فصل: فَصْلٌ: الْمَعْرِفَةُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***


فَصْلٌ‏:‏ الْمَعْرِفَةُ

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏‏(‏بَابُ الْمَعْرِفَةِ‏)‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ‏}‏ الْمَعْرِفَةُ‏:‏ إِحَاطَةٌ بِعَيْنِ الشَّيْءِ كَمَا هُوَ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ الْمَعْرِفَةِ وَلَفْظُ الْعِلْمِ، فَلَفْظُ الْمَعْرِفَةِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا لَفْظُ الْعِلْمِ فَهُوَ أَوْسَعُ إِطْلَاقًا، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏{‏الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ‏}‏ وَهَذَا كَثِيرٌ‏.‏

وَاخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ اسْمَ الْعِلْمِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ، فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ، وَعَلِيمٌ، وَعَلَّامٌ، وَعَلِمَ، وَيَعْلَمُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُ عِلْمًا دُونَ لَفْظِ الْمَعْرِفَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْمَ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ أَكْمَلُ نَوْعِهِ الْمُشَارِكُ لَهُ فِي مَعْنَاهُ‏.‏

وَإِنَّمَا جَاءَ لَفْظُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏- إِلَى قوله‏:‏ ‏{‏مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ‏}‏‏.‏

وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ تُرَجِّحُ الْمَعْرِفَةَ عَلَى الْعِلْمِ جِدًّا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَرْفَعُ بِالْعِلْمِ رَأْسًا، وَيُعِدُّهُ قَاطِعًا وَحِجَابًا دُونَ الْمَعْرِفَةِ، وَأَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ مِنْهُمْ‏:‏ أَشَدُّ النَّاسِ وَصِيَّةً لِلْمُرِيدِينَ بِالْعِلْمِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلِيٌّ لِلَّهِ كَامِلُ الْوِلَايَةِ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْعِلْمِ أَبَدًا، فَمَا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَا يَتَّخِذُ وَلِيًّا جَاهِلًا، وَالْجَهْلُ رَأْسُ كُلِّ بِدْعَةٍ وَضَلَالَةٍ وَنَقْصٍ، وَالْعِلْمُ أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ وَهُدًى وَكَمَالٍ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ‏]‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَمَّا اللَّفْظُ‏:‏ فَفِعْلُ الْمَعْرِفَةِ يَقَعُ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، تَقُولُ‏:‏ عَرْفْتُ الدَّارَ، وَعَرَفْتُ زَيْدًا، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ‏}‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ‏}‏‏.‏

وَفِعْلُ الْعِلْمِ يَقْتَضِي مَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ‏}‏ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، كَانَ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ‏}‏ وَأَمَّا الْفَرْقُ الْمَعْنَوِيُّ فَمِنْ وُجُوهٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الشَّيْءِ، وَالْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِهِ، فَتَقُولُ‏:‏ عَرَفْتُ أَبَاكَ، وَعَلِمْتُهُ صَالِحًا عَالِمًا، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْأَمْرُ فِي الْقُرْآنِ بِالْعِلْمِ دُونَ الْمَعْرِفَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

فَالْمَعْرِفَةُ‏:‏ حُضُورُ صُورَةِ الشَّيْءِ وَمِثَالِهِ الْعِلْمِيِّ فِي النَّفْسِ، وَالْعِلْمُ‏:‏ حُضُورُ أَحْوَالِهِ وَصِفَاتِهِ وَنِسْبَتِهَا إِلَيْهِ، فَالْمَعْرِفَةُ‏:‏ تُشْبِهُ التَّصَوُّرَ، وَالْعِلْمُ‏:‏ يُشْبِهُ التَّصْدِيقَ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ- فِي الْغَالِبِ- تَكُونُ لِمَا غَابَ عَنِ الْقَلْبِ بَعْدَ إِدْرَاكِهِ، فَإِذَا أَدْرَكَهُ قِيلَ‏:‏ عَرَفَهُ، أَوْ تَكُونُ لِمَا وُصِفَ لَهُ بِصِفَاتٍ قَامَتْ فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا رَآهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِهَا، قِيلَ‏:‏ عَرَفَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ‏}‏، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ‏}‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ‏}‏ لَمَّا كَانَتْ صِفَاتُهُ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمْ، فَرَأَوْهُ‏:‏ عَرَفُوهُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِآخِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا‏:‏ أَتَعْرِفُ الزَّمَانَ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ فَيَقُولُ‏:‏ تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى عَلَى رَبِّهِ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ‏}‏ فَالْمَعْرِفَةُ‏:‏ تُشْبِهُ الذِّكْرَ لِلشَّيْءِ، وَهُوَ حُضُورُ مَا كَانَ غَائِبًا عَنِ الذِّكْرِ، وَلِهَذَا كَانَ ضِدَّ الْمَعْرِفَةِ الْإِنْكَارُ، وَضِدَّ الْعِلْمِ الْجَهْلُ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا‏}‏ وَيُقَالُ‏:‏ عَرَفَ الْحَقَّ فَأَقَرَّ بِهِ، وَعَرَفَهُ فَأَنْكَرَهُ‏.‏

الْوَجْهُ الثَّالِثُ- مِنَ الْفَرْقِ-‏:‏ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ تُفِيدُ تَمْيِيزَ الْمَعْرُوفِ عَنْ غَيْرِهِ وَالْعِلْمَ يُفِيدُ تَمْيِيزَ مَا يُوصَفُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا الْفَرْقُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ ذَاكَ يَرْجِعُ إِلَى إِدْرَاكِ الذَّاتِ وَإِدْرَاكِ صِفَاتِهَا، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى تَخْلِيصِ الذَّاتِ مِنْ غَيْرِهَا، وَتَخْلِيصِ صِفَاتِهَا مِنْ صِفَاتِ غَيْرِهَا‏.‏

