فصل: فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ التَّهْذِيبِ وَالتَّصْفِيَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***


فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ التَّهْذِيبِ وَالتَّصْفِيَةِ

وَمِنْ مَنَازِلِ‏:‏‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ التَّهْذِيبِ وَالتَّصْفِيَةِ‏.‏

وَهُوَ سَبْكُ الْعُبُودِيَّةِ فِي كِيرِ الِامْتِحَانِ، طَلَبًا لِإِخْرَاجِ مَا فِيهَا مِنَ الْخَبَثِ وَالْغِشِّ‏.‏

قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏‏:‏

التَّهْذِيبُ‏:‏ مِحْنَةُ أَرْبَابِ الْبِدَايَاتِ‏.‏ وَهُوَ شَرِيعَةٌ مِنْ شَرَائِعَ الرِّيَاضَةِ‏.‏

يُرِيدُ‏:‏ أَنَّهُ صَعْبٌ عَلَى الْمُبْتَدِي‏.‏ فَهُوَ لَهُ كَالْمِحْنَةِ‏.‏ وَطَرِيقَةٌ لِلْمُرْتَاضِ الَّذِي قَدْ مَرَّنَ نَفْسَهُ حَتَّى اعْتَادَتْ قَبُولَهُ، وَانْقَادَتْ إِلَيْهِ‏.‏

‏[‏دَرَجَاتُ التَّهْذِيبِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ تَهْذِيبُ الْخِدْمَةِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ‏.‏ الْأُولَى‏:‏ تَهْذِيبُ الْخِدْمَةِ؛ أَنْ لَا يُخَالِجَهَا جَهَالَةٌ‏.‏ وَلَا يَشُوبَهَا عَادَةٌ، وَلَا يَقِفَ عِنْدَهَا هِمَّةٌ‏.‏

أَيْ‏:‏ تَخْلِيصُ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَصْفِيَتُهَا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ‏.‏ وَهِيَ‏:‏ مُخَالَجَةُ الْجَهَالَةِ، وَشَوْبُ الْعَادَةِ، وَوُقُوفُ هِمَّةِ الطَّالِبِ عِنْدَهَا‏.‏

النَّوْعُ الْأَوَّلُ‏:‏ مُخَالَطَةُ الْجُهَّالِ‏.‏ فَإِنَّ الْجَهَالَةَ مَتَى خَالَطَتِ الْعُبُودِيَّةَ، أَوْرَدَهَا الْعَبْدُ غَيْرَ مَوْرِدِهَا‏.‏ وَوَضَعَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَفَعَلَهَا فِي غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا، وَفَعَلَ أَفْعَالًا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا صَلَاحٌ‏.‏ وَهِيَ إِفْسَادٌ لِخِدْمَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، بِأَنْ يَتَحَرَّكَ فِي مَوْضِعِ السُّكُونِ، أَوْ يَسْكُنَ فِي مَوْضِعِ التَّحَرُّكِ‏.‏ أَوْ يُفَرِّقَ فِي مَوْضِعِ جَمْعٍ، أَوْ يَجْمَعَ فِي مَوْضِعِ فَرْقٍ، أَوْ يَطِيرَ فِي مَوْضِعِ سَفُوفٍ، أَوْ يُسِفَّ فِي مَوْضِعِ طَيَرَانٍ، أَوْ يُقْدِمَ فِي مَوْضِعِ إِحْجَامٍ، أَوْ يُحْجِمَ فِي مَوْضِعِ إِقْدَامٍ، أَوْ يَتَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِ وُقُوفٍ، أَوْ يَقِفَ فِي مَوْضِعِ تَقَدُّمٍ‏.‏ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْحَرَكَاتِ، الَّتِي هِيَ فِي حَقِّ الْخِدْمَةِ كَحَرَكَاتِ الثَّقِيلِ الْبَغِيضِ فِي حُقُوقِ النَّاسِ‏.‏

فَالْخِدْمَةُ مَا لَمْ يَصْحَبْهَا عِلْمٌ ثَانٍ بِآدَابِهَا وَحُقُوقِهَا، غَيْرُ الْعِلْمِ بِهَا نَفْسِهَا، كَانَتْ فِي مَظِنَّةِ أَنْ تُبْعِدَ صَاحِبَهَا، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِهَا التَّقَرُّبَ‏.‏ وَلَا يَلْزَمُ حُبُوطُ ثَوَابِهَا وَأَجْرِهَا فَهِيَ إِنْ لَمْ تُبْعِدْهُ عَنِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ أَبْعَدَتْهُ عَنِ الْمَنْزِلَةِ وَالْقُرْبَةِ‏.‏ وَلَا تَنْفَصِلُ مَسَائِلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِلَّا بِمَعْرِفَةٍ خَاصَّةٍ بِاللَّهِ وَأَمْرِهِ، وَمَحَبَّةٍ تَامَّةٍ لَهُ، وَمَعْرِفَةٍ بِالنَّفْسِ وَمَا مِنْهَا‏.‏

النَّوْعُ الثَّانِي‏:‏ شَوْبُ الْعَادَةِ‏:‏ وَهُوَ أَنْ يُمَازِجَ الْعُبُودِيَّةَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ عَوَائِدِ النَّفْسِ تَكُونُ مُنَفِّذَةً لَهَا، مُعِينَةً عَلَيْهَا، وَصَاحِبُهَا يَعْتَقِدُهَا قُرْبَةً وَطَاعَةً، كَمَنِ اعْتَادَ الصَّوْمَ- مَثَلًا- وَتَمَرَّنَ عَلَيْهِ‏.‏ فَأَلِفَتْهُ النَّفْسُ، وَصَارَ لَهَا عَادَةً تَتَقَاضَاهَا أَشَدَّ اقْتِضَاءٍ‏.‏ فَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا التَّقَاضِيَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏ وَإِنَّمَا هُوَ تَقَاضِي الْعَادَةِ‏.‏

وَعَلَامَةُ هَذَا أَنَّهُ إِذَا عَرَضَ عَلَيْهَا طَاعَةً دُونَ ذَلِكَ، وَأَيْسَرَ مِنْهُ، وَأَتَمَّ مَصْلَحَةً لَمْ تُؤْثِرْهَا إِيثَارَهَا لِمَا اعْتَادَتْهُ وَأَلِفَتْهُ‏.‏ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ قَالَ‏:‏ حَجَجْتُ كَذَا وَكَذَا حَجَّةً عَلَى التَّجْرِيدِ، فَبَانَ لِي أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ كَانَ مَشُوبًا بِحَظِّي‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ وَالِدَتِي سَأَلَتْنِي أَنْ أَسْتَقِيَ لَهَا جَرْعَةَ مَاءٍ‏.‏ فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِي‏.‏ فَعَلِمْتُ أَنَّ مُطَاوَعَةَ نَفْسِي فِي الْحَجَّاتِ كَانَ بِحَظِّ نَفْسِي وَإِرَادَتِهَا‏.‏ إِذْ لَوْ كَانَتْ نَفْسِي فَانِيَةً لَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهَا مَا هُوَ حَقٌّ فِي الشَّرْعِ‏.‏

النَّوْعُ الثَّالِثُ‏:‏ وُقُوفُ هِمَّتِهِ عِنْدَ الْخِدْمَةِ‏.‏ وَذَلِكَ عَلَامَةُ ضَعْفِهَا وَقُصُورِهَا‏.‏ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَحْضَ لَا تَقِفُ هِمَّتُهُ عِنْدَ الْخِدْمَةِ‏.‏ بَلْ هِمَّتُهُ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ؛ إِذْ هِيَ طَالِبَةٌ لِرِضَا مَخْدُومِهِ‏.‏ فَهُوَ دَائِمًا مُسْتَصْغِرٌ خِدْمَتَهُ لَهُ‏.‏ لَيْسَ وَاقِفًا عِنْدَهَا‏.‏ وَالْقَنَاعَةُ تُحْمَدُ مِنْ صَاحِبِهَا إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏ فَإِنَّهَا عَيْنُ الْحِرْمَانِ‏.‏ فَالْمُحِبُّ لَا يَقْنَعُ بِشَيْءٍ دُونَ مَحْبُوبِهِ‏.‏ فَوُقُوفُ هِمَّةِ الْعَبْدِ مَعَ خِدْمَتِهِ وَأُجْرَتِهَا‏:‏ سُقُوطٌ فِيهَا وَحِرْمَانٌ‏.‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ تَهْذِيبُ الْحَالِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ تَهْذِيبُ الْحَالِ‏.‏ وَهُوَ أَنْ لَا يَجْنَحَ الْحَالُ إِلَى عِلْمٍ، وَلَا يَخْضَعَ لِرَسْمٍ، وَلَا يَلْتَفِتَ إِلَى حَظٍّ‏.‏

أَمَّا جُنُوحُ الْحَالِ إِلَى الْعِلْمِ حُكْمُهُ فَهُوَ نَوْعَانِ‏:‏ مَمْدُوحٌ، وَمَذْمُومٌ‏.‏

فَالْمَمْدُوحُ‏:‏ الْتِفَاتُهُ إِلَيْهِ، وَإِصْغَاؤُهُ إِلَى مَا يَأْمُرُ بِهِ، وَتَحْكِيمُهُ عَلَيْهِ، فَمَتَى لَمْ يَجْنَحْ إِلَيْهِ هَذَا الْجُنُوحَ كَانَ حَالًا مَذْمُومًا‏.‏ نَاقِصًا مُبْعَدًا عَنِ اللَّهِ‏.‏ فَإِنَّ كُلَّ حَالٍ لَا يَصْحَبُهُ عِلْمٌ يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ خُدَعِ الشَّيْطَانِ‏.‏ وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي أَفْسَدَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ أَحْوَالَهُمْ، وَعَلَى أَهْلِ الثُّغُورِ ثُغُورَهُمْ، وَشَرَّدَهُمْ عَنِ اللَّهِ كُلَّ مُشَرَّدٍ، وَطَرَدَهُمْ عَنْهُ كُلَّ مَطْرَدٍ؛ حَيْثُ لَمْ يُحَكِّمُوا عَلَيْهِ الْعِلْمَ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُ صَفْحًا، حَتَّى قَادَهُمْ إِلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ، وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ‏.‏

وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ- لَمَّا قِيلَ لَهُ‏:‏ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ يَصِلُونَ إِلَى تَرْكِ الْحَرَكَاتِ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ- فَقَالَ الْجُنَيْدُ‏:‏ إِنَّ هَذَا كَلَامُ قَوْمٍ تَكَلَّمُوا بِإِسْقَاطِ الْأَعْمَالِ عَنِ الْجَوَارِحِ‏.‏ وَهُوَ عِنْدِي عَظِيمَةٌ‏.‏ وَالَّذِي يَزْنِي وَيَسْرِقُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الَّذِي يَقُولُ هَذَا‏.‏ فَإِنَّ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ أَخَذُوا الْأَعْمَالَ عَنِ اللَّهِ‏.‏ وَإِلَيْهِ رَجَعُوا فِيهَا‏.‏ وَلَوْ بَقِيتُ أَلْفَ عَامٍ لَمْ أُنْقِصْ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ذَرَّةً، إِلَّا أَنْ يُحَالَ بِي دُونَهَا‏.‏

وَقَالَ‏:‏ الطُّرُقُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ، إِلَّا عَلَى مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ، وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي طَرِيقِنَا هَذَا؛ لِأَنَّ طَرِيقَنَا وَعِلْمَنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ عِلْمُنَا هَذَا مَشِيدٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَالْبَلِيَّةُ الَّتِي عَرَضَتْ لِهَؤُلَاءِ‏:‏ أَنَّ أَحْكَامَ الْعِلْمِ تَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَتَدْعُو إِلَيْهِ‏.‏ وَأَحْكَامَ الْحَالِ تَتَعَلَّقُ بِالْكَشْفِ‏.‏ وَصَاحِبُ الْحَالِ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمُورٌ لَيْسَتْ فِي طَوْرِ الْعِلْمِ‏.‏ فَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهَا مِيزَانَ الْعِلْمِ وَمِعْيَارَهُ، تَعَارَضَ عِنْدِهِ الْعِلْمُ وَالْحَالُ، فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ الْحُكْمِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْإِبْطَالِ‏.‏ فَمَنْ حَصَلَتْ لَهُ أَحْوَالُ الْكَشْفِ، ثُمَّ جَنَحَ إِلَى أَحْكَامِ الْعِلْمِ‏.‏ فَقَدْ رَجَعَ الْقَهْقَرِى، وَتَأَخَّرَ فِي سَيْرِهِ إِلَى وَرَاءَ‏.‏

فَتَأَمَّلْ هَذَا الْوَارِدَ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةَ الَّتِي هِيَ سُمٌّ نَاقِعٌ تُخْرِجُ صَاحِبَهَا مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالدِّينِ كَإِخْرَاجِ الشَّعْرَةِ مِنَ الْعَجِينِ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ هِيَ رُوحُ الْعِلْمِ‏.‏ وَالْحَالُ الصَّحِيحُ هُوَ رُوحُ الْعَمَلِ الْمُسْتَقِيمِ‏.‏ فَكُلُّ حَالٍ لَا يَكُونُ نَتِيجَةَ الْعَمَلِ الْمُسْتَقِيمِ مُطَابِقًا لِلْعِلْمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ الْخَبِيثَةِ الْفَاجِرَةِ‏.‏ وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لِهَذِهِ الرُّوحِ أَحْوَالٌ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَرْتَبَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَمَنَازِلِهَا‏.‏ فَمَتَى عَارَضَ الْحَالَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ، فَذَلِكَ الْحَالُ إِمَّا فَاسِدٌ وَإِمَّا نَاقِصٌ‏.‏ وَلَا يَكُونُ مُسْتَقِيمًا أَبَدًا‏.‏

فَالْعِلْمُ الصَّحِيحُ، وَالْعِلْمُ الْمُسْتَقِيمُ‏:‏ هُمَا مِيزَانُ الْمَعْرِفَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْحَالِ الصَّحِيحِ، وَهُمَا كَالْبَدَنَيْنِ لِرُوحَيْهِمَا‏.‏

فَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ أَنْ يَجْنَحَ الْحَالُ إِلَى الْعِلْمِ ‏"‏ أَنَّ الْعِلْمَ يَدْعُو إِلَى التَّفْرِقَةِ دَائِمًا‏.‏ وَالْحَالُ يَدْعُو إِلَى الْجَمْعِيَّةِ‏.‏ وَالْقَلْبُ بَيْنَ هَذَيْنِ الدَّاعِيَيْنِ‏.‏ فَهُوَ يُجِيبُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً‏.‏ فَتَهْذِيبُ الْحَالِ وَتَصْفِيَتُهُ‏:‏ أَنْ يُجِيبَ دَاعِيَ الْحَالِ لَا دَاعِيَ الْعِلْمِ‏.‏ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا إِعْرَاضُهُ عَنِ الْعِلْمِ، وَعَدَمُ تَحْكِيمِهِ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ، بَلْ هُوَ مُتَعَبِّدٌ بِالْعِلْمِ، مُحَكِّمٌ لَهُ، مُسْتَسْلِمٌ لَهُ، غَيْرُ مُجِيبٍ لِدَاعِيهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ‏.‏ بَلْ هُوَ مُجِيبٌ لِدَاعِي الْحَالِ وَالْجَمْعِيَّةِ، آخِذٌ مِنَ الْعِلْمِ مَا يُصَحِّحُ لَهُ حَالَهُ وَجَمْعِيَّتَهُ، غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ فِيهِ اسْتِغْرَاقَ مَنْ هُوَ مُطْرِحٌ هِمَّتَهُ وَغَايَةَ مَقْصِدِهِ، لَا مَطْلُوبَ لَهُ سِوَاهُ، وَلَا مُرَادَ لَهُ إِلَّا إِيَّاهُ‏.‏ فَالْعِلْمُ عِنْدَهُ آلَةٌ وَوَسِيلَةٌ‏.‏ وَطَرِيقٌ تُوصِلُهُ إِلَى مَقْصِدِهِ وَمَطْلُوبِهِ‏.‏ فَهُوَ كَالدَّلِيلِ بَيْنَ يَدَيْهِ‏.‏ يَدْعُوهُ إِلَى الطَّرِيقِ وَيَدُلُّهُ عَلَيْهَا، فَهُوَ يُجِيبُ دَاعِيَهُ لِلدَّلَالَةِ وَمَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ‏.‏ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ مُلَاحَظَةِ مَقْصِدِهِ، وَمَطْلَبِهِ مِنْ سَيْرِهِ وَسَفَرِهِ وَبَاعِثِ هِمَّتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَوْطَانِهِ وَمُرَبَّاهُ، وَمِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ وَخُلَطَائِهِ‏.‏ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الِاغْتِرَابِ‏.‏ وَالتَّفَرُّدُ فِي طَرِيقِ الطَّلَبِ‏:‏ هُوَ الْمَسِيرُ لَهُ، وَالْمُحَرِّكُ وَالْبَاعِثُ‏.‏ فَلَا يَجْنَحُ عَنْ دَاعِيهِ إِلَى اشْتِغَالِهِ بِجُزَيْئَاتِ أَحْوَالِ الدَّلِيلِ‏.‏ وَمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ دَلَالَتِهِ عَلَى طَرِيقِهِ‏.‏

فَهَذَا مَقْصِدُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- لَا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ وَلَا يَخْضَعُ لِرَسْمٍ

أَيْ لَا يَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الْكَائِنَاتِ، بِحَيْثُ يَخْضَعُ لَهُ قَلْبُهُ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَالِ‏:‏ إِنَّمَا يَطْلُبُ الْحَيَّ الْقَيُّومَ‏.‏ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقِفَ عِنْدَ الْمَعَاهِدِ وَالرُّسُومِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى حَظٍّ؛ أَيْ إِذَا حَصَلَ لَهُ الْحَالُ التَّامُّ‏:‏ لَمْ يَشْتَغِلْ بِفَرَحِهِ بِهِ، وَحَظِّهِ مِنْهُ وَاسْتِلْذَاذِهِ‏.‏ فَإِنَّ ذَلِكَ حَظٌّ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ، وَبَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَاهَا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ تَهْذِيبُ الْقَصْدِ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏‏:‏

الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ تَهْذِيبُ الْقَصْدِ‏.‏ وَهُوَ تَصْفِيَتُهُ مِنْ ذُلِّ الْإِكْرَاهِ، وَتَحَفُّظُهُ مِنْ مَرِضَ الْفُتُورِ، وَنُصْرَتُهُ عَلَى مُنَازَعَاتِ الْعِلْمِ‏.‏

هَذِهِ أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ تُهَذِّبُ قَصْدَهُ وَتُصَفِّيهِ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ تَصْفِيَتُهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِكْرَاهِ‏.‏ أَيْ لَا يَسُوقُ نَفْسَهُ إِلَى اللَّهِ كَرْهًا‏.‏ كَالْأَجِيرِ الْمُسَخَّرِ الْمُكَلَّفِ، بَلْ تَكُونُ دَوَاعِي قَلْبِهِ وَجَوَاذِبُهُ مُنْسَاقَةً إِلَى اللَّهِ طَوْعًا وَمَحَبَّةً وَإِيثَارًا‏.‏ كَجَرَيَانِ الْمَاءِ فِي مُنْحَدَرِهِ‏.‏ وَهَذِهِ حَالُ الْمُحِبِّينَ الصَّادِقِينَ‏.‏ فَإِنَّ عِبَادَتَهُمْ طَوْعًا وَمَحَبَّةً وَرِضًا‏.‏ فَفِيهَا قُرَّةُ عُيُونِهِمْ، وَسُرُورُ قُلُوبِهِمْ، وَلَذَّةُ أَرْوَاحِهِمْ‏.‏ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ، وَكَانَ يَقُولُ‏:‏ يَا بِلَالُ، أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ‏.‏

فَقُرَّةُ عَيْنِ الْمُحِبِّ وَلَذَّتُهُ وَنَعِيمُ رُوحِهِ‏:‏ فِي طَاعَةِ مَحْبُوبِهِ‏.‏ بِخِلَافِ الْمُطِيعِ كَرْهًا، الْمُتَحَمِّلِ لِلْخِدْمَةِ ثِقَلًا‏.‏

وَفِي قَوْلِهِ‏:‏ ذُلُّ الْإِكْرَاهِ‏.‏ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْمُطِيعَ كَرْهًا يَرَى أَنَّهُ لَوْلَا ذُلُّ قَهْرِهِ، وَعُقُوبَةُ سَيِّدِهِ لَهُ لَمَا أَطَاعَهُ‏.‏ فَهُوَ يَتَحَمَّلُ طَاعَتَهُ كَالْمُكْرَهِ الَّذِي قَدْ أَذَلَّهُ مُكْرِهُهُ وَقَاهِرُهُ‏.‏ بِخِلَافِ الْمُحِبِّ الَّذِي يُعِدُّ طَاعَةَ مَحْبُوبِهِ قُوتًا وَنَعِيمًا، وَلَذَّةً وَسُرُورًا، فَهَذَا لَيْسَ الْحَامِلُ لَهُ ذُلَّ الْإِكْرَاهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ تَحَفُظُّهُ مِنْ مَرَضِ الْفُتُورِ‏.‏ أَيْ تَوَقِّيهِ مِنْ مَرَضِ فُتُورِ قَصْدِهِ، وَخُمُودِ نَارِ طَلَبِهِ‏.‏ فَإِنَّ الْعَزْمَ هُوَ رُوحُ الْقَصْدِ، وَنَشَاطَهُ كَالصِّحَّةِ لَهُ‏.‏ وَفُتُورَهُ مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِهِ‏.‏ فَتَهْذِيبُ قَصْدِهِ وَتَصْفِيَتُهُ بِحَمِيَّتِهِ مِنْ أَسْبَابِ هَذَا الْمَرَضِ الَّذِي هُوَ فُتُورُهُ‏.‏ وَإِنَّمَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُ بِالْحَمِيَّةِ مِنْ أَسْبَابِهِ‏.‏ وَهُوَ أَنْ يَلْهُوَ عَنِ الْفُضُولِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ‏.‏ وَيَحْرِصَ عَلَى تَرْكِ مَا لَا يَعْنِيهِ‏.‏ وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا فِيمَا يَرْجُو فِيهِ زِيَادَةَ إِيمَانِهِ وَحَالِهِ مَعَ اللَّهِ وَلَا يَصْحَبَ إِلَّا مَنْ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ‏.‏ فَإِنْ بُلِيَ بِمَنْ لَا يُعِينُهُ فَلْيَدْرَأْهُ عَنْهُ مَا اسْتَطَاعَ، وَيَدْفَعْهُ دَفْعَ الصَّائِلِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ نُصْرَةُ قَصْدِهِ عَلَى مُنَازَعَاتِ الْعِلْمِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ نُصْرَةُ خَاطِرِ الْعُبُودِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَالْجَمْعِيَّةِ فِيهَا، وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ فِيهَا بِكُلِّيَّةِ الْقَلْبِ، عَلَى جَوَاذِبِ الْعِلْمِ وَالْفِكْرَةِ فِي دَقَائِقِهِ، وَتَفَارِيعِ مَسَائِلِهِ وَفَضَلَاتِهِ‏.‏ أَوْ أَنَّ الْعِلْمَ يَطْلَبُ مِنَ الْعَبْدِ الْعَمَلَ لِلرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالثَّوَابِ، وَخَوْفِ الْعِقَابُ‏.‏

فَتَهْذِيبُ الْقَصْدِ‏:‏ تَصْفِيَتُهُ مِنْ مُلَاحَظَةِ ذَلِكَ، وَتَجْرِيدُهُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ وَعُبُودِيَّتُهُ مَحَبَّةً لِلَّهِ بِلَا عِلَّةٍ، وَأَنْ لَا يُحِبَّ اللَّهَ لِمَا يُعْطِيهِ وَيَحْمِيهِ مِنْهُ‏.‏ فَتَكُونُ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ مَحَبَّةَ الْوَسَائِلِ، وَمَحَبَّتُهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ لِمَا يَنَالُهُ مِنَ الثَّوَابِ الْمَخْلُوقِ‏.‏ فَهُوَ الْمَحْبُوبُ لَهُ بِالذَّاتِ‏.‏ بِحَيْثُ إِذَا حَصَلَ لَهُ مَحْبُوبُهُ تَسَلَّى بِهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ‏.‏ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّكَ لِأَمْرٍ وَالَاكَ عِنْدَ حُصُولِهِ‏.‏ وَمَلَّكَ عِنْدَ انْقِضَائِهِ‏.‏ وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ يَخَافُ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُهُ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ‏.‏ فَتَنْقَضِي مَحَبَّتُهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ ذَلِكَ الْغَرَضِ‏.‏ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ‏:‏ أَنَّ مَحَبَّتَهُ تَدُومُ لَا تَنْقَضِي أَبَدًا، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ مَحْبُوبَهُ وَسِيلَةً لَهُ إِلَى غَيْرِهِ، بَلْ يَجْعَلَ مَا سِوَاهُ وَسِيلَةً لَهُ إِلَى مَحْبُوبِهِ‏.‏

وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي حَامَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ، وَدَارُوا حَوْلَهُ‏.‏ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ‏.‏ وَشَمَّرُوا إِلَيْهِ‏.‏ فَمِنْهُمْ مَنْ أَحْسَنَ التَّعْبِيرَ عَنْهُ‏.‏ وَمِنْهُمْ مَنْ أَسَاءَ الْعِبَارَةَ‏.‏ وَقَصْدُهُ وَصِدْقُهُ يُصْلِحُ فَسَادَ عِبَارَتِهِ‏.‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ هَذَا كَمَا يَنْبَغِي، فَلَمْ يَجِدْ لَهُ مَلْجَأً غَيْرَ الْإِنْكَارِ‏.‏ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ قَصْدُهُ الْحَقُّ وَاتِّبَاعُ مَرْضَاتِهِ‏.‏ فَإِنَّهُ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الِاسْتِقَامَةِ

وَمِنْ مَنَازِلِ‏:‏‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ الِاسْتِقَامَةِ‏.‏

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏ وَقَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏‏.‏

فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ ضِدُّ الطُّغْيَانِ‏.‏ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحُدُودِ فِي كُلِّ شَيْءٍ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ‏}‏‏.‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏‏.‏

سُئِلَ صِدِّيقُ الْأَمَةِ وَأَعْظَمُهَا اسْتِقَامَةً- أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ الِاسْتِقَامَةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا‏.‏ يُرِيدُ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى مَحْضِ التَّوْحِيدِ‏.‏

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ الِاسْتِقَامَةُ‏:‏ أَنْ تَسْتَقِيمَ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ‏.‏ وَلَا تَرُوغُ رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ‏.‏

وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ اسْتَقَامُوا‏:‏ أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ‏.‏

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا‏:‏ اسْتَقَامُوا‏:‏ أَدَّوُا الْفَرَائِضَ‏.‏

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ اسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ فَعَمِلُوا بِطَاعَتِهِ، وَاجْتَنَبُوا مَعْصِيَتَهُ‏.‏

وَقَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ اسْتَقَامُوا عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى لَحِقُوا بِاللَّهِ‏.‏

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ- يَقُولُ‏:‏ اسْتَقَامُوا عَلَى مَحَبَّتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً‏.‏

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ قُلْ آمَنَتْ بِاللَّهِ‏.‏ ثُمَّ اسْتَقِمْ‏.‏

وَفِيهِ عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا‏.‏ وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ‏.‏ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ‏.‏

وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْعَبْدِ الِاسْتِقَامَةُ‏.‏ وَهِيَ السَّدَادُ‏.‏ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَالْمُقَارَبَةُ‏.‏ فَإِنْ نَزَلَ عَنْهَا‏:‏ فَالتَّفْرِيطُ وَالْإِضَاعَةُ‏.‏ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا‏.‏ وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ‏.‏

فَجَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَقَامَاتِ الدِّينِ كُلَّهَا‏.‏ فَأَمَرَ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَهِيَ السَّدَادُ وَالْإِصَابَةُ فِي النِّيَّاتِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ‏.‏

وَأَخْبَرَ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ‏:‏ أَنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَهَا‏.‏ فَنَقَلَهُمْ إِلَى الْمُقَارَبَةِ‏.‏ وَهِيَ أَنْ يَقْرَبُوا مِنْ الِاسْتِقَامَةِ بِحَسَبِ طَاقَتِهِمْ‏.‏ كَالَّذِي يَرْمِي إِلَى الْغَرَضِ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ يُقَارِبْهُ‏.‏ وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ وَالْمُقَارَبَةَ لَا تُنْجِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏ فَلَا يَرْكَنُ أَحَدٌ إِلَى عَمَلِهِ‏.‏ وَلَا يُعْجَبُ بِهِ‏.‏ وَلَا يَرَى أَنَّ نَجَاتَهُ بِهِ، بَلْ إِنَّمَا نَجَاتُهُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ وَفَضْلِهِ‏.‏

فَالِاسْتِقَامَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، آخِذَةٌ بِمَجَامِعِ الدِّينِ‏.‏ وَهِيَ الْقِيَامُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَلَى حَقِيقَةِ الصِّدْقِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ‏.‏

وَالِاسْتِقَامَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَقْوَالِ، وَالْأَفْعَالِ، وَالْأَحْوَالِ، وَالنِّيَّاتِ‏.‏ فَالِاسْتِقَامَةُ فِيهَا‏:‏ وُقُوعُهَا لِلَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَعَلَى أَمْرِ اللَّهِ‏.‏

قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ‏:‏ كُنْ صَاحِبَ الِاسْتِقَامَةِ، لَا طَالِبَ الْكَرَامَةِ‏.‏ فَإِنَّ نَفْسَكَ مُتَحَرِّكَةٌ فِي طَلَبِ الْكَرَامَةِ‏.‏ وَرَبَّكَ يُطَالِبُكَ بِالِاسْتِقَامَةِ‏.‏

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ تَعَالَى رَوْحَهُ- يَقُولُ‏:‏ أَعْظَمُ الْكَرَامَةِ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَفْسِيرُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ‏}‏‏]‏

قَالَ صَاحِبَ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏- قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ- فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ تَفْسِيرُهَا‏}‏ إِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى عَيْنِ التَّفْرِيدِ‏.‏

يُرِيدُ‏:‏ أَنَّهُ أَرْشَدَهُمْ إِلَى شُهُودِ تَفْرِيدِهِ‏.‏ وَهُوَ أَنْ لَا يَرَوْا غَيْرَ فَرْدَانِيَّتِهِ‏.‏

وَتَفْرِيدُهُ نَوْعَانِ‏:‏ تَفْرِيدٌ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالشُّهُودِ‏.‏ وَتَفْرِيدٌ فِي الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ‏.‏ وَهُمَا نَوْعَا التَّوْحِيدِ‏.‏

وَفِي قَوْلِهِ‏:‏ عَيْنُ التَّفْرِيدِ، إِشَارَةٌ إِلَى حَالِ الْجَمْعِ وَأَحَدِيَّتِهِ، الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ فَوْقَ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّفْرِقَةَ قَدْ تُجَامِعُ عِلْمَ الْجَمْعِ‏.‏ وَأَمَّا حَالُهُ‏:‏ فَلَا تُجَامِعُهُ التَّفْرِقَةُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَشْبِيهُ الِاسْتِقَامَةِ لِلْحَالِ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الِاسْتِقَامَةُ‏:‏ رُوحٌ تَحْيَا بِهِ الْأَحْوَالُ، كَمَا تَرْبُو لِلْعَامَّةِ عَلَيْهَا الْأَعْمَالُ‏.‏ وَهِيَ بَرْزَخٌ بَيْنَ وِهَادِ التَّفَرُّقِ، وَرَوَابِي الْجَمْعِ‏.‏

شَبَّهَ الِاسْتِقَامَةَ لِلْحَالِ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ‏.‏ فَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ إِذَا خَلَا عَنِ الرُّوحِ فَهُوَ مَيِّتٌ، فَكَذَلِكَ الْحَالُ إِذَا خَلَا عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَكَمَا أَنَّ حَيَاةَ الْأَحْوَالِ بِهَا، فَزِيَادَةُ أَعْمَالِ الزَّاهِدِينَ أَيْضًا وَرَبْوُهَا وَزَكَاؤُهَا بِهَا‏.‏ فَلَا زَكَاءَ لِلْعَمَلِ وَلَا صِحَّةَ لِلْحَالِ بِدُونِهَا‏.‏

وَأَمَّا كَوْنُهَا بَرْزَخًا بَيْنَ وِهَادِ التَّفَرُّقِ، وَرَوَابِي الْجَمْعِ، فَالْبَرْزَخُ هُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ‏.‏ وَالْوِهَادُ‏:‏ الْأَمْكِنَةُ الْمُنْخَفِضَةُ مِنَ الْأَرْضِ‏.‏ وَاسْتَعَارَهَا لِلتَّفَرُّقِ؛ لِأَنَّهَا تَحْجُبُ مَنْ يَكُونُ فِيهَا عَنْ مُطَالَعَةِ مَا يَرَاهُ مَنْ هُوَ عَلَى الرَّوَابِي، كَمَا أَنَّ صَاحِبَ التَّفَرُّقِ مَحْجُوبٌ عَنْ مُطَالَعَةِ مَا يَرَاهُ صَاحِبُ الْجَمْعِ وَيُشَاهِدُهُ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ حَالَهُ أَنْزَلُ مِنْ حَالِهِ‏.‏ فَهُوَ كَصَاحِبِ الْوِهَادِ‏.‏ وَحَالُ صَاحِبِ الْجَمْعِ أَعْلَى‏.‏ فَهُوَ كَصَاحِبِ الرَّوَابِي‏.‏ وَشَبَّهَ حَالَ صَاحِبِ الْجَمْعِ بِحَالِ مَنْ عَلَى الرَّوَابِي لِعُلُوِّهِ‏.‏ وَلِأَنَّ الرَّوَابِيَ تَكْشِفُ لِمَنْ عَلَيْهَا الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، وَصَاحِبُ الْجَمْعِ تُكْشَفُ لَهُ الْحَقَائِقُ الْمَحْجُوبَةُ عَنْ صَاحِبِ التَّفْرِقَةِ‏.‏

إِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَعْنَى كَوْنِهَا بَرْزَخًا‏:‏ أَنَّ السَّالِكَ يَكُونُ فِي أَوَّلِ سُلُوكِهِ فِي أَوْدِيَةِ التَّفْرِقَةِ، سَائِرًا إِلَى رَوَابِي الْجَمْعِ‏.‏ فَيَسْتَقِيمُ فِي طَرِيقِ سَيْرِهِ غَايَةَ الِاسْتِقَامَةِ‏.‏ لِيَصِلَ بِاسْتِقَامَتِهِ إِلَى رَوَابِي الْجَمْعِ‏.‏ فَاسْتِقَامَتُهُ بَرْزَخٌ بَيْنَ تِلْكَ التَّفْرِقَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا‏.‏ وَبَيْنَ الْجَمْعِ الَّذِي يَؤُمُّهُ وَيَقْصِدُهُ‏.‏ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ تَفْرِقَةِ الْمُقِيمِ فِي الْبَلَدِ فِي أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ‏.‏ فَإِذَا عَزَمَ عَلَى السَّفَرِ، وَخَرَجَ وَفَارِقَ الْبَلَدَ‏.‏ وَاسْتَمَرَّ عَلَى السَّيْرِ‏:‏ كَانَ طَرِيقُ سَفَرِهِ بَرْزَخًا بَيْنَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَالْبَلَدِ الَّذِي يَقْصِدُهُ وَيَؤُمُّهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏دَرَجَاتُ الِاسْتِقَامَةِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الِاقْتِصَادِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ‏.‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الِاقْتِصَادِ‏.‏ لَا عَادِيًا رَسْمَ الْعِلْمِ، وَلَا مُتَجَاوِزًا حَدَّ الْإِخْلَاصِ، وَلَا مُخَالِفًا نَهْجَ السُّنَّةِ‏.‏

هَذِهِ دَرَجَةٌ تَتَضَمَّنُ سِتَّةَ أُمُورٍ‏:‏ عَمَلًا وَاجْتِهَادًا فِيهِ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ، وَاقْتِصَادًا، وَهُوَ السُّلُوكُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ، وَهُوَ الْجَوْرُ عَلَى النُّفُوسِ، وَالتَّفْرِيطُ بِالْإِضَاعَةِ، وَوُقُوفًا مَعَ مَا يَرْسُمُهُ الْعِلْمُ، لَا وُقُوفًا مَعَ دَاعِي الْحَالِ‏.‏ وَإِفْرَادُ الْمَعْبُودِ بِالْإِرَادَةِ، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ، وَوُقُوعُ الْأَعْمَالِ عَلَى الْأَمْرِ، وَهُوَ مُتَابَعَةُ السُّنَّةِ‏.‏

فَبِهَذِهِ الْأُمُورِ السِّتَّةِ تَتِمُّ لِأَهْلِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ اسْتِقَامَتُهُمْ‏.‏ وَبِالْخُرُوجِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهَا يَخْرُجُونَ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ‏:‏ إِمَّا خُرُوجًا كُلِّيًّا، وَإِمَّا خُرُوجًا جُزْئِيًّا‏.‏

وَالسَّلَفُ يَذْكُرُونَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ كَثِيرًا- وَهُمَا الِاقْتِصَادُ فِي الْأَعْمَالِ، وَالِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ- فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَشُمُّ قَلْبَ الْعَبْدِ وَيَخْتَبِرُهُ‏.‏ فَإِنْ رَأَى فِيهِ دَاعِيَةً لِلْبِدْعَةِ، وَإِعْرَاضًا عَنْ كَمَالِ الِانْقِيَادِ لِلسُّنَّةِ‏:‏ أَخْرَجَهُ عَنِ الِاعْتِصَامِ بِهَا‏.‏ وَإِنْ رَأَى فِيهِ حِرْصًا عَلَى السُّنَّةِ، وَشِدَّةَ طَلَبِ لَهَا‏:‏ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ مِنْ بَابِ اقْتِطَاعِهِ عَنْهَا، فَأَمَرَهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَالْجَوْرِ عَلَى النَّفْسِ، وَمُجَاوَزَةِ حَدِّ الِاقْتِصَادِ فِيهَا، قَائِلًا لَهُ‏:‏ إِنَّ هَذَا خَيْرٌ وَطَاعَةٌ‏.‏ وَالزِّيَادَةُ وَالِاجْتِهَادُ فِيهَا أَكْمَلُ‏.‏ فَلَا تَفْتُرْ مَعَ أَهْلِ الْفُتُورِ‏.‏ وَلَا تَنَمْ مَعَ أَهْلِ النَّوْمِ، فَلَا يَزَالُ يَحُثُّهُ وَيُحَرِّضُهُ، حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنِ الِاقْتِصَادِ فِيهَا، فَيَخْرُجَ عَنْ حَدِّهَا‏.‏ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ خَارِجُ هَذَا الْحَدِّ‏.‏ فَكَذَا هَذَا الْآخَرُ خَارِجٌ عَنِ الْحَدِّ الْآخَرِ‏.‏

وَهَذَا حَالُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يَحْقِرُ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ صَلَاتَهُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ‏.‏ وَقِرَاءَتَهُمْ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ‏.‏ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ خُرُوجٌ عَنِ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ‏.‏ لَكِنَّ هَذَا إِلَى بِدْعَةِ التَّفْرِيطِ، وَالْإِضَاعَةِ، وَالْآخَرَ إِلَى بِدْعَةِ الْمُجَاوَزَةِ وَالْإِسْرَافِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِأَمْرٍ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَزَعَتَانِ، إِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ، وَإِمَّا إِلَى مُجَاوَزَةٍ، وَهِيَ الْإِفْرَاطُ، وَلَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا ظَفَرَ‏:‏ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ‏.‏

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا‏:‏ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً‏.‏ فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى بِدْعَةٍ خَابَ وَخَسِرَ‏.‏ قَالَ لَهُ ذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُ بِالِاقْتِصَادِ فِي الْعَمَلِ‏.‏

فَكُلُّ الْخَيْرِ فِي اجْتِهَادٍ بِاقْتِصَادٍ، وَإِخْلَاصٍ مَقْرُونٍ بِالِاتِّبَاعِ‏.‏ كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ‏:‏ اقْتِصَادٌ فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، خَيْرٌ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، فَاحْرِصُوا أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُكُمْ عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَسُنَّتِهِمْ‏.‏

وَكَذَلِكَ الرِّيَاءُ فِي الْأَعْمَالِ يُخْرِجُهُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ‏.‏ وَالْفُتُورُ وَالتَّوَانِي يُخْرِجُهُ عَنْهَا أَيْضًا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ اسْتِقَامَةُ الْأَحْوَالِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ اسْتِقَامَةُ الْأَحْوَالِ‏.‏ وَهِيَ شُهُودُ الْحَقِيقَةِ لَا كَسْبًا‏.‏ وَرَفَضُ الدَّعْوَى لَا عِلْمًا‏.‏ وَالْبَقَاءُ مَعَ نُورِ الْيَقَظَةِ لَا تَحَفُّظًا‏.‏

يَعْنِي أَنَّ اسْتِقَامَةَ الْحَالِ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ‏.‏

أَمَّا شُهُودُ الْحَقِيقَةِ فَالْحَقِيقَةُ حَقِيقَتَانِ‏:‏ حَقِيقَةٌ كَوْنِيَّةٌ، وَحَقِيقَةٌ دِينِيَّةٌ، يَجْمَعُهُمَا حَقِيقَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ مَصْدَرُهُمَا وَمَنْشَؤُهُمَا، وَغَايَتُهُمَا‏.‏ وَأَكْثَرُ أَرْبَابِ السُّلُوكِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ‏:‏ إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِالْحَقِيقَةِ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ‏.‏ وَشُهُودُهَا هُوَ شُهُودُ تَفَرُّدِ الرَّبِّ بِالْفِعْلِ‏.‏ وَأَنَّ مَا سِوَاهُ مَحَلُّ جَرَيَانِ أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ‏.‏ فَهُوَ كَالْحَفِيرِ الَّذِي هُوَ مَحَلٌّ لِجَرَيَانِ الْمَاءِ حَسْبُ‏.‏

وَعِنْدَهُمْ أَنَّ شُهُودَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَالْفَنَاءِ فِيهَا غَايَةُ السَّالِكِينَ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْهَدُ حَقِيقَةَ الْأَزَلِيَّةِ وَالدَّوَامِ، وَفَنَاءَ الْحَادِثَاتِ وَطَيَّهَا فِي ضِمْنِ بِسَاطِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْأَبَدِيَّةِ، وَتَلَاشِيهَا فِي ذَلِكَ‏.‏ فَيَشْهَدُهَا مَعْدُومَةً، وَيَشْهَدُ تَفَرُّدَ مُوجِدِهَا بِالْوُجُودِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ، وَأَنَّ وُجُودَ مَا سِوَاهُ رُسُومٌ وَظِلَالٌ‏.‏

فَالْأَوَّلُ‏:‏ شَهِدَ تَفَرُّدَهُ بِالْأَفْعَالِ‏.‏ وَهَذَا شَهِدَ تَفَرُّدَهُ بِالْوُجُودِ‏.‏

وَصَاحِبُ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ فِي طَوْرٍ آخَرَ‏.‏ فَإِنَّهُ فِي مَشْهَدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ، وَالْفِرَقُ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَبَيْنَ مَا يُبْغِضُهُ وَيَسْخَطُهُ‏.‏ فَهُوَ فِي مَقَامِ الْفَرْقِ الثَّانِي الَّذِي لَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ دَرَجَةُ الْإِسْلَامِ- فَضْلًا عَنْ مَقَامِ الْإِحْسَانِ- إِلَّا بِهِ‏.‏

