والعياذ بالله شك، أو جحود عند سكرات الموت وأهواله، فيقتضي ذلك العذاب الدائم‏.‏

والثانية دونها، وهى أن يسخط الأقدار، ويتكلم بالاعتراض، أو يجوز في وصيته، أو يموت مصراً على ذنب من الذنوب‏.‏

وقد روى أن الشيطان لا يكون في حال أشد على ابن آدم من حال الموت، يقول لأعوانه‏:‏ دونكم هذا، فإنه إن فاتكم اليوم لم تلحقوه‏.‏

وقد روى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، أنه كان يدعو‏:‏ “اللهم إنى أعوذ بك أن يتخبطنى الشيطان عند الموت”

يرضى بقضاء الله عز وجل‏.‏

والأسباب التي تفضي إلى سوء الخاتمة لا يمكن انحصارها على التفصيل، لكن يمكن الإشارة إلى مجامع ذلك‏.‏ أما الختم على الشك والجحود، فسببه البدعة، ومعناها أن يعتقد في ذات الله تعالى، أو صفاته، أو أفعاله خلاف الحق، إما تقليداً، أو برأيه الفاسد، فإذا انكشف الغطاء عند الموت، بان له بطلان ما اعتقده، فيظن أن جميع ما اعتقده هكذا لا أصل له‏.‏

ومن اعتقد في الله سبحانه وصفاته اعتقاداً مجملاً على طريق السلف من غير بحث ولا تنقر، فهو بمعزل عن هذا الخطر إن شاء الله تعالى‏.‏

وأما الختم على المعاصي، فسببه ضعف الإيمان في الأصل، وذلك يورث الانهماك فىالمعاصى، والمعاصى مطفئة لنور الإيمان، وإذا ضعف الإيمان ضعف حب الله تعالى، فإذا جاءت سكرات الموت، ازداد ذلك ضعفا، لاستشعاره فراق الدنيا، فإن السبب الذي يفضي إلى مثل هذا الخاتمة، وهو حب الدنيا، والركون إليها، مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله، فمن وجد في قلبه حب الله تعالى، أغلب من حب الدنيا، فهو أبعد من هذا الخطر، وكل من مات على محبة الله تعالى، قدم به قدوم العبد المحسن المشتاق إلى مولاه، فلا يخفى ما يلقاه من الفرح والسرور بمجرد القدوم، فضلاً عما يستحقه من الإكرام‏.‏

ومن فارقه الروح في حال، خطر بباله فيها لإنكار على الله سبحانه في فعله، أو كان مصراً على مخالفته، قدم على الله قدوم من قدم به قهراً، فلا يخفى ما يستحقه من النكال‏.‏

فمن أراد طريق السلامة، تزحزح عن أسباب الهلاك، على أن العلم بتقليب القلوب وتغيير الأحوال، يقلقل قلوب الخائفين‏.‏

وقد ورد في الصحيحين” من حديث سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ “ إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، وإنه لمن أهل الجنة ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنه وإنه من أهل النار”‏.‏

وروى‏:‏ “ إن العبد إذا عرج بروحه إلى السماء، قالت الملائكة‏:‏ سبحان الله‏!‏ نجا هذا العبد من الشيطان‏:‏ يا ويحه‏!‏ كيف نجا”‏؟‏‏!‏وإذا عرفت معنى سوء الخاتمة، فاحذر أسبابها، وأعد ما يصلح لها، وإياك والتسويف بالاستعداد، فان العمر قصير، كل نفس من أنفاسك بمنزلة خاتمتك، لأنه يمكن أن تخطف فيه روحك، والإنسان يموت على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه‏.‏

واعلم‏:‏ أنه لا يتيسر لك الاستعداد بما يصلح، إلا أن تقنع بما يقيمك، وترفض طلب الفضول، وسنورد عليك من أخبار الخائفين ما نرجو أن يزيل بعض القساوة من قلبك، فانك متحقق أن الأنبياء والأولياء كانوا أعقل منك، فتفكر فى اشتداد خوفهم، لعلك تستعد لنفسك‏.‏

8ـ ذكر خوف الملائكة عليهم السلام

قال الله تعالى في صفتهم‏:‏ ‏{‏يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وقد روينا عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ “ إن لله ملائكة ترعد فرائصهم من مخافته” (4)‏‏.‏ وذكر تمام الحديث‏.‏

وبلغنا أن من حملة العرش من تسيل عينيه مثل الأنهار، فإذا رفع رأسه قال‏:‏ سبحانك ما تخشى حق خشيتك، فيقول الله‏:‏ لكن الذين يحلفون باسمي كاذبين لا يعلمون ذلك‏.‏

وعن جابر رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏” لما كان ليلة أسرى بى، رأيت جبريل عليه السلام كالشن (5)‏(‏‏(‏ الشن‏:‏ القربة الخلق‏.‏‏)‏‏) "‏البالي من خشية الله تعالى”‏.‏