الْفَرْقُ الرَّابِعُ‏:‏ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ‏:‏ عَلِمْتُ زَيْدًا، لَمْ يُفِدِ الْمُخَاطَبَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يَنْتَظِرُ بَعْدُ‏:‏ أَنْ تُخْبِرَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ عَلِمْتَهُ‏؟‏ فَإِذَا قُلْتَ‏:‏ كَرِيمًا أَوْ شُجَاعًا، حَصَلَتْ لَهُ الْفَائِدَةُ، وَإِذَا قُلْتَ‏:‏ عَرَفْتُ زَيْدًا‏.‏ اسْتَفَادَ الْمُخَاطَبُ، أَنَّكَ أَثْبَتَّهُ وَمَيَّزْتَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مُنْتَظِرًا لِشَيْءٍ آخَرَ، وَهَذَا الْفَرْقُ فِي التَّحْقِيقِ إِيضَاحٌ لِلْفَرْقِ الَّذِي قَبْلَهُ‏.‏

الْفَرْقُ الْخَامِسُ- وَهُوَ فَرْقُ الْعَسْكَرِيِّ فِي فُرُوقِهِ- وَفُرُوقِ غَيْرِهِ‏:‏ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِلْمٌ بِعَيْنِ الشَّيْءِ مُفَصَّلًا عَمَّا سِوَاهُ، بِخِلَافِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ مُجْمَلًا، وَهَذَا يُشْبِهُ فَرْقَ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ، فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ الْمَعْرِفَةُ إِحَاطَةٌ بِعَيْنِ الشَّيْءِ كَمَا هُوَ، وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ‏:‏ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعْرَفَ اللَّهُ أَلْبَتَّةَ، وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ هَذَا الْبَابُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا، وَلَا مَعْرِفَةً وَلَا رُؤْيَةً، فَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏}‏ بَلْ حَقِيقَةُ هَذَا الْحَدِّ‏:‏ انْتِفَاءُ تَعَلُّقِ الْمَعْرِفَةِ بِأَكْبَرِ الْمَخْلُوقَاتِ حَتَّى بِأَظْهَرِهَا، وَهُوَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، بَلْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدٌ نَفْسَهُ وَذَاتَهُ أَلْبَتَّةَ‏.‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ‏:‏ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُمْ هِيَ الْعِلْمُ الَّذِي يَقُومُ الْعَالِمُ بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ، فَلَا يُطْلِقُونَ الْمَعْرِفَةَ عَلَى مَدْلُولِ الْعِلْمِ وَحْدَهُ، بَلْ لَا يَصِفُونَ بِالْمَعْرِفَةِ إِلَّا مَنْ كَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ، وَبِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى اللَّهِ، وَبِآفَاتِهَا وَقَوَاطِعِهَا، وَلَهُ حَالٌ مَعَ اللَّهِ تَشْهَدُ لَهُ بِالْمَعْرِفَةِ، فَالْعَارِفُ- عِنْدَهُمْ- مَنْ عَرَفَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، ثُمَّ صَدَقَ اللَّهَ فِي مُعَامَلَتِهِ، ثُمَّ أَخْلَصَ لَهُ فِي قُصُودِهِ وَنِيَّاتِهِ، ثُمَّ انْسَلَخَ مِنْ أَخْلَاقِهِ الرَّدِيئَةِ وَآفَاتِهِ، ثُمَّ تَطَهَّرَ مِنْ أَوْسَاخِهِ وَأَدْرَانِهِ وَمُخَالَفَاتِهِ، ثُمَّ صَبَرَ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ فِي نِعَمِهِ وَبَلِيَّاتِهِ، ثُمَّ دَعَا إِلَيْهِ عَلَى بَصِيرَةٍ بِدِينِهِ وَآيَاتِهِ، ثُمَّ جَرَّدَ الدَّعْوَةَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ، وَلَمْ يَشُبْهَا بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَأَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ وَمَقَايِيسِهِمْ وَمَعْقُولَاتِهِمْ، وَلَمْ يَزِنْ بِهَا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ صَلَوَاتِهِ، فَهَذَا الَّذِي يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْعَارِفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِذَا سُمِّيَ بِهِ غَيْرُهُ عَلَى الدَّعْوَى وَالِاسْتِعَارَةِ‏.‏

وَقَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِآثَارِهَا وَشَوَاهِدِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مِنْ أَمَارَاتِ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ‏:‏ حُصُولُ الْهَيْبَةِ مِنْهُ، فَمَنِ ازْدَادَتْ مَعْرِفَتُهُ ازْدَادَتْ هَيْبَتُهُ‏.‏

وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ الْمَعْرِفَةُ تُوجِبُ السُّكُونَ، فَمَنِ ازْدَادَتْ مَعْرِفَتُهُ ازْدَادَتْ سَكِينَتُهُ‏.‏

وَقَالَ لِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا‏:‏ مَا عَلَامَةُ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي يُشِيرُونَ إِلَيْهَا‏؟‏ فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ أُنْسُ الْقَلْبِ بِاللَّهِ، قَالَ لِي‏:‏ عَلَامَتُهَا أَنْ يُحِسَّ بِقُرْبِ قَلْبِهِ مِنَ اللَّهِ، فَيَجِدُهُ قَرِيبًا مِنْهُ‏.‏

وَقَالَ الشِّبْلِيُّ‏:‏ لَيْسَ لِعَارِفٍ عَلَاقَةٌ، وَلَا لِمُحِبٍّ شَكْوَى، وَلَا لِعَبْدٍ دَعْوَى، وَلَا لِخَائِفٍ قَرَارٌ‏.‏ وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ اللَّهِ فِرَارٌ‏.‏

وَهَذَا كَلَامٌ جَيِّدٌ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ تَقْطَعُ مِنَ الْقَلْبِ الْعَلَائِقَ كُلَّهَا، وَتُعَلِّقُهُ بِمَعْرُوفِهِ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ عَلَاقَةٌ بِغَيْرِهِ، وَلَا تَمُرُّ بِهِ الْعَلَائِقُ إِلَّا وَهِيَ مُجْتَازَةٌ، لَا تَمُرُّ مُرُورَ اسْتِيطَانٍ‏.‏