فَالْمُعْرِضُ عَنْهُ صَفْحًا لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ كَالَّذِيكَانَ الْجُنَيْدُ يُوصِي بِهِ أَصْحَابَهُ، فَيَقُولُ‏:‏ عَلَيْكُمْ بِالْفَرْقِ الثَّانِي‏.‏ وَإِنَّمَا سُمِّيَ ثَانِيًا لِأَنَّ الْفَرْقَ الْأَوَّلَ‏:‏ فَرْقٌ بِالطَّبْعِ وَالنَّفْسِ‏.‏ وَهَذَا فَرْقٌ بِالْأَمْرِ‏.‏

وَالْجَمْعُ أَيْضًا جَمْعَانِ‏:‏ جَمْعٌ فِي فَرْقٍ، وَهُوَ جَمْعُ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ وَالتَّوْحِيدِ‏.‏ وَجَمْعٌ بِلَا فَرْقٍ، وَهُوَ جَمْعُ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ‏.‏

فَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ‏:‏ صَاحِبُ فَرْقٍ بِلَا جَمْعٍ، فَهُوَ مَذْمُومٌ نَاقِصٌ مَخْذُولٌ‏.‏

وَصَاحِبُ جَمْعٍ بِلَا فَرْقٍ‏.‏ وَهُوَ جَمْعُ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ، وَالْإِلْحَادِ‏.‏ فَصَاحِبُهُ مُلْحِدٌ زِنْدِيقٌ‏.‏

وَصَاحِبُ فَرْقٍ وَجَمْعٍ‏.‏ يَشْهَدُ الْفَرْقَ فِي الْجَمْعِ، وَالْكَثْرَةَ فِي الْوَحْدَةِ‏.‏ فَهُوَ الْمُسْتَقِيمُ الْمُوَحِّدُ الْفَارِقُ‏.‏ وَهَذَا صَاحِبُ الْحَقِيقَةِ الثَّالِثَةِ، الْجَامِعَةُ لِلْحَقِيقَتَيْنِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ‏.‏ فَشُهُودُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْجَامِعَةِ‏:‏ هُوَ عَيْنُ الِاسْتِقَامَةِ‏.‏

وَأَمَّا شُهُودُ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، أَوِ الْأَزَلِيَّةِ، وَالْفَنَاءُ فِيهَا‏:‏ فَأَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ‏.‏ فَإِنَّ الْكَافِرَ مُقِرٌّ بِقَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ، وَأَزَلِيَّتِهِ وَأَبَدِيَّتِهِ‏.‏ فَإِذَا اسْتَغْرَقَ فِي هَذَا الشُّهُودِ وَفَنِيَ بِهِ عَنْ سِوَاهُ‏:‏ فَقَدْ شَهِدَ الْحَقِيقَةَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ لَا كَسْبًا‏.‏ أَيْ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ أَنَّ شُهُودَهَا لَمْ يَكُنْ بِالْكَسْبِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ مِنْ أَعْمَالِ النَّفْسِ‏.‏ فَالْحَقِيقَةُ لَا تَبْدُو مَعَ بَقَاءِ النَّفْسِ؛ إِذِ الْحَقِيقَةُ فَرْدَانِيَّةٌ أَحَدِيَّةٌ نُورَانِيَّةٌ‏.‏ فَلَا بُدَّ مِنْ زَوَالِ ظُلْمَةِ النَّفْسِ، وَرُؤْيَةِ كَسْبِهَا، وَإِلَّا لَمْ يَشْهَدِ الْحَقِيقَةَ‏.‏

وَأَمَّا رَفْضُ الدَّعْوَى لَا عِلْمًا، فَالدَّعْوَى نِسْبَةُ الْحَالِ وَغَيْرِهِ إِلَى نَفْسِكَ وَإِنِّيَتِكَ‏.‏ فَالِاسْتِقَامَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِتَرْكِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا‏.‏ فَإِنَّ الدَّعْوَى الصَّادِقَةَ تُطْفِئُ نُورَ الْمَعْرِفَةِ‏.‏ فَكَيْفَ بِالْكَاذِبَةِ‏؟‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ لَا عِلْمًا؛ أَيْ لَا يَكُونُ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى تَرْكِ الدَّعْوَى مُجَرَّدَ عِلْمِهِ بِفَسَادِ الدَّعْوَى، وَمُنَافَاتِهَا لِلِاسْتِقَامَةِ‏.‏ فَإِذَا تَرَكَهَا يَكُونُ تَرْكُهَا لِكَوْنِ الْعِلْمِ قَدْ نَهَى عَنْهَا‏.‏ فَيَكُونُ تَارِكًا لَهَا ظَاهِرًا لَا حَقِيقَةً، أَوْ تَارِكًا لَهَا لَفْظًا، قَائِمًا بِهَا حَالًا؛ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ قَدْ قَامَ بِحَقِّ الْعِلْمِ فِي تَرْكِهَا‏.‏ فَيَتْرُكُهَا تَوَاضُعًا، بَلْ يَتْرُكُهَا حَالًا وَحَقِيقَةً‏.‏ كَمَا يَتْرُكُ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا تَضُرُّهُ مَحَبَّتُهُ حُبَّهُ حَالًا وَحَقِيقَةً‏.‏ وَإِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ- كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِخَيْرِ خَلْقِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏- تَرَكَ الدَّعْوَى شُهُودًا وَحَقِيقَةً وَحَالًا‏.‏

وَأَمَّا الْبَقَاءُ مَعَ نُورِ الْيَقَظَةِ فَهُوَ الدَّوَامُ فِي الْيَقَظَةِ، وَأَنْ لَا يُطْفِئَ نُورَهَا بِظُلْمَةِ الْغَفْلَةِ‏.‏ بَلْ يَسْتَدِيمُ يَقَظَتَهُ‏.‏ وَيَرَى أَنَّهُ فِي ذَلِكَ كَالْمَجْذُوبِ الْمَأْخُوذِ عَنْ نَفْسِهِ، حِفْظًا مِنَ اللَّهِ لَهُ‏.‏ لَا أَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ بِتَحَفُّظِهِ وَاحْتِرَازِهِ‏.‏

فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ‏:‏ يَقَظَةٌ، وَاسْتِدَامَةٌ لَهَا، وَشُهُودٌ أَنَّ ذَلِكَ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ لَا بِكَ‏.‏ فَلَيْسَ سَبَبُ بَقَائِهِ فِي نُورِ الْيَقَظَةِ بِحِفْظِهِ‏.‏ بَلْ بِحِفْظِ اللَّهِ لَهُ‏.‏

وَكَأَنَّ الشَّيْخَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ لَا تَحْصُلُ بِكَسْبٍ‏.‏ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مَوْهِبَةٍ مِنَ اللَّهِ‏.‏ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْأُولَى ‏"‏ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى الِاجْتِهَادِ ‏"‏ وَفِي الثَّانِيَةِ ‏"‏ اسْتِقَامَةُ الْأَحْوَالِ، لَا كَسْبًا وَلَا تَحَفُّظًا ‏"‏‏.‏

وَمُنَازَعَتُهُ فِي ذَلِكَ مُتَوَجِّهَةٌ‏.‏ وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ كَسْبًا يَتَعَاطَى الْأَسْبَابَ الَّتِي تَهْجُمُ بِصَاحِبِهَا عَلَى هَذَا الْمَقَامِ‏.‏

نَعَمْ، الَّذِي يُنْفَى فِي هَذَا الْمَقَامِ‏:‏ شُهُودُ الْكَسْبِ، وَأَنَّ هَذَا حَصَلَ لَهُ بِكَسْبِهِ‏.‏ فَنَفْيُ الْكَسْبِ شَيْءٌ وَنَفْيُ شُهُودِهِ شَيْءٌ آخَرَ‏.‏

وَلَعَلَّ أَنْ نُشْبِعَ الْكَلَامَ فِي هَذَا فِيمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ اسْتِقَامَةٌ بِتَرْكِ رُؤْيَةِ الِاسْتِقَامَةِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ اسْتِقَامَةٌ بِتَرْكِ رُؤْيَةِ الِاسْتِقَامَةِ‏.‏ وَبِالْغَيْبَةِ عَنْ تَطَلُّبِ الِاسْتِقَامَةِ بِشُهُودِ إِقَامَةٍ، وَتَقْوِيمُهُ الْحَقُّ‏.‏

هَذِهِ الِاسْتِقَامَةُ مَعْنَاهَا‏:‏ الذُّهُولُ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ‏.‏ فَيَغِيبُ بِالْمَشْهُودِ الْمَقْصُودُ سُبْحَانَهُ عَنْ رُؤْيَةِ اسْتِقَامَتِهِ فِي طَلَبِهِ‏.‏ فَإِنَّ رُؤْيَةَ الِاسْتِقَامَةِ تَحْجُبُهُ عَنْ حَقِيقَةِ الشُّهُودِ‏.‏

وَأَمَّا الْغَيْبَةُ عَنْ تَطَلُّبِ الِاسْتِقَامَةِ فَهُوَ غَيْبَتُهُ عَنْ طَلَبِهَا بِشُهُودِ إِقَامَةِ الْحَقِّ لِلْعَبْدِ، وَتَقْوِيمِهِ إِيَّاهُ، فَإِنَّهُ إِذَا شَهِدَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُقِيمُ لَهُ وَالْمُقَوِّمُ، وَأَنَّ اسْتِقَامَتَهُ وَقِيَامَهُ بِاللَّهِ، لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِطَلَبِهِ‏:‏ غَابَ بِهَذَا الشُّهُودِ عَنِ اسْتِشْعَارِ طَلَبِهِ لَهَا‏.‏

وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ مُوجِبَاتِ شُهُودِ مَعْنًى اسْمُهُ الْقَيُّومُ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَحَدٍ‏.‏ وَقَامَ كُلُّ شَيْءٍ بِهِ‏.‏ فَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ‏.‏ وَلَيْسَتْ حَاجَتُهُ إِلَيْهِ مُعَلَّلَةً بِحُدُوثٍ، كَمَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُونَ‏.‏ وَلَا بِإِمْكَانٍ، كَمَا يَقُولُ الْفَلَاسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ‏.‏ بَلْ حَاجَتُهُ إِلَيْهِ ذَاتِيَّةٌ، وَمَا بِالذَّاتِ لَا يُعَلَّلُ‏.‏

نَعَمْ، الْحُدُوثُ وَالْإِمْكَانُ دَلِيلَانِ عَلَى الْحَاجَةِ‏.‏ فَالتَّعْلِيلُ بِهِمَا مِنْ بَابِ التَّعْرِيفِ، لَا مِنْ بَابِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ التَّوَكُّلِ

وَمِنْ مَنَازِلِ‏:‏‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ التَّوَكُّلِ‏.‏

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏، وَقَالَ عَنْ أَوْلِيَائِهِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏، وَقَالَ لِرَسُولِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا‏}‏، وَقَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ‏}‏، وَقَالَ لَهُ‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا‏}‏، وَقَالَ لَهُ‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ‏}‏، وَقَالَ لَهُ‏:‏ ‏{‏فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ‏}‏، وَقَالَ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا‏}‏، وَقَالَ عَنْ أَصْحَابِ نَبِيِّهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏‏.‏

وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ- فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ- هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ‏:‏ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏.‏ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ‏.‏ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا لَهُ‏:‏‏(‏‏:‏ ‏{‏إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ‏.‏ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ‏.‏ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ‏.‏ وَبِكَ خَاصَمْتُ‏.‏ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي‏.‏ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ‏.‏ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ‏.‏

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا‏:‏ لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا‏.‏

وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ قَالَ- يَعْنِي إِذَا خَرَجَ مَنْ بَيْتِهِ- بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يُقَالُ لَهُ‏:‏ هُدِيتَ وَوُقِيتَ وَكُفِيتَ‏.‏ فَيَقُولُ الشَّيْطَانُ لِشَيْطَانٍ آخَرَ‏:‏ كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ‏؟‏‏.‏

التَّوَكُّلُ نِصْفُ الدِّينِ‏.‏ وَالنِّصْفُ الثَّانِي الْإِنَابَةُ، فَإِنَّ الدِّينَ اسْتِعَانَةٌ وَعِبَادَةٌ‏.‏ فَالتَّوَكُّلُ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ، وَالْإِنَابَةُ هِيَ الْعِبَادَةُ‏.‏

وَمَنْزِلَتُهُ أَوْسَعُ الْمَنَازِلِ وَأَجْمَعُهَا‏.‏ وَلَا تَزَالُ مَعْمُورَةً بِالنَّازِلِينَ، لِسَعَةِ مُتَعَلِّقِ التَّوَكُّلِ، وَكَثْرَةِ حَوَائِجَ الْعَالَمِينَ، وَعُمُومِ التَّوَكُّلِ، وَوُقُوعِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، وَالطَّيْرِ وَالْوَحْشِ وَالْبَهَائِمِ‏.‏ فَأَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ- الْمُكَلَّفُونَ وَغَيْرُهُمْ- فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ، وَإِنْ تَبَايَنَ مُتَعَلِّقُ تَوَكُّلِهِمْ‏.‏ فَأَوْلِيَاؤُهُ وَخَاصَّتُهُ يَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ فِي الْإِيمَانِ، وَنُصْرَةِ دِينِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ، وَفِي مَحَابِّهِ وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ‏.‏

وَدُونَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي اسْتِقَامَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَحِفْظِ حَالِهِ مَعَ اللَّهِ، فَارِغًا عَنِ النَّاسِ‏.‏

وَدُونَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي مَعْلُومٍ يَنَالُهُ مِنْهُ‏.‏ مِنْ رِزْقٍ أَوْ عَافِيَةٍ‏.‏ أَوْ نَصْرٍ عَلَى عَدُوٍّ، أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ وَلَدٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ‏.‏

وَدُونَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي حُصُولِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ‏.‏ فَإِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْمَطَالِبِ لَا يَنَالُونَهَا غَالِبًا إِلَّا بِاسْتِعَانَتِهِمْ بِاللَّهِ‏.‏ وَتَوَكُّلُهُمْ عَلَيْهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ تَوَكُّلُهُمْ أَقْوَى مِنْ تَوَكُّلِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الطَّاعَاتِ‏.‏ وَلِهَذَا يُلْقُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَتَالِفِ وَالْمَهَالِكِ، مُعْتَمِدِينَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ، وَيُظْفِرَهُمْ بِمَطَالِبِهِمْ‏.‏