وبلغنا أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبى صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكى فقال‏:‏ له‏:‏ “ ما يبكيك، قال‏:‏ ما جفت لى عين منذ خلق الله جهنم مخافة أن أعصيه، فليقيني فيها”‏.‏

وعن يزيد الرقاشى قال‏:‏ إن لله تعالى ملائكة حول العرش تجرى أعينهم مثل الأنهار إلى يوم القيامة، يميدون كأنما تنفضهم الريح من خشية الله تعالى، فيقول لهم الرب عز وجل‏:‏ يا ملائكتي ما الذي يخيفكم وأنتم عندى‏؟‏ فيقولون‏:‏ يارب‏!‏ لو أن أهل الأرض اطلعوا من عزتك وعظمتك على ما اطلعنا عليه، ما أساغوا طعاماً ولا شراباً، ولا انبسطوا في فرشهم، ولخرجوا إلى الصحارى يخورون كما تخور البقر‏.‏

وقال محمد بن المنكدر‏:‏ لما ظهر من إبليس ما ظهر، طفق جبريل وميكائيل يبكيان، فأوحى الله تعالى إليهما‏:‏ “ ما هذا البكاء‏؟‏ قالا‏:‏ يارب‏!‏ ما نأمن من مكرك‏.‏ فقال تعالى‏:‏ هكذا فكونا”‏.‏

9ـ ذكر خوف الأنبياء عليهم السلام

قال وهب‏:‏ بكى آدم عليه السلام على الجنة ثلاثمائة عام، وما رفع رأسه إلى السماء بعد ما أصاب الخطيئة‏.‏

وقال وهيب بن الورد‏:‏ لما عاتب الله تعالى نوحاً عليه السلام في ابنه فقال‏:‏‏{‏ إنى أعظك أن تكون من الجاهلين‏}‏‏[‏هود‏:‏ 46‏]‏ بكى ثلاثمائة عام حتى صار تحت عينيه أمثال الجداول من البكاء‏.‏

وقال أبو الدرداء رضى الله عنه‏:‏ كان يسمع لصدر إبراهيم عليه السلام إذا قام إلى الصلاة أزيز من بعد خوفاً من الله عز وجل‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ لما أصاب داود عليه السلام الخطيئة، خر لله ساجداً أربعين يوماً حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطى رأسه، ثم نادى يارب‏:‏ قرح الجبين، وجمدت العين، وداود لم يرجع إليه فى خطيئته شىء، فنودي‏:‏ أجائع أنت فتطعم‏؟‏ أم مريض فشفى‏؟‏ أم مظلوم فتنصر، فنحب نحيباً هاج كل شىء نبت، فعند ذلك غفر له‏,‏‏.‏

وقيل‏:‏ كان داود عليه السلام يعود الناس يظنون أنه مريض، وما به إلا شدة الفرق من الله عز وجل‏.‏

وكان عيسى عليه السلام إذا ذكر الموت يقطر جلده دماً‏.‏ وبكى يحيى بن زكريا عليهما السلام حتى بدت أضراسه، فاتخذت أمه قطعين من لبود فألصقتها بحدية‏.‏

10ـ ذكر خوف نبينا صلى الله عليه وآله وسلم

عن عائشة رضى الله عنها قالت‏:‏ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قط مستجمعاً ضاحكاً، حتى أرى لهواته (6) "

إنما كان يبتسم، وكان إذا رأى غيماَ وريحاً عرف ذلك فى جهه، فقلت‏:‏ يارسول الله‏:‏ الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت الكراهه فى وجهك‏!‏ فقال‏:‏ “ يا عائشة‏:‏ مايؤمننى أن يكون فيه عذاب‏؟‏ قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا‏:‏ هذا عارض ممطرنا” أخرجاه في “ الصحيحين”‏.‏

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يصلى ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء‏.‏

11ـ ذكر خوف أصحابه رضى الله عنهم

روينا عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه كان يمسك لسانه ويقول‏:‏ هذا الذي أوردني الموارد‏.‏ وقال‏:‏ ياليتنى كنت شجرة تعضد ثم تؤكل‏.‏ وكذلك قال طلحة وأبو الدرداء وأبو ذر رضى الله عنهم‏.‏

وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يسمع آية فيمرض فيعاد أياماً‏.‏ وأخذ يوما تبنة من الأرض فقال‏:‏ باليتني كنت هذه التبنة، ياليتنى لم أك شيئاً مذكوراً، ياليت أمي لم تلدني‏.‏ وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء‏.‏

وقال عثمان رضى الله عنه‏:‏ وددت أني إذا مت لا أبعث‏.‏

وقال أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه‏:‏ وددت أنى كنت كبشاً فذبحني أهلي، فأكلوا لحمى، وحسوا مرقى‏.‏