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ‏:‏ مَنْ كَانَ بِاللَّهِ أَعْرَفَ كَانَ لَهُ أَخْوَفَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ‏}‏ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَنَا أَعْرَفُكُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً‏.‏

وَقَالَ آخَرُ‏:‏ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى ضَاقَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِسِعَتِهَا‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى اتَّسَعَ عَلَيْهِ كُلُّ ضِيقٍ‏.‏

وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّهُ يَضِيقُ عَلَيْهِ كُلُّ مَكَانٍ لَا يُسَاعَدُ فِيهِ عَلَى شَأْنِهِ وَمَطْلُوبِهِ، وَيَتَّسِعُ عَلَيْهِ مَا ضَاقَ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ، وَلَا هُوَ مُسَاكِنٌ لَهُ بِقَلْبِهِ، فَقَلْبُهُ غَيْرُ مَحْبُوسٍ فِيهِ‏.‏

وَالْأَوَّلُ‏:‏ فِي بِدَايَةِ الْمَعْرِفَةِ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ فِي نِهَايَتِهَا الَّتِي يَصِلُ إِلَيْهَا الْعَبْدُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُ‏:‏ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى صَفَا لَهُ الْعَيْشُ، فَطَابَتْ لَهُ الْحَيَاةُ، وَهَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَذَهَبَ عَنْهُ خَوْفُ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَنِسَ بِاللَّهِ‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ قَرَّتْ عَيْنُهُ بِاللَّهِ، وَقَرَّتْ عَيْنُهُ بِالْمَوْتِ، وَقَرَّتْ بِهِ كُلُّ عَيْنٍ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ تَقَطَّعَ قَلْبُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَاتٍ، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ لَمْ يَبْقَ لَهُ رَغْبَةٌ فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنِ ادَّعَى مَعْرِفَةَ اللَّهِ- وَهُوَ رَاغِبٌ فِي غَيْرِهِ-‏:‏ كَذَّبَتْ رَغْبَتُهُ مَعْرِفَتَهُ، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ أَحَبَّهُ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَخَافَهُ وَرَجَاهُ، وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَأَنَابَ إِلَيْهِ، وَلَهِجَ بِذِكْرِهِ، وَاشْتَاقَ إِلَى لِقَائِهِ، وَاسْتَحْيَا مِنْهُ، وَأَجَلَّهُ وَعَظَمَّهُ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَعَلَامَةُ الْعَارِفِ‏:‏ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مِرْآةً إِذَا نَظَرَ فِيهَا الْغَيْبَ الَّذِي دُعِيَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَعَلَى قَدْرِ جِلَاءِ تِلْكَ الْمِرْآةِ يَتَرَاءَى لَهُ فِيهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالدَّارُ الْآخِرَةُ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَالْمَلَائِكَةُ، وَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، كَمَا قِيلَ‏:‏

إِذَا سَكَنَ الْغَدِيرُ عَلَى صَفَــاءٍ *** وَجُنِّبَ أَنْ يُحَرِّكَهُ النَّسِيــمُ

بَدَتْ فِيهِ السَّمَاءُ بِلَا امْتِــرَاءٍ *** كَذَاكَ الشَّمْسُ تَبْدُو وَالنُّجُومُ

كَذَاكَ قُلُوبُ أَرْبَابِ التَّجَلِّــي *** يُرَى فِي صَفْوِهَا اللَّهُ الْعَظِيـمُ

وَهَذِهِ رُؤْيَةُ الْمَثَلِ الْأَعْلَى، كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمَعْرِفَةِ‏:‏ أَنْ يَبْدُوَ لَكَ الشَّاهِدُ، وَتَفْنَى الشَّوَاهِدُ، وَتَنْحَلَّ الْعَلَائِقُ، وَتَنْقَطِعَ الْعَوَائِقُ، وَتَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَتَقُومَ وَتَضْطَجِعَ عَلَى التَّأَهُّبِ لِلِقَائِهِ، كَمَا يَجْلِسُ الَّذِي شَدَّ أَحْمَالَهُ وَأَزْمَعَ السَّفَرَ عَلَى التَّأَهُّبِ لَهُ، وَيَقُومُ عَلَى ذَلِكَ وَيَضْطَجِعُ عَلَيْهِ، كَمَا يَنْزِلُ الْمُسَافِرُ فِي الْمَنْزِلِ، فَهُوَ قَائِمٌ وَجَالِسٌ وَمُضْطَجِعٌ عَلَى التَّأَهُّبِ‏.‏

وَقِيلَ لِلْجُنَيْدِ‏:‏ إِنَّ أَقْوَامًا يَدَّعُونَ الْمَعْرِفَةَ، يَقُولُونَ‏:‏ إِنَّهُمْ يَصِلُونَ بِتَرْكِ الْحَرَكَاتِ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى‏؟‏ فَقَالَ الْجُنَيْدُ‏:‏ هَذَا قَوْلُ أَقْوَامٍ تَكَلَّمُوا بِإِسْقَاطِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ عِنْدِي عَظِيمٌ، وَالَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الَّذِي يَقُولُ هَذَا، إِنَّ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ أَخَذُوا الْأَعْمَالَ عَنِ اللَّهِ، وَإِلَى اللَّهِ رَجَعُوا فِيهَا، وَلَوْ بَقِيتُ أَلْفَ عَامٍ لَمْ أَنْقُصْ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ذَرَّةً إِلَّا أَنْ يُحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا‏.‏

وَمِنْ عَلَامَاتِ الْعَارِفِ‏:‏ أَنَّهُ لَا يُطَالِبُ وَلَا يُخَاصِمُ، وَلَا يُعَاتِبُ، وَلَا يَرَى لَهُ عَلَى أَحَدٍ فَضْلًا، وَلَا يَرَى لَهُ عَلَى أَحَدٍ حَقًّا‏.‏