فَأَفْضَلُ التَّوَكُّلِ، التَّوَكُّلُ فِي الْوَاجِبِ- أَعْنِي وَاجِبَ الْحَقِّ، وَوَاجِبَ الْخَلْقِ، وَوَاجِبَ النَّفْسِ- وَأَوْسَعُهُ وَأَنْفَعُهُ التَّوَكُّلُ فِي التَّأْثِيرِ فِي الْخَارِجِ فِي مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ‏.‏ أَوْ فِي دَفْعِ مَفْسَدَةٍ دِينِيَّةٍ، وَهُوَ تَوَكُّلُ الْأَنْبِيَاءِ فِي إِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ، وَدَفْعِ فَسَادِ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا تَوَكُّلُ وَرَثَتِهِمْ‏.‏ ثُمَّ النَّاسُ بَعْدُ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى حَسَبِ هِمَمِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ، فَمِنْ مُتَوَكِّلٍ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ الْمُلْكِ، وَمِنْ مُتَوَكِّلٍ فِي حُصُولِ رَغِيفٍ‏.‏

وَمَنْ صَدَقَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ شَيْءٍ نَالَهُ‏.‏ فَإِنْ كَانَ مَحْبُوبًا لَهُ مَرْضِيًّا كَانَتْ لَهُ فِيهِ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ، وَإِنْ كَانَ مَسْخُوطًا مَبْغُوضًا كَانَ مَا حَصَلَ لَهُ بِتَوَكُّلِهِ مَضَرَّةً عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا حَصَلَتْ لَهُ مَصْلَحَةُ التَّوَكُّلِ دُونَ مَصْلَحَةِ مَا تَوَكَّلَ فِيهِ‏.‏ إِنْ لَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ عَلَى طَاعَاتِهِ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏مَعْنَى التَّوَكُّلِ‏]‏

فَلْنَذْكُرْ مَعْنَى التَّوَكُّلِ وَدَرَجَاتِهِ‏.‏ وَمَا قِيلَ فِيهِ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ‏:‏ التَّوَكُّلُ عَمَلُ الْقَلْبِ‏.‏ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ‏.‏ لَيْسَ بِقَوْلِ اللِّسَانِ، وَلَا عَمَلِ الْجَوَارِحِ، وَلَا هُوَ مِنْ بَابِ الْعُلُومِ وَالْإِدْرَاكَاتِ‏.‏

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ فَيَقُولُ‏:‏ هُوَ عِلْمُ الْقَلْبِ بِكِفَايَةِ الرَّبِّ لِلْعَبْدِ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالسُّكُونِ وَخُمُودِ حَرَكَةِ الْقَلْبِ‏.‏ فَيَقُولُ‏:‏ التَّوَكُّلُ هُوَ انْطِرَاحُ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، كَانْطِرَاحِ الْمَيِّتِ بَيْنَ يَدِي الْغَاسِلِ بِقَلْبِهِ كَيْفَ يَشَاءُ‏.‏ وَهُوَ تَرْكُ الِاخْتِيَارِ، وَالِاسْتِرْسَالِ مَعَ مَجَارِي الْأَقْدَارِ‏.‏

قَالَ سَهْلٌ‏:‏ التَّوَكُّلُ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ اللَّهِ مَعَ مَا يُرِيدُ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالرِّضَا‏.‏ فَيَقُولُ‏:‏ هُوَ الرِّضَا بِالْمَقْدُورِ‏.‏

قَالَ بِشْرٌ الْحَافِي‏:‏ يَقُولُ أَحَدُهُمْ‏:‏ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ‏.‏ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، لَوْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، رَضِيَ بِمَا يَفْعَلُ اللَّهُ‏.‏

وَسُئِلَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ‏:‏ مَتَى يَكُونُ الرَّجُلُ مُتَوَكِّلًا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِذَا رَضِيَ بِاللَّهِ وَكِيلًا‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالثِّقَةِ بِاللَّهِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ‏.‏ وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ‏.‏

قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ‏:‏ التَّوَكُّلُ أَنْ لَا يَظْهَرَ فِيكَ انْزِعَاجٌ إِلَى الْأَسْبَابِ، مَعَ شِدَّةٍ فَاقَتِكَ إِلَيْهَا، وَلَا تَزُولُ عَنْ حَقِيقَةِ السُّكُونِ إِلَى الْحَقِّ مَعَ وُقُوفِكَ عَلَيْهَا‏.‏

قَالَ ذُو النُّونِ‏:‏ هُوَ تَرْكُ تَدْبِيرِ النَّفْسِ، وَالِانْخِلَاعِ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ‏.‏ وَإِنَّمَا يَقْوَى الْعَبْدُ عَلَى التَّوَكُّلِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ وَيَرَى مَا هُوَ فِيهِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ التَّوَكُّلُ التَّعَلُّقُ بِاللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ التَّوَكُّلُ أَنْ تَرِدَ عَلَيْكَ مَوَارِدُ الْفَاقَاتِ، فَلَا تَسْمُوَ إِلَّا إِلَى مَنْ إِلَيْهِ الْكِفَايَاتُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ نَفْيُ الشُّكُوكِ، وَالتَّفْوِيضِ إِلَى مَالِكِ الْمُلُوكِ‏.‏

وَقَالَ ذُو النُّونِ‏:‏ خَلْعُ الْأَرْبَابِ وَقَطْعُ الْأَسْبَابِ‏.‏

يُرِيدُ قَطْعَهَا مِنْ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهَا، لَا مِنْ مُلَابَسَةِ الْجَوَارِحِ لَهَا‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مُرَكَّبًا مِنْ أَمْرَيْنِ أَوْ أُمُورٍ‏.‏

فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ‏:‏ التَّوَكُّلُ اضْطِرَابٌ بِلَا سُكُونٍ، وَسُكُونٌ بِلَا اضْطِرَابٍ‏.‏

يُرِيدُ‏:‏ حَرَكَةَ ذَاتِهِ فِي الْأَسْبَابِ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَسُكُونًا إِلَى الْمُسَبِّبِ، وَرُكُونًا إِلَيْهِ‏.‏ وَلَا يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ مَعَهُ‏.‏ وَلَا تَسْكُنُ حَرَكَتُهُ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى رِضَاهُ‏.‏

وَقَالَ أَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ‏:‏ هُوَ طَرْحُ الْبَدَنِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالطُّمَأْنِينَةُ إِلَى الْكِفَايَةِ‏.‏ فَإِنْ أُعْطِيَ شَكَرَ‏.‏ وَإِنْ مُنِعَ صَبَرَ‏.‏

فَجَعَلَهُ مُرَكَّبًا مِنْ خَمْسَةِ أُمُورٍ‏:‏ الْقِيَامِ بِحَرَكَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِتَدْبِيرِ الرَّبِّ، وَسُكُونِهِ إِلَى قَضَائِهِ وَقَدْرِهِ، وَطُمَأْنِينَتِهِ وَكِفَايَتِهِ لَهُ، وَشُكْرِهِ إِذَا أَعْطَى، وَصَبْرِهِ إِذَا مَنَعَ‏.‏

قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ‏:‏ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ بِكَمَالِ الْحَقِيقِيَّةِ، كَمَا وَقَعَ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا؛ لِأَنَّهُ غَائِبٌ عَنْ نَفْسِهِ بِاللَّهِ‏.‏ فَلَمْ يَرَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَ اللَّهِ‏.‏

وَأَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يُنَافِي الْقِيَامَ بِالْأَسْبَابِ‏.‏ فَلَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ إِلَّا مَعَ الْقِيَامِ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ بَطَالَةٌ وَتَوَكُّلٌ فَاسِدٌ‏.‏

قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ مَنْ طَعَنَ فِي الْحَرَكَةِ فَقَدْ طَعَنَ فِي السُّنَّةِ‏.‏ وَمَنْ طَعَنَ فِي التَّوَكُّلِ فَقَدْ طَعَنَ فِي الْإِيمَانِ‏.‏

فَالتَّوَكُّلُ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْكَسْبُ سُنَّتُهُ‏.‏ فَمَنْ عَمِلَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَتْرُكَنَّ سُنَّتَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ‏:‏ هُوَ اضْطِرَابٌ بِلَا سُكُونٍ، وَسُكُونٌ بِلَا اضْطِرَابٍ وَقَوْلُ سَهْلٍ أَبْيَنُ وَأَرْفَعُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ التَّوَكُّلُ قَطْعُ عَلَائِقِ الْقَلْبِ بِغَيْرِ اللَّهِ‏.‏

وَسُئِلَ سَهْلٌ عَنِ التَّوَكُّلِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ قَلْبٌ عَاشَ مَعَ اللَّهِ بِلَا عَلَاقَةٍ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ التَّوَكُّلُ هَجْرُ الْعَلَائِقِ، وَمُوَاصَلَةُ الْحَقَائِقِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ التَّوَكُّلُ أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَكَ الْإِكْثَارُ وَالْإِقْلَالُ‏.‏

وَهَذَا مِنْ مُوجِبَاتِهِ وَآثَارِهِ، لَا أَنَّهُ حَقِيقَتُهُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ تَرْكُ كُلِّ سَبَبٍ يُوَصِّلُكَ إِلَى مُسَبِّبٍ، حَتَّى يَكُونَ الْحَقُّ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِذَلِكَ‏.‏

وَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ وَجْهٍ، بَاطِلٌ مِنْ وَجْهٍ‏.‏ فَتَرْكُ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورُ بِهَا قَادِحٌ فِي التَّوَكُّلِ‏.‏ وَقَدْ تَوَلَّى الْحَقُّ إِيصَالَ الْعَبْدِ بِهَا‏.‏ وَأَمَّا تَرْكُ الْأَسْبَابِ الْمُبَاحَةِ فَإِنَّ تَرْكَهَا لِمَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهَا مَصْلَحَةً فَمَمْدُوحٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَذْمُومٌ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ إِلْقَاءُ النَّفْسِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَإِخْرَاجُهَا مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ‏.‏

يُرِيدُ اسْتِرْسَالَهَا مَعَ الْأَمْرِ، وَبَرَاءَتَهَا مِنْ حَوْلِهَا وَقُوَّتِهَا، وَشُهُودَ ذَلِكَ بِهَا، بَلْ بِالرَّبِّ وَحْدَهُ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ‏:‏ التَّوَكُّلُ هُوَ التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ الرَّبِّ وَقَضَائِهِ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ‏:‏ هُوَ التَّفْوِيضُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ التَّوَكُّلَ بِدَايَةً، وَالتَّسْلِيمَ وَاسِطَةً، وَالتَّفْوِيضَ نِهَايَةً‏.‏

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ‏:‏ التَّوَكُّلُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ‏:‏ التَّوَكُّلُ، ثُمَّ التَّسْلِيمُ، ثُمَّ التَّفْوِيضُ‏.‏ فَالْمُتَوَكِّلُ يَسْكُنُ إِلَى وَعْدِهِ، وَصَاحِبُ التَّسْلِيمِ يَكْتَفِي بِعِلْمِهِ، وَصَاحِبُ التَّفْوِيضِ يَرْضَى بِحُكْمِهِ‏.‏ فَالتَّوَكُّلُ بِدَايَةٌ، وَالتَّسْلِيمُ وَاسِطَةٌ، وَالتَّفْوِيضُ نِهَايَةٌ‏.‏ فَالتَّوَكُّلُ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّسْلِيمُ صِفَةُ الْأَوْلِيَاءِ‏.‏ وَالتَّفْوِيضُ صِفَةُ الْمُوَحِّدِينَ‏.‏

التَّوَكُّلُ صِفَةُ الْعَوَامِّ‏.‏ وَالتَّسْلِيمُ صِفَةُ الْخَوَاصِّ، وَالتَّفْوِيضُ صِفَةُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ‏.‏

التَّوَكُّلُ صِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالتَّسْلِيمُ صِفَةُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَالتَّفْوِيضُ صِفَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ‏.‏

هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الدَّقَّاقِ‏.‏ وَمَعْنَى هَذَا التَّوَكُّلِ اعْتِمَادٌ عَلَى الْوَكِيلِ، وَقَدْ يَعْتَمِدُ الرَّجُلُ عَلَى وَكِيلِهِ مَعَ نَوْعِ اقْتِرَاحٍ عَلَيْهِ، وَإِرَادَةٍ وَشَائِبَةِ مُنَازَعَةٍ‏.‏ فَإِذَا سَلَّمَ إِلَيْهِ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ‏.‏ وَرَضِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ وَكِيلُهُ‏.‏ وَحَالُ الْمُفَوَّضِ فَوْقَ هَذَا‏.‏ فَإِنَّهُ طَالِبٌ مُرِيدٌ مِمَّنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ، مُلْتَمِسٌ مِنْهُ أَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَهُ‏.‏ فَهُوَ رِضًا وَاخْتِيَارٌ، وَتَسْلِيمٌ وَاعْتِمَادٌ، فَالتَّوَكُّلُ يَنْدَرِجُ فِي التَّسْلِيمِ، وَهُوَ وَالتَّسْلِيمُ يَنْدَرِجَانِ فِي التَّفْوِيضِ‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

‏[‏حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ‏]‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الْأُولَى مَعْرِفَةُ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ‏]‏

وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ‏:‏ أَنَّ التَّوَكُّلَ حَالٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مَجْمُوعِ أُمُورٍ، لَا تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ إِلَّا بِهَا‏.‏ وَكُلٌّ أَشَارَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ‏.‏

فَأَوَّلُ ذَلِكَ‏:‏ مَعْرِفَةٌ بِالرَّبِّ وَصِفَاتِهِ مِنْ قُدْرَتِهِ، وَكِفَايَتِهِ، وَقَيُّومِيَّتِهِ، وَانْتِهَاءِ الْأُمُورِ إِلَى عِلْمِهِ، وَصُدُورِهَا عَنْ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ‏.‏ وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ أَوَّلُ دَرَجَةٍ يَضَعُ بِهَا الْعَبْدُ قَدَمَهُ فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ‏.‏

قَالَ شَيْخُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ فَيْلَسُوفٍ‏.‏ وَلَا مِنَ الْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ‏.‏ وَلَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا مِنَ الْجَهْمِيَّةِ النُّفَاةِ لِصِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ‏.‏ وَلَا يَسْتَقِيمُ التَّوَكُّلُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ‏.‏

فَأَيُّ تَوَكُّلٍ لِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعُمُّ جُزَيْئَاتِ الْعَالِمِ سُفْلِيِّهِ وَعُلْوِيِّهِ‏؟‏ وَلَا هُوَ فَاعِلٌ بِاخْتِيَارِهِ‏؟‏ وَلَا لَهُ إِرَادَةٌ وَمَشِيئَةٌ‏.‏ وَلَا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ‏؟‏ فَكُلُّ مَنْ كَانَ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَعْلَمُ وَأَعْرَفُ كَانَ تَوَكُّلُهُ أَصَحَّ وَأَقْوَى‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ إِثْبَاتٌ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ‏]‏

الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ إِثْبَاتٌ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ‏.‏

فَإِنَّ مَنْ نَفَاهَا فَتَوَكُّلُهُ مَدْخُولٌ‏.‏ وَهَذَا عَكْسُ مَا يَظْهَرُ فِي بَدَوَاتِ الرَّأْيِ‏:‏ أَنَّ إِثْبَاتَ الْأَسْبَابِ يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، وَأَنَّ نَفْيَهَا تَمَامُ التَّوَكُّلِ‏.‏

فَاعْلَمْ أَنَّ نُفَاةَ الْأَسْبَابِ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ تَوَكُّلٌ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي حُصُولِ الْمُتَوَكَّلِ فِيهِ‏.‏ فَهُوَ كَالدُّعَاءِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْمَدْعُوِّ بِهِ‏.‏ فَإِذَا اعْتَقَدَ الْعَبْدُ أَنَّ تَوَكُّلَهُ لَمْ يَنْصِبْهُ اللَّهُ سَبَبًا‏.‏ وَلَا جَعْلَ دُعَاءَهُ سَبَبًا لِنَيْلِ شَيْءٍ‏.‏ فَإِنَّ الْمُتَوَكِّلَ فِيهِ الْمَدْعُوَّ بِحُصُولِهِ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ حَصَلَ، تَوَكَّلَ أَوْ لَمْ يَتَوَكَّلْ، دَعَا أَوْ لَمْ يَدْعُ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَمْ يَحْصُلْ، تَوَكَّلَ أَيْضًا أَوْ تَرَكَ التَّوَكُّلَ‏.‏

وَصَرَّحَ هَؤُلَاءِ أَنَّ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ عُبُودِيَّةٌ مَحْضَةٌ‏.‏ لَا فَائِدَةَ لَهُمَا إِلَّا ذَلِكَ‏.‏ وَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ مَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِمَّا قُدِّرَ لَهُ‏.‏ وَمِنْ غُلَاتِهِمْ مَنْ يَجْعَلُ الدُّعَاءَ بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ؛ إِذْ هُوَ مَضْمُونُ الْحُصُولِ‏.‏

وَرَأَيْتُ بَعْضَ مُتَعَمِّقِي هَؤُلَاءِ- فِي كِتَابٍ لَهُ- لَا يُجَوِّزُ الدُّعَاءَ بِهَذَا‏.‏ وَإِنَّمَا يُجَوِّزُهُ تِلَاوَةً لَا دُعَاءً‏.‏ قَالَ‏:‏ لِأَنَّ الدُّعَاءَ بِهِ يَتَضَمَّنُ الشَّكَّ فِي وُقُوعِهِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ‏.‏ وَالشَّكُّ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ شَكٌّ فِي خَبَرِ اللَّهِ‏.‏ فَانْظُرْ إِلَى مَا قَادَ إِنْكَارُ الْأَسْبَابِ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَتَحْرِيمِ الدُّعَاءِ بِمَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِالدُّعَاءِ بِهِ وَبِطَلَبِهِ‏.‏ وَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ- مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى الْآنَ- يَدْعُونَ بِهِ فِي مَقَامَاتِ الدُّعَاءَ‏.‏ وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الدَّعَوَاتِ‏.‏

وَجَوَابُ هَذَا الْوَهْمِ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ بَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْقِسْمَيْنِ لَمْ تَذْكُرُوهُ‏.‏ وَهُوَ الْوَاقِعُ‏.‏ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَضَى بِحُصُولِ الشَّيْءِ عِنْدَ حُصُولِ سَبَبِهِ مِنَ التَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ‏.‏ فَنَصَبَ الدُّعَاءَ وَالتَّوَكُّلَ سَبَبَيْنِ لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ‏.‏

وَقَضَى اللَّهُ بِحُصُولِهِ إِذَا فَعَلَ الْعَبْدُ سَبَبَهُ‏.‏ فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِالسَّبَبِ امْتَنَعَ الْمُسَبَّبُ‏.‏ وَهَذَا كَمَا قَضَى بِحُصُولِ الْوَلَدِ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ مَنْ يُحِبُّهَا‏.‏ فَإِذَا لَمْ يُجَامِعْ لَمْ يُخْلَقِ الْوَلَدُ‏.‏

وَقَضَى بِحُصُولِ الشِّبَعِ إِذَا أَكَلَ، وَالرِّيِّ إِذَا شَرِبَ‏.‏ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَشْبَعْ وَلَمْ يُرْوَ‏.‏

وَقَضَى بِحُصُولِ الْحَجِّ وَالْوُصُولِ إِلَى مَكَّةَ إِذَا سَافَرَ وَرَكِبَ الطَّرِيقَ، فَإِذَا جَلَسَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَكَّةَ‏.‏

وَقَضَى بِدُخُولِ الْجَنَّةِ إِذَا أَسْلَمَ، وَأَتَى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ‏.‏ فَإِذَا تَرَكَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَعْمَلِ الصَّالِحَاتِ لَمْ يَدْخُلْهَا أَبَدًا‏.‏

وَقَضَى بِإِنْضَاجِ الطَّعَامِ بِإِيقَادِ النَّارِ تَحْتَهُ‏.‏

وَقَضَى بِطُلُوعِ الْحُبُوبِ الَّتِي تُزْرَعُ بِشَقِّ الْأَرْضِ، وَإِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِيهَا‏.‏ فَمَا لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا الْخَيْبَةُ‏.‏

فَوِزَانُ مَا قَالَهُ مُنْكِرُو الْأَسْبَابِ‏:‏ أَنْ يَتْرُكَ كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ السَّبَبَ الْمُوصِّلَ‏.‏ وَيَقُولُ‏:‏ إِنْ كَانَ قُضِيَ لِي وَسَبَقَ فِي الْأَزَلِ حُصُولُ الْوَلَدِ، وَالشِّبَعُ، وَالرِّيُّ، وَالْحَجُّ وَنَحْوُهَا‏.‏ فَلَابُدَّ أَنْ يَصِلَ إِلَيَّ، تَحَرَّكْتُ أَوْ سَكَنْتُ، وَتَزَوَّجْتُ أَوْ تَرَكْتُ، سَافَرْتُ أَوْ قَعَدْتُ‏.‏ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُضِيَ لِي لَمْ يَحْصُلْ لِي أَيْضًا، فَعَلْتُ أَوْ تَرَكْتُ‏.‏

فَهَلْ يَعُدُّ أَحَدٌ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْعُقَلَاءِ‏؟‏ وَهَلِ الْبَهَائِمُ إِلَّا أَفْقَهُ مِنْهُ‏؟‏ فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ تَسْعَى فِي السَّبَبِ بِالْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ‏.‏

فَالتَّوَكُّلُ مِنْ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْمَطْلُوبُ، وَيَنْدَفِعُ بِهَا الْمَكْرُوهُ‏.‏ فَمَنْ أَنْكَرَ الْأَسْبَابَ لَمْ يَسْتَقِمْ مِنْهُ التَّوَكُّلُ‏.‏ وَلَكِنَّ مِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ عَدَمَ الرُّكُونِ إِلَى الْأَسْبَابِ، وَقَطْعَ عَلَاقَةِ الْقَلْبِ بِهَا؛ فَيَكُونُ حَالُ قَلْبِهِ قِيَامَهُ بِاللَّهِ لَا بِهَا‏.‏ وَحَالُ بَدَنِهِ قِيَامَهُ بِهَا‏.‏

فَالْأَسْبَابُ مَحَلُّ حِكْمَةِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَدِينِهِ‏.‏ وَالتَّوَكُّلُ مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ‏.‏ فَلَا تَقُومُ عُبُودِيَّةُ الْأَسْبَابِ إِلَّا عَلَى سَاقِ التَّوَكُّلِ‏.‏ وَلَا يَقُومُ سَاقُ التَّوَكُّلِ إِلَّا عَلَى قَدَمِ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ رُسُوخُ الْقَلْبِ فِي مَقَامِ تَوْحِيدِ التَّوَكُّلِ‏]‏

الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ رُسُوخُ الْقَلْبِ فِي مَقَامِ تَوْحِيدِ التَّوَكُّلِ‏.‏

فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ تَوَكُّلُ الْعَبْدِ حَتَّى يَصِحَّ لَهُ تَوْحِيدُهُ‏.‏ بَلْ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ تَوْحِيدُ الْقَلْبِ‏.‏ فَمَا دَامَتْ فِيهِ عَلَائِقُ الشِّرْكِ، فَتَوَكُّلُهُ مَعْلُولٌ مَدْخُولٌ‏.‏ وَعَلَى قَدْرِ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ تَكُونُ صِحَّةُ التَّوَكُّلِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مَتَى الْتَفَتَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ أَخَذَ ذَلِكَ الِالْتِفَاتُ شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ قَلْبِهِ‏.‏ فَنَقَصَ مِنْ تَوَكُّلِهِ عَلَى اللَّهِ بِقَدْرِ ذَهَابِ تِلْكَ الشُّعْبَةِ وَمِنْ هَاهُنَا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِرَفْضِ الْأَسْبَابِ‏.‏ وَهَذَا حَقٌّ‏.‏ لَكِنَّ رَفْضَهَا عَنِ الْقَلْبِ لَا عَنِ الْجَوَارِحِ‏.‏ فَالتَّوَكُّلُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِرَفْضِ الْأَسْبَابِ عَنِ الْقَلْبِ، وَتَعَلُّقِ الْجَوَارِحِ بِهَا‏.‏ فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا مِنْهَا مُتَّصِلًا بِهَا‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الرَّابِعَةُ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَاسْتِنَادُهُ إِلَيْهِ وَسُكُونُهُ إِلَيْهِ‏]‏

الدَّرَجَةُ الرَّابِعَةُ‏:‏ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ، وَاسْتِنَادُهُ إِلَيْهِ، وَسُكُونُهُ إِلَيْهِ‏.‏

بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ اضْطِرَابٌ مِنْ تَشْوِيشِ الْأَسْبَابِ، وَلَا سُكُونٍ إِلَيْهَا، بَلْ يَخْلَعُ السُّكُونَ إِلَيْهَا مِنْ قَلْبِهِ‏.‏ وَيَلْبَسُهُ السُّكُونُ إِلَى مُسَبِّبِهَا‏.‏

وَعَلَامَةُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُبَالِي بِإِقْبَالِهَا وَإِدْبَارِهَا‏.‏ وَلَا يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ وَيَخْفُقُ عِنْدَ إِدْبَارِ مَا يُحِبُّ مِنْهَا، وَإِقْبَالِ مَا يَكْرَهُ؛ لِأَنَّ اعْتِمَادَهُ عَلَى اللَّهِ، وَسُكُونَهُ إِلَيْهِ، وَاسْتِنَادَهُ إِلَيْهِ، قَدْ حَصَّنَهُ مِنْ خَوْفِهَا وَرَجَائِهَا‏.‏ فَحَالُهُ حَالَ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ عَدُوٌّ عَظِيمٌ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ‏.‏ فَرَأَى حِصْنًا مَفْتُوحًا، فَأَدْخَلَهُ رَبُّهُ إِلَيْهِ‏.‏ وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ الْحِصْنِ‏.‏ فَهُوَ يُشَاهِدُ عَدُوَّهُ خَارِجَ الْحِصْنِ‏.‏ فَاضْطِرَابُ قَلْبِهِ وَخَوْفُهُ مِنْ عَدُوِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا مَعْنَى لَهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْطَاهُ مَلِكٌ دِرْهَمًا، فَسَرَقَ مِنْهُ‏.‏ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ‏:‏ عِنْدِي أَضْعَافُهُ‏.‏ فَلَا تَهْتَمَّ‏.‏ مَتَى جِئْتُ إِلَيَّ أَعْطَيْتُكَ مِنْ خَزَائِنِي أَضْعَافَهُ‏.‏ فَإِذَا عَلِمَ صِحَّةَ قَوْلِ الْمَلِكِ، وَوَثِقَ بِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَعَلِمَ أَنَّ خَزَائِنَهُ مَلِيئَةٌ بِذَلِكَ- لَمْ يُحْزِنْهُ فَوْتُهُ‏.‏

وَقَدْ مُثِّلَ ذَلِكَ بِحَالِ الطِّفْلِ الرَّضِيعِ فِي اعْتِمَادِهِ وَسُكُونِهِ‏.‏ وَطُمَأْنِينَتُهُ بِثَدْيِ أُمِّهِ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ‏.‏ وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ‏:‏ الْمُتَوَكِّلُ كَالطِّفْلِ‏.‏ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا يَأْوِي إِلَيْهِ إِلَّا ثَدْيَ أُمِّهِ، كَذَلِكَ الْمُتَوَكِّلُ لَا يَأْوِي إِلَّا إِلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الْخَامِسَةُ‏:‏ حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏]‏

الدَّرَجَةُ الْخَامِسَةُ‏:‏ حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

فَعَلَى قَدْرِ حُسْنِ ظَنِّكَ بِرَبِّكَ وَرَجَائِكَ لَهُ‏.‏ يَكُونُ تَوَكُّلُكَ عَلَيْهِ‏.‏ وَلِذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ التَّوَكُّلَ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ‏.‏

وَالتَّحْقِيقُ‏:‏ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِهِ يَدْعُوهُ إِلَى التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ‏.‏ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ التَّوَكُّلُ عَلَى مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ، وَلَا التَّوَكُّلُ عَلَى مَنْ لَا تَرْجُوهُ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ السَّادِسَةُ‏:‏ اسْتِسْلَامُ الْقَلْبِ لِلَّهِ‏]‏

الدَّرَجَةُ السَّادِسَةُ‏:‏ اسْتِسْلَامُ الْقَلْبِ لَهُ، وَانْجِذَابُ دَوَاعِيهِ كُلِّهَا إِلَيْهِ، وَقَطْعُ مُنَازَعَاتِهِ‏.‏

وَبِهَذَا فَسَّرَهُ مَنْ قَالَ‏:‏ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدِي الْغَاسِلِ، يُقَلِّبُهُ كَيْفَ أَرَادَ، لَا يَكُونُ لَهُ حَرَكَةٌ وَلَا تَدْبِيرٌ‏.‏

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ‏:‏ التَّوَكُّلُ إِسْقَاطُ التَّدْبِيرِ‏.‏ يَعْنِي الِاسْتِسْلَامَ لِتَدْبِيرِ الرَّبِّ لَكَ‏.‏ وَهَذَا فِي غَيْرِ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ‏.‏ بَلْ فِيمَا يَفْعَلُهُ بِكَ‏.‏ لَا فِيمَا أَمَرَكَ بِفِعْلِهِ‏.‏