وقال عمران بن حصين‏:‏ ياليتنى كنت رماداً تذروه الرياح‏.‏وقال حذيفة رضى الله عنه‏:‏ وددت أن لى إنساناً يكون في مالي، ثم أغلق علىَّ بابى، فلا يدخل على أحد حتى ألحق بالله عزَّ وجل‏.‏

وكان مجرى الدمع في خد ابن عباس رضى الله عنه كالشراك البالي‏.‏

وقالت عائشة رضى الله عنها‏:‏ ياليتنى كنت نسياً منسياً‏.‏

وقال على رضى الله عنه‏:‏ والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم‏.‏ لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله تعالى، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله عز وجل، مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين‏.‏

12ـ ذكر خوف التابعين ومن بعدهم

قال هرم بن حيان‏:‏ وددت والله أنى شجرة أكلتني ناقة، ثم قذفتني بعراً، ولم أكابد الحساب يوم القيامة، إنى أخاف الداهية الكبرى‏.‏

وكان على بن الحسين إذا توضأ اصفَّر وتغير، فيقال‏:‏ ما لك‏؟‏ فيقول‏:‏ أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم‏؟‏

وكان محمد بن واسع يبكى عامة الليل لا يكاد يفتر‏.‏

وكان عمر بن عبد العزيز إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، ويبكى حتى تجرى دموعه على لحيته‏.‏ وبكى ليلة فبكى أهل الدار ، فلما تجلب عنهم العبرة قالت فاطمة‏:‏ بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت‏؟‏ قال‏:‏ ذكرت منصرف القوم من بين يدي الله تعال، فريق في الجنة، وفريق في السعير‏.‏ ثم صرخ وغشى عليه‏.‏

ولما أراد المنصور بيت المقدس، نزل براهب كان ينزل به عمر بن عبد العزيز فقال له‏:‏ أخبرني بأعجب ما رأيت من عمر‏.‏ فقال‏:‏ بات ليلة على سطح غرفتي هذه وهو من رخام، فإذا أنا بماء يقطر من الميزاب، فصعدت فإذا هو ساجد، وإذا دموع عينه تنحدر من الميزاب‏.‏

وقد روينا عن عمر بن العزيز وفتح الموصلي أنهما بكيا الدم‏.‏

وقال إبراهيم بن عيسى اليشكرى‏:‏ دخلت على رجل بالبحرين قد اعتزال الناس، وتفرغ لنفسه، فذاكرته شيئاً من أمر الآخر، وذكر الموت‏.‏ قال‏:‏ فجعل يشهق حتى خرجت نفسه‏.‏

وقال مسمع‏:‏ شهدت عبد الواحد بن زيد وهو يعظ، فمات يومئذ في ذلك المجلس أربعة أنفس‏.‏

وكان يزيد بن مرشد يبكى كثيراً ويقول‏:‏ والله لو تواعدني ربى أن يسجنني في الحمام، لكان حقي أن لا أفتر من البكاء، فكيف وقد تواعدني أن يسجنني في النار إن عصيته‏؟‏‏!‏

وقال السري السقطى‏:‏ إنى لأنظر كل يوم إلى أنفى مخافة أن يكون قد اسود وجهي‏.‏

فهذه مخاوف الملائكة والأنبياء والعلماء والأولياء، ونحن أجدر بالخوف منهم، ولكن ليس الخوف بكثرة الذنوب ولكن بصفاء القلوب وكمال المعرفة، وإنما أمنا لغلبة جهلنا وقوة قساوتنا، فالقلب الصافي تحركه أدنى مخافة، والقلب الجامد تنبو عنه كل المواعظ‏.‏

قال بعض السلف‏:‏ قلت لراهب‏:‏ أوصني، فقال‏:‏ إن استطعت أن تكون بمنزلة رجل قد احتوشته السباع والهوام، فهو خائف حذر يخاف أن يغفل فيفترسنه، أو يسهو فينهشنه، فهو مذعور فافعل‏.‏ قلت‏:‏ زدني‏.‏ فقال‏:‏ الظمآن يجزيه من الماء أيسره‏.‏ وما ذكره هذا الراهب من تقدير شخص احتوشته السباع والهوام، فهو حقيقة في حق المؤمن، فان من نظر إلى باطنه بنور بصيرته، رآه مشحوناً بالسباع والهوام، كالغضب، والحقد، والحسد، والكبر، والعجب، والرياء، وغير ذلك، وكلهن ينهشه ويفترسنه إن سها عنهن، إلا أنه محجوب عن مشاهدتها، فإذا انكشف الغطاء ووضع في القبر، عاينها متمثلة حيات وعقارب يلدغنه، وإنما هي صفاته الحاضرة الآن، فمن أراد أن يقهرها قبل الموت ويقتلها فليفعل، وإلا فليوطن نفسه على لدغها لصميم قلبه، فضلاً عن ظاهر بشرته والسلام‏.‏

أخر كتاب الخوف‏.‏