وَمِنْ عَلَامَاتِهِ‏:‏ أَنَّهُ لَا يَأْسَفُ عَلَى فَائِتٍ، وَلَا يَفْرَحُ لِآتٍ؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْأَشْيَاءِ بِعَيْنِ الْفَنَاءِ وَالزَّوَالِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ كَالظِّلَالِ وَالْخَيَالِ‏.‏

وَقَالَ الْجُنَيْدُ‏:‏ لَا يَكُونُ الْعَارِفُ عَارِفًا حَتَّى يَكُونَ كَالْأَرْضِ يَطَؤُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَكَالسَّحَابِ يُظِلُّ كُلَّ شَيْءٍ، وَكَالْمَطَرِ يَسْقِي مَا يُحِبُّ وَمَا لَا يُحِبُّ‏.‏، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ‏:‏ يَخْرُجُ الْعَارِفُ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَقْضِ وَطَرَهُ مِنْ شَيْئَيْنِ‏:‏ بُكَاءٍ عَلَى نَفْسِهِ، وَثَنَاءٍ عَلَى رَبِّهِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ وَعُيُوبِهِ وَآفَاتِهِ، وَعَلَى مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ وَكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، فَهُوَ شَدِيدُ الْإِزْرَاءِ عَلَى نَفْسِهِ، لَهِجٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ‏:‏ إِنَّمَا نَالُوا الْمَعْرِفَةَ بِتَضْيِيعِ مَا لَهُمْ وَالْوُقُوفِ مَعَ مَا لَهُ‏.‏

يُرِيدُ تَضْيِيعَ حُظُوظِهِمْ، وَالْوُقُوفَ مَعَ حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَتُغْنِيهِمْ حُقُوقُهُ عَنْ حُظُوظِهِمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُ‏:‏ لَا يَكُونُ الْعَارِفُ عَارِفًا حَتَّى لَوْ أُعْطِيَ مُلْكَ سُلَيْمَانَ لَمْ يَشْغَلْهُ عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ، فَإِنَّ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ يَشْغَلُ الْقَلْبَ، لَكِنْ يَكُونُ اشْتِغَالُهُ بِغَيْرِ اللَّهِ لِلَّهِ، فَذَلِكَ اشْتِغَالٌ بِهِ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِغَيْرِهِ لِأَجْلِهِ لَمْ يَشْتَغِلْ عَنْهُ‏.‏

قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ‏:‏ الْمَعْرِفَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ‏:‏ الْهَيْبَةُ وَالْحَيَاءُ وَالْأُنْسُ‏.‏

وَقِيلَ لِذِي النُّونِ‏:‏ بِمَ عَرَفْتَ اللَّهَ رَبَّكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ عَرَفْتُ رَبِّي بِرَبِّي، وَلَوْلَا رَبِّي لَمَا عَرَفْتُ رَبِّي‏.‏

وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ‏:‏ بِمَاذَا نَعْرِفُ رَبَّنَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَأَتَى عَبْدُ اللَّهِ بِأَصْلِ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ مَعْرِفَةٌ وَلَا إِقْرَارٌ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ الْمُبَايَنَةُ وَالْعُلُوُّ عَلَى الْعَرْشِ‏.‏

وَمِنْ عَلَامَاتِ الْعَارِفِ‏:‏ أَنْ يَعْتَزِلَ الْخَلْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ لَا يَمْلِكُونَ لَهُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، وَيَعْتَزِلُ نَفْسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُمْ بِلَا نَفْسٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ الْعَارِفُ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ بِخُطْوَتَيْنِ‏:‏ خُطْوَةٌ عَنْ نَفْسِهِ، وَخُطْوَةٌ عَنِ الْخَلْقِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْعَارِفُ ابْنُ وَقْتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَخْصَرِهِ، فَهُوَ مَشْغُولٌ بِوَظِيفَةِ وَقْتِهِ عَمَّا مَضَى، وَصَارَ فِي الْعَدَمِ، وَعَمَّا لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ فِي الْوُجُودِ، فَهَمُّهُ عِمَارَةُ وَقْتِهِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ الْبَاقِيَةِ‏.‏

وَمِنْ عَلَامَاتِهِ‏:‏ أَنَّهُ مُسْتَأْنِسٌ بِرَبِّهِ، مُسْتَوْحِشٌ مِمَّنْ يَقْطَعُهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا قِيلَ‏:‏ الْعَارِفُ مَنْ أَنِسَ بِاللَّهِ، فَأَوْحَشَهُ مِنَ الْخَلْقِ، وَافْتَقَرَ إِلَى اللَّهِ فَأَغْنَاهُ عَنْهُمْ، وَذَلَّ لِلَّهِ فَأَعَزَّهُ فِيهِمْ، وَتَوَاضَعَ لِلَّهِ فَرَفَعَهُ بَيْنَهُمْ، وَاسْتَغْنَى بِاللَّهِ فَأَحْوَجَهُمْ إِلَيْهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْعَارِفُ فَوْقَ مَا يَقُولُ، وَالْعَالِمُ دُونَ مَا يَقُولُ، يَعْنِي أَنَّ الْعَالِمَ عِلْمُهُ أَوْسَعُ مِنْ حَالِهِ وَصِفَتِهِ، وَالْعَارِفُ حَالُهُ وَصِفَتُهُ فَوْقَ كَلَامِهِ وَخَبَرِهِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْتَحُ لِلْعَارِفِ عَلَى فِرَاشِهِ مَا لَمْ يَفْتَحْ لَهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ الْعَارِفُ تَنْطِقُ الْمَعْرِفَةُ عَلَى قَلْبِهِ وَحَالِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ‏.‏