فَالِاسْتِسْلَامُ كَتَسْلِيمِ الْعَبْدِ الذَّلِيلِ نَفْسَهُ لِسَيِّدِهِ، وَانْقِيَادِهِ لَهُ، وَتَرْكِ مُنَازَعَاتِ نَفْسِهِ وَإِرَادَتِهَا مَعَ سَيِّدِهِ‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ السَّابِعَةُ‏:‏ التَّفْوِيضُ‏]‏

الدَّرَجَةُ السَّابِعَةُ‏:‏ التَّفْوِيضُ‏.‏

وَهُوَ رُوحُ التَّوَكُّلِ التَّفْوِيضُ وَلُبُّهُ وَحَقِيقَتُهُ‏.‏ وَهُوَ إِلْقَاءُ أُمُورِهِ كُلِّهَا إِلَى اللَّهِ، وَإِنْزَالُهَا بِهِ طَلَبًا وَاخْتِيَارًا، لَا كَرْهًا وَاضْطِرَارًا‏.‏ بَلْ كَتَفْوِيضِ الِابْنِ الْعَاجِزِ الضَّعِيفِ الْمَغْلُوبِ عَلَى أَمْرِهِ‏:‏ كُلَّ أُمُورِهِ إِلَى أَبِيهِ، الْعَالِمِ بِشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ وَرَحْمَتِهِ، وَتَمَامِ كِفَايَتِهِ، وَحُسْنِ وِلَايَتِهِ لَهُ، وَتَدْبِيرِهِ لَهُ‏.‏ فَهُوَ يَرَى أَنَّ تَدْبِيرَ أَبِيهِ لَهُ خَيْرٌ مِنْ تَدْبِيرِهِ لِنَفْسِهِ، وَقِيَامَهُ بِمَصَالِحِهِ وَتَوَلِّيَهُ لَهَا خَيْرٌ مِنْ قِيَامِهِ هُوَ بِمَصَالِحَ نَفْسِهِ وَتَوَلِّيهِ لَهَا‏.‏ فَلَا يَجِدُ لَهُ أَصْلَحَ وَلَا أَرْفَقَ مِنْ تَفْوِيضِهِ أُمُورَهُ كُلَّهَا إِلَى أَبِيهِ، وَرَاحَتِهِ مِنْ حَمْلِ كُلَفِهَا وَثِقَلِ حِمْلِهَا، مَعَ عَجْزِهِ عَنْهَا، وَجَهْلِهِ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ فِيهَا، وَعِلْمِهِ بِكَمَالِ عَلَمِ مَنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ، وَقُدْرَتِهِ وَشَفَقَتِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏ثَمَرَةُ التَّوَكُّلِ‏]‏

فَإِذَا وَضَعَ قَدَمَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ‏.‏ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الرِّضَا‏.‏

وَهِيَ ثَمَرَةُ التَّوَكُّلِ‏.‏ وَمَنْ فَسَّرَ التَّوَكُّلَ بِهَا فَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِأَجَلِّ ثَمَرَاتِهِ، وَأَعْظَمِ فَوَائِدِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَوَكَّلَ حَقَّ التَّوَكُّلِ رَضِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ وَكِيلُهُ‏.‏

وَكَانَ شَيْخُنَا- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ‏:‏ الْمَقْدُورُ يَكْتَنِفُهُ أَمْرَانِ‏:‏ التَّوَكُّلُ قَبْلَهُ، وَالرِّضَا بَعْدَهُ، فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ الْفِعْلِ‏.‏ وَرَضِيَ بِالْمَقْضِيِّ لَهُ بَعْدَ الْفِعْلِ فَقَدْ قَامَ بِالْعُبُودِيَّةِ‏.‏ أَوْ مَعْنَى هَذَا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ‏.‏ فَهَذَا تَوَكُّلٌ وَتَفْوِيضٌ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ فَإِنَّكَ تَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَتَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ‏.‏ فَهَذَا تَبَرُّؤٌ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَتَوَسُّلٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِهِ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ مَا تَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِهَا الْمُتَوَسِّلُونَ‏.‏ ثُمَّ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ ذَلِكَ الْأَمْرَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَتُهُ، عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، وَأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْهُ إِنْ كَانَ فِيهِ مَضَرَّتُهُ، عَاجِلًا أَوْ آجِلًا‏.‏ فَهَذَا هُوَ حَاجَتُهُ الَّتِي سَأَلَهَا‏.‏ فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِلَّا الرِّضَا بِمَا يَقْضِيهِ لَهُ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ وَاقَدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ‏.‏

فَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الدُّعَاءُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْحَقَائِقِ الْإِيمَانِيَّةِ، الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا التَّوَكُّلُ وَالتَّفْوِيضُ، قَبْلَ وُقُوعِ الْمَقْدُورِ، وَالرِّضَا بَعْدَهُ‏.‏ وَهُوَ ثَمَرَةُ التَّوَكُّلِ‏.‏ وَالتَّفْوِيضُ عَلَامَةُ صِحَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِمَا قُضِيَ لَهُ، فَتَفْوِيضُهُ مَعْلُولٌ فَاسِدٌ‏.‏

فَبِاسْتِكْمَالِ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّمَانِي يَسْتَكْمِلُ الْعَبْدُ مَقَامَ التَّوَكُّلِ، وَتَثْبُتُ قَدَمُهُ فِيهِ‏.‏ وَهَذَا مَعْنَىقَوْلِ بِشْرٍ الْحَافِي‏:‏ يَقُولُ أَحَدُهُمْ‏:‏ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ‏.‏ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ‏.‏ لَوْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لَرَضِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِ‏.‏

وَقَوْلِ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ وَقَدْ سُئِلَ‏:‏ مَتَى يَكُونُ الرَّجُلُ مُتَوَكِّلًا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِذَا رَضِيَ بِاللَّهِ وَكِيلًا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏اشْتِبَاهُ الْمَحْمُودِ الْكَامِلِ بِالْمَذْمُومِ النَّاقِصِ‏]‏

وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَحْمُودُ الْكَامِلُ بِالْمَذْمُومِ النَّاقِصِ‏.‏ فَيَشْتَبِهُ التَّفْوِيضُ بِالْإِضَاعَةِ‏.‏ فَيُضَيِّعُ الْعَبْدُ حَظَّهُ‏.‏ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ تَفْوِيضٌ وَتَوَكُّلٌ‏.‏ وَإِنَّمَا هُوَ تَضْيِيعٌ لَا تَفْوِيضٌ‏.‏ فَالتَّضْيِيعُ فِي حَقِّ اللَّهِ‏.‏ وَالتَّفْوِيضُ فِي حَقِّكَ‏.‏

وَمِنْهُ اشْتِبَاهُ التَّوَكُّلِ بِالرَّاحَةِ، وَإِلْقَاءُ حِمْلِ الْكُلِّ‏.‏ فَيَظُنُّ صَاحِبُهُ أَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ‏.‏ وَإِنَّمَا هُوَ عَامِلٌ عَلَى عَدَمِ الرَّاحَةِ‏.‏

وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ مُجْتَهِدٌ فِي الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا غَايَةَ الِاجْتِهَادِ، مُسْتَرِيحٌ مِنْ غَيْرِهَا لِتَعَبِهِ بِهَا‏.‏ وَالْعَامِلُ عَلَى الرَّاحَةِ آخِذٌ مِنَ الْأَمْرِ مِقْدَارَ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، وَتَسْقُطُ بِهِ عَنْهُ مُطَالَبَةُ الشَّرْعِ‏.‏ فَهَذَا لَوْنٌ، وَهَذَا لَوْنٌ‏.‏

وَمِنْهُ اشْتِبَاهُ خَلْعِ الْأَسْبَابِ بِتَعْطِيلِهَا‏.‏ فَخَلْعُهَا تَوْحِيدٌ، وَتَعْطِيلُهَا إِلْحَادٌ وَزَنْدَقَةٌ‏.‏ فَخَلْعُهَا عَدَمُ اعْتِمَادِ الْقَلْبِ عَلَيْهَا، وَوُثُوقِهِ وَرُكُونِهِ إِلَيْهَا مَعَ قِيَامِهِ بِهَا‏.‏ وَتَعْطِيلُهَا إِلْغَاؤُهَا عَنِ الْجَوَارِحِ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ اشْتِبَاهُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ بِالْغُرُورِ وَالْعَجْزِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا‏:‏ أَنَّ الْوَاثِقَ بِاللَّهِ قَدْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَوَثِقَ بِاللَّهِ فِي طُلُوعِ ثَمَرَتِهِ، وَتَنْمِيَتِهَا وَتَزْكِيَتِهَا، كَغَارِسِ الشَّجَرَةِ، وَبَاذِرِ الْأَرْضِ‏.‏ وَالْمُغْتَرُّ الْعَاجِزُ قَدْ فَرَّطَ فِيمَا أُمِرَ بِهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ وَاثِقٌ بِاللَّهِ‏.‏ وَالثِّقَةُ إِنَّمَا تَصِحُّ بَعْدَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ اشْتِبَاهُ الطُّمَأْنِينَةِ إِلَى اللَّهِ وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ، بِالطُّمَأْنِينَةِ إِلَى الْمَعْلُومِ، وَسُكُونِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ‏.‏ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا إِلَّا صَاحِبُ الْبَصِيرَةِ‏.‏ كَمَا يُذْكَرُعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ‏:‏ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا بِمَكَّةَ لَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا إِلَّا شَرْبَةً مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ‏.‏ فَمَضَى عَلَيْهِ أَيَّامٌ‏.‏ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ يَوْمًا‏:‏ أَرَأَيْتَ لَوْ غَارَتْ زَمْزَمُ، أَيُّ شَيْءٍ كُنْتَ تَشْرَبُ‏؟‏ فَقَامَ وَقَبَّلَ رَأْسَهُ، وَقَالَ‏:‏ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، حَيْثُ أَرْشَدْتَنِي‏.‏ فَإِنِّي كُنْتُ أَعْبُدَ زَمْزَمَ مُنْذُ أَيَّامٍ‏.‏ ثُمَّ تَرَكَهُ وَمَضَى‏.‏

وَأَكْثَرُ الْمُتَوَكِّلِينَ سُكُونُهُمْ وَطُمَأْنِينَتُهُمْ إِلَى الْمَعْلُومِ‏.‏ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ إِلَى اللَّهِ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى انْقَطَعَ مَعْلُومُ أَحَدِهِمْ حَضَرَهُ هَمُّهُ وَبَثُّهُ وَخَوْفُهُ‏.‏ فَعَلِمَ أَنَّ طُمَأْنِينَتَهُ وَسُكُونَهُ لَمْ يَكُنْ إِلَى اللَّهِ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ اشْتِبَاهُ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ بِكُلِّ مَا يَفْعَلُ بِعَبْدِهِ- مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَكْرَهُهُ- بِالْعَزْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَحَدِيثِ النَّفْسِ بِهِ‏.‏ وَذَلِكَ شَيْءٌ وَالْحَقِيقَةُ شَيْءٌ آخَرُ‏.‏ كَمَا يُحْكَىعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أُعْطِيتُ طَرَفًا مِنَ الرِّضَا، لَوْ أَدْخَلَنِي النَّارَ لَكُنْتُ بِذَلِكَ رَاضِيًا‏.‏

فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ‏:‏ هَذَا عَزْمٌ مِنْهُ عَلَى الرِّضَا وَحَدِيثُ نَفْسٍ بِهِ‏.‏ وَلَوْ أَدْخَلَهُ النَّارَ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ‏.‏ وَفَرْقٌ بَيْنَ الْعَزْمِ عَلَى الشَّيْءِ وَبَيْنَ حَقِيقَتِهِ‏.‏

وَمِنْهُ اشْتِبَاهُ عِلْمِ التَّوَكُّلِ بِحَالِ التَّوَكُّلِ‏.‏ فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ التَّوَكُّلَ وَحَقِيقَتَهُ وَتَفَاصِيلَهُ‏.‏ فَيَظُنُّ أَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ‏.‏ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّوَكُّلِ‏.‏ فَحَالُ التَّوَكُّلِ أَمْرٌ آخَرُ مِنْ وَرَاءِ الْعِلْمِ بِهِ‏.‏ وَهَذَا كَمَعْرِفَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْعِلْمِ بِهَا وَأَسْبَابِهَا وَدَوَاعِيهَا‏.‏ وَحَالُ الْمُحِبِّ الْعَاشِقِ وَرَاءَ ذَلِكَ‏.‏ وَكَمَعْرِفَةِ عِلْمِ الْخَوْفِ، وَحَالُ الْخَائِفِ وَرَاءَ ذَلِكَ‏.‏ وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَعْرِفَةِ الْمَرِيضِ مَاهِيَّةَ الصِّحَّةِ وَحَقِيقَتَهَا وَحَالُهُ بِخِلَافِهَا‏.‏

فَهَذَا الْبَابُ يَكْثُرُ اشْتِبَاهُ الدَّعَاوِي فِيهِ بِالْحَقَائِقِ، وَالْعَوَارِضِ بِالْمَطَالِبِ، وَالْآفَاتِ الْقَاطِعَةِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ‏.‏ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَعَلُّقُ التَّوَكُّلِ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى‏]‏

التَّوَكُّلُ مِنْ أَعَمِّ الْمَقَامَاتِ تَعَلُّقًا بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى‏.‏

فَإِنَّ لَهُ تَعَلُّقًا خَاصًّا بِعَامَّةِ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَأَسْمَاءِ الصِّفَاتِ‏.‏

فَلَهُ تَعَلُّقٌ بِاسْمِ الْغَفَّارِ، وَالتَّوَّابِ، وَالْعَفُوِّ، وَالرَّءُوفِ، وَالرَّحِيمِ وَتَعَلُّقٌ بَاسِمِ الْفَتَّاحِ، وَالْوَهَّابِ، وَالرَّزَّاقِ، وَالْمُعْطِي، وَالْمُحْسِنِ‏.‏ وَتَعَلُّقٌ بِاسْمِ الْمُعِزِّ الْمُذِلِّ، الْخَافِضِ الرَّافِعِ، الْمَانِعِ‏.‏ مِنْ جِهَةِ تَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ فِي إِذْلَالِ أَعْدَاءِ دِينِهِ، وَخَفْضِهِمْ وَمَنْعِهِمْ أَسْبَابَ النَّصْرِ‏.‏ وَتَعَلُّقٌ بِأَسْمَاءِ الْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ وَلَهُ تَعَلُّقٌ عَامٌّ بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى‏.‏ وَلِهَذَا فَسَّرَهُ مَنْ فَسَّرَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّهُ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ‏.‏

وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ بِحَسَبِ مَعْرِفَةِ الْعَبْدِ يَصِحُّ لَهُ مَقَامُ التَّوَكُّلِ‏.‏ وَكُلَّمَا كَانَ بِاللَّهِ أَعْرَفَ، كَانَ تَوَكُّلُهُ عَلَيْهِ أَقْوَى‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الْمُتَوَكِّلُ الْمَغْبُونُ فِي تَوَكُّلِهِ‏]‏

وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُتَوَكِّلِينَ يَكُونُ مَغْبُونًا فِي تَوَكُّلِهِ‏.‏ وَقَدْ تَوَكَّلَ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ وَهُوَ مَغْبُونٌ‏.‏ كَمَنْ صَرَفَ تَوَكُّلَهُ إِلَى حَاجَةٍ جُزْئِيَّةٍ اسْتَفْرَغَ فِيهَا قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ‏.‏ وَيُمْكِنُهُ نَيْلُهَا بِأَيْسَرِ شَيْءٍ، وَتَفْرِيغُ قَلْبِهِ لِلتَّوَكُّلِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَنُصْرَةِ الدِّينِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي الْعَالَمِ خَيْرًا‏.‏ فَهَذَا تَوَكُّلُ الْعَاجِزِ الْقَاصِرِ الْهِمَّةِ‏.‏ كَمَا يَصْرِفُ بَعْضُهُمْ هِمَّتَهُ وَتَوَكُّلَهُ، وَدُعَاءَهُ إِلَى وَجَعٍ يُمْكِنُ مُدَاوَاتُهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، أَوْ جُوعٍ يُمْكِنُ زَوَالُهُ بِنِصْفِ رَغِيفٍ، أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، وَيَدَعُ صَرْفَهُ إِلَى نُصْرَةِ الدِّينِ، وَقَمْعِ الْمُبْتَدِعِينَ، وَزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَفْسِيرُ ابْنِ الْقَيِّمِ لِمَعْنَى التَّوَكُّلِ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏‏:‏ التَّوَكُّلُ‏:‏ تَفْسِيرُهُ لِابْنِ الْقَيِّمِ‏:‏ كِلَةُ الْأَمْرِ إِلَى مَالِكِهِ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى وِكَالَتِهِ، وَهُوَ مِنْ أَصْعَبِ مَنَازِلِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِمْ‏.‏ وَأَوْهَى السُّبُلِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ تَعَالَى قَدْ وَكَلَ الْأُمُورَ كُلَّهَا إِلَى نَفْسِهِ‏.‏ وَأَيْأَسَ الْعَالَمَ مَنْ مِلْكَ شَيْءٍ مِنْهَا‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ كِلَةُ الْأَمْرِ إِلَى مَالِكِهِ‏.‏ أَيْ تَسْلِيمُهُ إِلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ‏.‏

وَالتَّعْوِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ؛ أَيْ الِاعْتِمَادُ عَلَى قِيَامِهِ بِالْأَمْرِ، وَالِاسْتِغْنَاءُ بِفِعْلِهِ عَنْ فِعْلِكَ، وَبِإِرَادَتِهِ عَنْ إِرَادَتِكَ‏.‏

وَالْوِكَالَةُ يُرَادُ بِهَا أَمْرَانِ‏.‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ التَّوْكِيلُ‏.‏ وَهُوَ الِاسْتِنَابَةُ وَالتَّفْوِيضُ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ التَّوَكُّلُ‏.‏ وَهُوَ التَّعَرُّفُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنِ الْمُوَكِّلِ‏.‏ وَهَذَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ‏.‏ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُوَكِّلُ الْعَبْدَ وَيُقِيمُهُ فِي حِفْظِ مَا وَكَّلَهُ فِيهِ‏.‏ وَالْعَبْدُ يُوكِّلُ الرَّبَّ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ‏.‏

فَأَمَّا وَكَالَةُ الرَّبِّ عَبْدَهُ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ‏}‏ قَالَ قَتَادَةُ‏:‏ وَكَّلْنَا بِهَا الْأَنْبِيَاءَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ- يَعْنِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ- وَقَالَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ إِنْ يَكْفُرْ بِهَا أَهْلُ الْأَرْضِ، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا أَهْلَ السَّمَاءِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ‏.‏ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَ مُجَاهِدٌ‏:‏ هُمُ الْأَنْصَارُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ‏.‏

وَالصَّوَابُ‏:‏ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ قَامَ بِهَا إِيمَانًا، وَدَعْوَةً وَجِهَادًا وَنُصْرَةً‏.‏ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ وَكَّلَهُمُ اللَّهُ بِهَا‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ أَحَدًا وَكِيلُ اللَّهِ‏؟‏

قُلْتُ‏:‏ لَا‏.‏ فَإِنَّ الْوَكِيلَ مَنْ يَتَصَرَّفُ عَنْ مُوَكِّلِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ‏.‏ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا نَائِبَ لَهُ، وَلَا يَخْلُفُهُ أَحَدٌ، بَلْ هُوَ الَّذِي يَخْلُفُ عَبْدَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ‏.‏ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُطْلَقَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ مَا وَكَّلَهُ فِيهِ، وَرِعَايَتِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ‏.‏

وَأَمَّا تَوْكِيلُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فَهُوَ تَفْوِيضُهُ إِلَيْهِ، وَعَزْلُ نَفْسِهِ عَنِ التَّصَرُّفِ، وَإِثْبَاتُهُ لِأَهْلِهِ وَوَلِيِّهِ‏.‏ وَلِهَذَا قِيلَ فِي التَّوَكُّلِ‏:‏ إِنَّهُ عَزْلُ النَّفْسِ عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَقِيَامُهَا بِالْعُبُودِيَّةِ‏.‏ وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ الرَّبِّ وَكِيلَ عَبْدِهِ؛ أَيْ كَافِيَهُ، وَالْقَائِمُ بِأُمُورِهِ وَمَصَالِحِهِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ فِي التَّصَرُّفِ‏.‏ فَوِكَالَةُ الرَّبِّ عَبْدَهُ أَمْرٌ وَتَعَبُّدٌ وَإِحْسَانٌ لَهُ، وَخِلْعَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ، لَا عَنْ حَاجَةٍ مِنْهُ، وَافْتِقَارٍ إِلَيْهِ كَمُوَالَاتِهِ‏.‏ وَأَمَّا تَوْكِيلُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فَتَسْلِيمٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، وَقِيَامٌ بِعُبُودِيَّتِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَهُوَ مِنْ أَصْعَبِ مَنَازِلِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَامَّةَ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ نُفُوسِهِمْ وَمَأْلُوفَاتِهِمْ‏.‏ وَلَمْ يُشَاهِدُوا الْحَقِيقَةَ الَّتِي شَهِدَهَا الْخَاصَّةُ‏.‏ وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ التَّوْكِيلَ، فَهُمْ فِي رِقِّ الْأَسْبَابِ‏.‏ فَيَصْعُبُ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ عَنْهَا، وَخُلُوِّ الْقَلْبِ مِنْهَا، وَالِاشْتِغَالِ بِمُلَاحَظَةِ الْمُسَبِّبِ وَحْدَهُ‏.‏

وَأَمَّا كَوْنُهُ أَوْهَى السُّبُلِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ فَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ هُوَ مِنْ أَجَلِّ السُّبُلِ عِنْدَهُمْ وَأَفْضَلِهَا، وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا‏.‏ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْبَابِ أَمْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ بِذَلِكَ، وَحَضُّهُ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُؤْمِنِينَ‏.‏ وَمِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَوَكِّلُ وَتَوَكُّلُهُ أَعْظَمُ تَوَكُّلٍ‏.‏ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ ‏{‏فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ‏}‏ وَفِي ذِكْرِ أَمْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ، مَعَ إِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الدِّينَ بِمَجْمُوعِهِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَلَى الْحَقِّ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، وَاعْتِقَادِهِ وَنِيَّتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ وَاثِقًا بِهِ‏.‏ فَالدِّينُ كُلُّهُ فِي هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ‏.‏ وَقَالَ رُسُلُ اللَّهِ وَأَنْبِيَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا‏}‏‏.‏ فَالْعَبْدُ آفَتُهُ إِمَّا مِنْ عَدَمِ الْهِدَايَةِ، وَإِمَّا مِنْ عَدَمِ التَّوَكُّلِ‏.‏ فَإِذَا جَمَعَ التَّوَكُّلَ إِلَى الْهِدَايَةِ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ كُلَّهُ‏.‏

نَعَمْ، التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ فِي مَعْلُومِ الرِّزْقِ الْمَضْمُونِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ عَنِ التَّوَكُّلِ فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ وَالدِّينِ مِنْ أَوْهَى مَنَازِلِ الْخَاصَّةِ‏.‏ أَمَّا التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ فِيهِ وَفِي الْخَلْقِ، فَهَذَا تَوَكُّلُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ‏.‏ فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَوْهَى مَنَازِلِ الْخَاصَّةِ‏؟‏

قَوْلُهُ‏:‏ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ وَكَلَ الْأُمُورَ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَيْأَسَ الْعَالَمَ مِنْ مِلْكِ شَيْءٍ مِنْهَا‏.‏

جَوَابُهُ‏:‏ أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ أَسْنَدَ إِلَى عِبَادِهِ كَسْبًا وَفِعْلًا وَإِقْدَارًا، وَاخْتِيَارًا، وَأَمْرًا وَنَهْيًا، اسْتَعْبَدَهُمْ بِهِ، وَامْتَحَنَ بِهِ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَمَنْ يُؤْثِرُهُ مِمَّنْ يُؤْثِرُ عَلَيْهِ‏.‏ وَأَمَرَ بِتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ فِيمَا أَسْنَدَهُ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَتَعَبَّدَهُمْ بِهِ‏.‏ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ، كَمَا يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ‏.‏ وَكَمَا يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَكَمَا يُحِبُّ الصَّابِرِينَ‏.‏ وَكَمَا يُحِبُّ التَّوَّابِينَ‏.‏

وَأَخْبَرَ أَنَّ كِفَايَتَهُ لَهُمْ مَقْرُونَةٌ بِتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ كَافٍ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَحَسْبُهُ‏.‏ وَجَعَلَ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَمَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِهِ جَزَاءً مَعْلُومًا‏.‏

وَجَعَلَ نَفْسَهُ جَزَاءَ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ وَكِفَايَتَهُ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا‏}‏، ‏{‏وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ‏}‏، ‏{‏وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا‏}‏، ‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ‏}‏- الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ فِي التَّوَكُّلِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏‏.‏

فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْجَزَاءِ الَّذِي حَصَلَ لِلْمُتَوَكِّلِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ لِغَيْرِهِ‏.‏ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ أَقْوَى السُّبُلَ عِنْدَهُ وَأَحَبُّهَا إِلَيْهِ‏.‏ وَلَيْسَ كَوْنُهُ وَكَلَ الْأُمُورَ إِلَى نَفْسِهِ بِمُنَافٍ لِتَوَكُّلِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ، بَلْ هَذَا تَحْقِيقُ كَوْنِ الْأُمُورِ كُلِّهَا مَوْكُولَةً إِلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَهُ مَعْرِفَةً صَارَتْ حَالُهُ التَّوَكُّلَ- قَطْعًا- عَلَى مَنْ هَذَا شَأْنُهُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهَا‏.‏ فَهُوَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنَ اعْتِمَادِهِ عَلَيْهِ‏.‏ وَتَفْوِيضِهِ إِلَيْهِ‏.‏ وَثِقَتِهِ بِهِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ‏:‏ مِنْ جِهَةِ فَقْرِهِ، وَعَدَمِ مِلْكِهِ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ‏.‏ وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْأَمْرِ كُلِّهِ بِيَدِهِ وَإِلَيْهِ‏.‏ وَالتَّوَكُّلُ يَنْشَأُ مِنْ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ‏.‏ فَكَيْفَ يُوَكِّلُ الْمَالِكُ عَلَى مُلْكِهِ‏؟‏ وَكَيْفَ يَسْتَنِيبُهُ فِيمَا هُوَ مِلْكٌ لَهُ، دُونَ هَذَا الْمُوَكَّلِ‏؟‏ فَالْخَاصَّةُ لَمَّا تَحَقَّقُوا هَذَا نَزَلُوا عَنْ مَقَامِ التَّوَكُّلِ وَسَلَّمُوهُ إِلَى الْعَامَّةِ‏.‏ وَبَقِيَ الْخِطَابُ بِالتَّوَكُّلِ لَهُمْ دُونَ الْخَاصَّةِ‏.‏

قِيلَ‏:‏ لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ‏.‏ كَانَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ تَسْلِيمَ الْأَمْرِ إِلَى مَنْ هُوَ لَهُ، وَعَزْلَ نَفْسِهِ عَنْ مُنَازَعَاتِ مَالِكِهِ وَاعْتِمَادَهُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَخُرُوجَهُ عَنْ تَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ وَحَوْلِهُ وَقُوَّتِهِ وَكَوْنِهِ بِهِ، إِلَى تَصَرُّفِهِ بِرَبِّهِ وَكَوْنِهِ بِهِ سُبْحَانَهُ دُونَ نَفْسِهِ‏.‏ وَهَذَا مَقْصُودُ التَّوَكُّلِ‏.‏

وَأَمَّا عَزْلُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عَنْ مَقَامِ التَّوَكُّلِ‏:‏ فَهُوَ عَزْلٌ لَهَا عَنْ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏

وَأَمَّا تَوَجُّهُ الْخِطَابِ بِهِ إِلَى الْعَامَّةِ‏:‏ فَسُبْحَانَ اللَّهِ‏!‏ هَلْ خَاطَبَ اللَّهُ بِالتَّوَكُّلِ فِي كِتَابِهِ إِلَّا خَوَاصَّ خَلْقِهِ، وَأَقْرَبَهُمْ إِلَيْهِ، وَأَكْرَمَهُمْ عَلَيْهِ‏؟‏ وَشَرَطَ فِي إِيمَانِهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُتَوَكِّلِينَ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ يُعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ‏.‏

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ عِنْدَ انْتِفَاءِ التَّوَكُّلِ‏.‏ فَمَنْ لَا تَوَكُّلَ لَهُ لَا إِيمَانَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏‏.‏ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْحِصَارِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ‏.‏

وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ رُسُلِهِ بِأَنَّ التَّوَكُّلَ مَلْجَأُهُمْ وَمَعَاذُهُمْ‏.‏ وَأَمَرَ بِهِ رَسُولَهُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ‏.‏ وَقَالَ‏:‏‏(‏‏}‏ وقال مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا‏}‏‏.‏ فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَوْهَى السُّبُلِ وَهَذَا شَأْنُهُ‏؟‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