وَقَالَ ذُو النُّونِ‏:‏ لِكُلِّ شَيْءٍ عُقُوبَةٌ‏.‏ وَعُقُوبَةُ الْعَارِفِ انْقِطَاعُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ رِيَاءُ الْعَارِفِينَ أَفْضَلُ مِنْ إِخْلَاصِ الْمُرِيدِينَ، وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرُهُ مُنْكَرٌ جِدًّا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ، فَالْعَارِفُ لَا يُرَائِي الْمَخْلُوقَ طَلَبًا لِلْمَنْزِلَةِ فِي قَلْبِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ رِيَاؤُهُ نَصِيحَةً وَإِرْشَادًا وَتَعْلِيمًا لِيُقْتَدَى بِهِ، فَهُوَ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِعَمَلِهِ كَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ، فَهُوَ يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ وَيَنْفَعُ بِهِ غَيْرَهُ، وَإِخْلَاصُ الْمُرِيدِ مَقْصُورٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَالْعَارِفُ جَمَعَ بَيْنَ الْإِخْلَاصِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، فَإِخْلَاصُهُ فِي قَلْبِهِ، وَهُوَ يُظْهِرُ عَمَلَهُ وَحَالَهُ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَالْعَارِفُ يَنْفَعُ بِسُكُوتِهِ، وَالْعَالِمُ إِنَّمَا يَنْفَعُ بِكَلَامِهِ‏.‏

وَلَوْ سَكَتُوا أَثْنَتْ عَلَيْكَ الْحَقَائِقُ

وَقَالَ ذُو النُّونِ‏:‏ الزُّهَّادُ مُلُوكُ الْآخِرَةِ، وَهُمْ فُقَرَاءُ الْعَارِفِينَ‏.‏ وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنِ الْعَارِفِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَوْنُ الْمَاءِ لَوْنُ إِنَائِهِ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ رَمَزَ بِهَا إِلَى حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَتَلَوَّنَ بِتَلَوُّنِ أَقْسَامِ الْعُبُودِيَّةِ، فَبَيْنَمَا تَرَاهُ مُصَلِّيًا إِذْ رَأَيْتَهُ ذَاكِرًا، أَوْ قَارِئًا، أَوْ مُعَلِّمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا، أَوْ مُجَاهِدًا، أَوْ حَاجًّا، أَوْ مُسَاعِدًا لِلضَّيْفِ، أَوْ مُغِيثًا لِلْمَلْهُوفِ، فَيَضْرِبُ فِي كُلِّ غَنِيمَةٍ مِنَ الْغَنَائِمِ بِسَهْمٍ، فَهُوَ مَعَ الْمُتَسَبِّبِينَ مُتَسَبِّبٌ، وَمَعَ الْمُتَعَلِّمِينَ مُتَعَلِّمٌ، وَمَعَ الْغُزَاةِ غَازٍ، وَمَعَ الْمُصَلِّينَ مُصَلٍّ، وَمَعَ الْمُتَصَدِّقِينَ مُتَصَدِّقٌ، فَهُوَ يَتَنَقَّلُ فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ عُبُودِيَّةٍ إِلَى عُبُودِيَّةٍ، وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعْبُودٍ وَاحِدٍ، لَا يَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِهِ‏.‏

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ‏:‏ الْعَارِفُ كَائِنٌ بَائِنٌ، وَهَذَا يُفَسَّرُ عَلَى وُجُوهٍ‏.‏

مِنْهَا‏:‏ أَنَّهُ كَائِنٌ مَعَ الْخَلْقِ بِظَاهِرِهِ، بَائِنٌ عَنْهُمْ بِسِرِّهِ وَقَلْبِهِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّهُ كَائِنٌ بِرَبِّهِ بَائِنٌ عَنْ نَفْسِهِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّهُ كَائِنٌ مَعَ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، بَائِنٌ عَنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّهُ كَائِنٌ مَعَ اللَّهِ بِمُوَافَقَتِهِ، بَائِنٌ عَنِ النَّاسِ فِي مُخَالَفَتِهِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْأَشْيَاءِ خَارِجٌ مِنْهَا، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْهَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الدُّخُولِ فِيهَا، وَالْعَارِفُ دَاخِلٌ فِيهَا خَارِجٌ مِنْهَا، وَلَعَلَّ هَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ‏.‏

وَقَالَ ذُو النُّونِ‏:‏ عَلَامَةُ الْعَارِفِ ثَلَاثَةٌ‏:‏ لَا يُطْفِئُ نُورُ مَعْرِفَتِهِ نُورَ وَرَعِهِ، وَلَا يَعْتَقِدُ بَاطِنًا مِنَ الْعِلْمِ يَنْقُضُهُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ مِنَ الْحُكْمِ، وَلَا تَحْمِلُهُ كَثْرَةُ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى هَتْكِ أَسْتَارِ مَحَارِمِ اللَّهِ‏.‏

وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ الَّذِي قِيلَ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى شَرْحٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَرَى أَنَّ التَّوَرُّعَ عَنِ الْأَشْيَاءِ مِنْ قِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ مُتَّسِعَةُ الْأَكْنَافِ، وَاسِعَةُ الْأَرْجَاءِ‏.‏ فَالْعَارِفُ وَاسِعٌ مُوَسَّعٌ، وَالسِّعَةُ تُطْفِئُ نُورَ الْوَرَعِ، فَالْعَارِفُ لَا تَنْقُصُ

مَعْرِفَتُهُ وَرَعَهُ، وَلَا يُخَالِفُ وَرَعُهُ مَعْرِفَتَهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمُ‏:‏ الْعَارِفُ لَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا؛ لِاسْتِبْصَارِهِ بِسِرِّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ، فَعِنْدَهُ‏:‏ أَنْ مُشَاهَدَةَ الْقَدَرِ وَالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ‏:‏ هُوَ غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ، وَإِذَا شَاهَدَ الْحَقِيقَةَ عَذَرَ الْخَلِيقَةَ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْسُورُونَ فِي قَبْضَةِ الْقَدَرِ، فَمَنْ يَعْذُرُ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ وَالْجَرَائِمِ، بَلْ أَرْبَابَ الْكُفْرِ فَهُوَ أَبْعَدُ خَلْقِ اللَّهِ عَنِ الْوَرَعِ، بَلْ لِظَلَامِ مَعْرِفَتِهِ قَدْ أَطْفَأَ نُورَ إِيمَانِهِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ بَاطِنُ الْعِلْمِ الَّذِي يَنْقُضُهُ ظَاهِرُ الْحُكْمِ ‏"‏ فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِهِ إِلَى مَا عَلَيْهِ الْمُنْحَرِفُونَ، مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى السُّلُوكِ، فَإِنَّهُمْ يَقَعُ لَهُمْ أَذْوَاقٌ وَمَوَاجِيدُ، وَوَارِدَاتٌ تُخَالِفُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ، وَتَكُونُ تِلْكَ مَعْلُومَةً لَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ جَحْدُهَا، فَيَعْتَقِدُونَهَا وَيَتْرُكُونَ بِهَا ظَاهِرَ الْحُكْمِ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَهُوَ الَّذِي انْتَقَدَ أَئِمَّةَ الطَّرِيقِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَصَاحُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَبَدَّعُوهُمْ وَضَلَّلُوهُمْ بِهِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَلَا تَحْمِلُهُ كَثْرَةُ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى هَتْكِ أَسْتَارِ مَحَارِمِ اللَّهِ ‏"‏ كَثْرَةُ النِّعَمِ تُطْغِي الْعَبْدَ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَصْرِفَهَا فِي وُجُوهِهَا وَغَيْرِ وُجُوهِهَا، وَهِيَ تَدْعُو إِلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ الْعَبْدُ بِهَا مَا حَلَّ وَمَا لَا يَحِلُّ، وَأَكْثَرُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ لَا يَقْتَصِرُونَ فِي صَرْفِ النِّعْمَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْحَلَالِ، بَلْ يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَتُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّ مَعْرِفَتَهُ بِاللَّهِ تَرُدُّ عَلَيْهِ مَا انْتَهَبَتْهُ مِنْهُمْ أَيْدِي الشَّهَوَاتِ وَالْمُخَالَفَاتِ، وَيَقُولُ‏:‏ الْعَارِفُ لَا تَضُرُّهُ الذُّنُوبُ، كَمَا تَضُرُّ الْجَاهِلَ، وَرُبَّمَا يُسَوَّلُ لَهُ أَنَّ ذُنُوبَهُ خَيْرٌ مِنْ طَاعَاتِ الْجُهَّالِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَكْرِ، وَالْأَمْرُ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ مِنَ الْجَاهِلِ مَا لَا يُحْتَمَلُ مِنَ الْعَارِفِ وَإِذَا عُوقِبَ الْجَاهِلُ ضِعْفًا عُوقِبَ الْعَارِفُ ضِعْفَيْنِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا شَرْعُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ، وَلِهَذَا كَانَتْ عُقُوبَةُ الْحُرِّ فِي الْحُدُودِ مِثْلَيْ عُقُوبَةِ الْعَبْدِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم‏:‏ ‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ‏}‏ فَإِذَا أُكْمِلَتِ النِّعْمَةُ عَلَى الْعَبْدِ، فَقَابَلَهَا بِالْإِسَاءَةِ وَالْعِصْيَانِ‏:‏ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ أَعْظَمَ، فَدَرَجَتُهُ أَعْلَى وَعُقُوبَتُهُ أَشَدُّ‏.‏

وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ لَيْسَ بِعَارِفٍ مَنْ وَصَفَ الْمَعْرِفَةِ عِنْدَ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، فَكَيْفَ عِنْدَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا‏؟‏ يُرِيدُ‏:‏ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَصْفُ الْمَعْرِفَةِ لِغَيْرِ أَهْلِهَا، سَوَاءٌ كَانُوا عُبَّادًا، أَوْ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا‏.‏

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ‏:‏ الْمَعْرِفَةُ تَأْتِي مِنْ عَيْنِ الْوُجُودِ، وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ، وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ ثَمَرَةُ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي الْأَعْمَالِ، وَتَحَقُّقِ الْوَجْدِ فِي الْأَحْوَالِ؛ فَهِيَ ثَمَرَةُ عَمَلِ الْجَوَارِحِ، وَحَالُ الْقَلْبِ لَا يُنَالُ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ، فَمَنْ لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ وَلَا حَالٌ فَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ‏.‏

وَسُئِلَ ذُو النُّونِ عَنِ الْعَارِفِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ كَانَ هَاهُنَا فَذَهَبَ‏.‏

فَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَمَّا أَرَادَ بِكَلَامِهِ هَذَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَا يَحْصُرُهُ حَالٌ عَنْ حَالٍ، وَلَا يَحْجُبُهُ مَنْزِلٌ عَنِ التَّنَقُّلِ فِي الْمَنَازِلِ، فَهُوَ مَعَ كُلِّ أَهْلِ مَنْزِلٍ بِمِثْلِ الَّذِي هُمْ فِيهِ، يَجِدُ مِثْلَ الَّذِي يَجِدُونَ، وَيَنْطِقُ بِمَعَالِمِهَا لِيَنْتَفِعُوا‏.‏

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ‏:‏ الْمَعْرِفَةُ حَيَاةُ الْقَلْبِ مَعَ اللَّهِ‏.‏

وَسُئِلَ أَبُو سَعِيدٍ‏:‏ هَلْ يَصِلُ الْعَارِفُ إِلَى حَالٍ يَجْفُو عَلَيْهِ الْبُكَاءُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ نَعَمْ، إِنَّمَا الْبُكَاءُ فِي أَوْقَاتِ سَيْرِهِمْ إِلَى اللَّهِ، فَإِذَا نَزَلُوا بِحَقَائِقِ الْقُرْبِ، وَذَاقُوا طَعْمَ الْوُصُولِ مِنْ بِرِّهِ؛ زَالَ عَنْهُمْ ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ نَوْمُ الْعَارِفِ يَقَظَةٌ، وَأَنْفَاسُهُ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُ الْعَارِفِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَافِلِ‏.‏

وَإِنَّمَا كَانَ نَوْمُ الْعَارِفِ يَقَظَةً؛ لِأَنَّ قَلْبَهُ حَيٌّ؛ فَعَيْنَاهُ تَنَامَانِ، وَرُوحُهُ سَاجِدَةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهَا وَفَاطِرِهَا، جَسَدُهُ فِي الْفَرْشِ، وَقَلَبُهُ حَوْلَ الْعَرْشِ، وَإِنَّمَا كَانَ نَوْمُهُ أَفْضَلَ مِنْ صَلَاةِ الْغَافِلِ؛ لِأَنَّ بَدَنَ الْغَافِلِ وَاقِفٌ فِي الصَّلَاةِ، وَقَلْبَهُ يُسَبِّحُ فِي حُشُوشِ الدُّنْيَا وَالْأَمَانِيِّ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ يَقَظَتُهُ نَوْمًا؛ لِأَنَّ قَلْبَهُ مَوَاتٌ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مُجَالَسَةُ الْعَارِفِ تَدْعُوكَ مِنْ سِتٍّ إِلَى سِتٍّ‏:‏ مِنَ الشَّكِّ إِلَى الْيَقِينِ، وَمِنَ الرِّيَاءِ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَمِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ، وَمِنَ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا إِلَى الرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَمِنَ الْكِبْرِ إِلَى التَّوَاضُعِ، وَمِنْ سُوءِ الطَّوِيَّةِ إِلَى النَّصِيحَةِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏دَرَجَاتُ الْمَعْرِفَةِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ مَعْرِفَةُ الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتِ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏ الْمَعْرِفَةُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الْمَعْرِفَةِ، وَالْخَلْقُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ‏:‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ مَعْرِفَةُ الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَسَامِيهَا بِالرِّسَالَةِ، وَظَهَرَتْ شَوَاهِدُهَا فِي الصَّنْعَةِ‏:‏ بِتَبَصُّرِ النُّورِ الْقَائِمِ فِي السِّرِّ، وَطِيبِ حَيَاةِ الْعَقْلِ لِزَرْعِ الْفِكْرِ، وَحَيَاةُ الْقَلْبِ‏:‏ بِحُسْنِ النَّظَرِ بَيْنَ التَّعْظِيمِ، وَحُسْنِ الِاعْتِبَارِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا تَنْعَقِدُ شَرَائِطُ الْيَقِينِ إِلَّا بِهَا، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ‏:‏ إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ بِاسْمِهَا مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ، وَنَفْيُ التَّشْبِيهِ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ، وَالْإِيَاسُ مِنْ إِدْرَاكِ كُنْهِهَا، وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهَا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ الْفَرْقُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالنَّعْتِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ النَّعْتَ يَكُونُ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏ وَقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏.‏ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ‏.‏ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ‏}‏ وَنَظَائِرِ ذَلِكَ‏.‏

وَ ‏"‏ الصِّفَةُ ‏"‏ هِيَ الْأُمُورُ الثَّابِتَةُ اللَّازِمَةُ لِلذَّاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ‏.‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ‏}‏ إِلَى قوله‏:‏ ‏{‏الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ وَنَظَائِرِ ذَلِكَ‏.‏

الْفَرْقُ الثَّانِي‏:‏ أَنَّ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ النُّعُوتِ، كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَالْقَدَمِ، وَالْأَصَابِعِ، وَتُسَمَّى صِفَاتٍ، وَقَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا السَّلَفُ هَذَا الِاسْمَ، وَكَذَلِكَ مُتَكَلِّمُو أَهْلِ الْإِثْبَاتِ، سَمَّوْهَا صِفَاتٍ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ، كَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ‏:‏ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ‏:‏ نُصُوصُ الصِّفَاتِ، بَلْ آيَاتُ الْإِضَافَاتِ؛ لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يُوصَفُ بِيَدِهِ وَلَا وَجْهِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَوْصُوفُ، فَكَيْفَ تُسَمَّى صِفَةً‏؟‏

وَأَيْضًا‏:‏ فَالصِّفَةُ مَعْنًى يَعُمُّ الْمَوْصُوفَ، فَلَا يَكُونُ الْوَجْهُ وَالْيَدُ صِفَةً‏.‏

وَالتَّحْقِيقُ‏:‏ أَنَّ هَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ فِي التَّسْمِيَةِ، فَالْمَقْصُودُ‏:‏ إِطْلَاقُ هَذِهِ الْإِضَافَاتِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَنِسْبَتُهَا إِلَيْهِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِهَا، مُنَزَّهَةً عَنِ التَّمْثِيلِ وَالتَّعْطِيلِ، سَوَاءً سُمِّيَتْ صِفَاتٍ أَوْ لَمْ تُسَمَّ‏.‏

الْفَرْقُ الثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ النُّعُوتَ مَا يَظْهَرُ مِنَ الصِّفَاتِ وَيَشْتَهِرُ، وَيَعْرِفُهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَالصِّفَاتُ‏:‏ أَعَمُّ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّعْتِ وَالصِّفَةِ فَرْقٌ مَا بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي تَحْلِيَةِ الشَّيْءِ‏:‏ نَعْتُهُ كَذَا وَكَذَا، لِمَا يَظْهَرُ مِنْ صِفَاتِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُمَا لُغَتَانِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا يَقُولُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ‏:‏ بَابُ الصِّفَةِ، وَيَقُولُ نُحَاةُ الْكُوفَةِ‏:‏ بَابُ النَّعْتِ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ، وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ، وَنَحْنُ فِي غَيْرِ هَذَا، فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْمَقْصُودِ‏.‏

وَهُوَ‏:‏ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ لِلْعَبْدِ قَدَمٌ فِي الْمَعْرِفَةِ- بَلْ وَلَا فِي الْإِيمَانِ- حَتَّى يُؤْمِنَ بِصِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَيَعْرِفَهَا مَعْرِفَةً تُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْجَهْلِ بِرَبِّهِ، فَالْإِيمَانُ بِالصِّفَاتِ وَتَعَرُّفُهَا‏:‏ هُوَ أَسَاسُ الْإِسْلَامِ، وَقَاعِدَةُ الْإِيمَانِ، وَثَمَرَةُ شَجَرَةِ الْإِحْسَانِ، فَمَنْ جَحَدَ الصِّفَاتِ فَقَدْ هَدَمَ أَسَاسَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَثَمَرَةَ شَجَرَةِ الْإِحْسَانِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنْكِرَ صِفَاتِهِ مُسِيءَ الظَّنِّ بِهِ، وَتَوَعَّدَهُ بِمَا لَمْ يَتَوَعَّدْ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ، فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ‏.‏ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ‏:‏ أَنَّ إِنْكَارَهُمْ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ صِفَاتِهِ‏:‏ مِنْ سُوءِ ظَنِّهِمْ بِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَهْلَكَهُمْ، وَقَدْ قَالَ فِي الظَّانِّينَ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ ‏{‏عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا‏}‏ وَلَمْ يَجِئْ مِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ فِي غَيْرِ مَنْ ظَنَّ السَّوْءَ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَجَحْدُ صِفَاتِهِ وَإِنْكَارُ حَقَائِقِ أَسْمَائِهِ مِنْ أَعْظَمِ ظَنِّ السَّوْءِ بِهِ‏.‏

وَلَمَّا كَانَ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ حَمْدَهُ وَمَدْحَهُ، وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ؛ كَانَ إِنْكَارُهَا وَجَحْدُهَا أَعْظَمَ الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ بِهِ، وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الشِّرْكِ، فَالْمُعَطِّلُ شَرٌّ مِنَ الْمُشْرِكِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوِي جَحْدُ صِفَاتِ الْمَلِكِ وَحَقِيقَةُ مُلْكِهِ وَالطَّعْنُ فِي أَوْصَافِهِ هُوَ، وَالتَّشْرِيكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْمُلْكِ، فَالْمُعَطِّلُونَ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ بِالذَّاتِ، بَلْ كُلُّ شِرْكٍ فِي الْعَالَمِ فَأَصْلُهُ التَّعْطِيلُ، فَإِنَّهُ لَوْلَا تَعْطِيلُ كَمَالِهِ- أَوْ بَعْضِهِ- وَظَنُّ السَّوْءِ بِهِ‏:‏ لَمَا أُشْرِكَ بِهِ، كَمَا قَالَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ وَأَهْلِ التَّوْحِيدِ لِقومه‏:‏ ‏{‏أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ

فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أَيْ فَمَا ظَنُّكُمْ بِهِ أَنْ يُجَازِيَكُمْ، وَقَدْ عَبَدْتُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ‏؟‏ وَمَا الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِهِ حَتَّى جَعَلْتُمْ مَعَهُ شُرَكَاءَ‏؟‏ أَظْنَنْتُمْ‏:‏ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الشُّرَكَاءِ وَالْأَعْوَانِ‏؟‏ أَمْ ظَنَنْتُمْ‏:‏ أَنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ عِبَادِهِ، حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى شُرَكَاءَ تُعَرِّفُهُ بِهَا كَالْمُلُوكِ‏؟‏ أَمْ ظَنَنْتُمْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ وَحْدَهُ عَلَى اسْتِقْلَالِهِ بِتَدْبِيرِهِمْ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، أَمْ هُوَ قَاسٍ؛ فَيَحْتَاجَ إِلَى شُفَعَاءَ يَسْتَعْطِفُونَهُ عَلَى عِبَادِهِ‏؟‏ أَمْ ذَلِيلٌ؛ فَيَحْتَاجَ إِلَى وَلِيٍّ يَتَكَثَّرُ بِهِ مِنَ الْقِلَّةِ، وَيَتَعَزَّزُ بِهِ مِنَ الذِّلَّةِ‏؟‏ أَمْ يَحْتَاجُ إِلَى الْوَلَدِ؛ فَيَتَّخِذَ صَاحِبَةً يَكُونُ الْوَلَدُ مِنْهَا وَمِنْهُ‏؟‏ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا‏.‏

وَالْمَقْصُودُ‏:‏ أَنَّ التَّعْطِيلَ مَبْدَأُ الشِّرْكِ وَأَسَاسُهُ، فَلَا تَجِدُ مُعَطِّلًا إِلَّا وَشِرْكُهُ عَلَى حَسَبِ تَعْطِيلِهِ، فَمُسْتَقِلٌ وَمُسْتَكْثِرٌ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏وَظِيفَةُ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ‏]‏

وَالرُّسُلُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى خَاتَمِهِمْ أُرْسِلُوا بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَبَيَانِ الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَيْهِ، وَبَيَانِ حَالِ الْمَدْعُوِّينَ بَعْدَ وُصُولِهِمْ إِلَيْهِ، فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ الثَّلَاثُ ضَرُورِيَّةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ عَلَى لِسَانِ كُلِّ رَسُولٍ، فَعَرَّفُوا الرَّبَّ الْمَدْعُوَّ إِلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ تَعْرِيفًا مُفَصَّلًا، حَتَّى كَأَنَّ الْعِبَادَ يُشَاهِدُونَهُ سُبْحَانَهُ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، يُكَلِّمُ مَلَائِكَتَهُ، وَيُدَبِّرُ أَمْرَ مَمْلَكَتِهِ، وَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ خَلْقِهِ، وَيَرَى أَفْعَالَهُمْ وَحَرَكَاتِهِمْ، وَيُشَاهِدُ بَوَاطِنَهُمْ، كَمَا يُشَاهِدُ ظَوَاهِرَهُمْ، يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَيَرْضَى وَيَغْضَبُ، وَيُحِبُّ وَيَسْخَطُ، وَيَضْحَكُ مِنْ قُنُوطِهِمْ وَقُرْبِ غَيْرِهِ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ مُضْطَرِّهِمْ، وَيُغِيثُ مَلْهُوفَهُمْ، وَيُعِينُ مُحْتَاجَهُمْ، وَيُجْبِرُ كَسَيْرَهُمْ، وَيُغْنِي فَقِيرَهُمْ، وَيُمِيتُ وَيُحْيِي، وَيَمْنَعُ وَيُعْطِي، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، مَالِكُ الْمُلْكِ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، يَغْفِرُ ذَنْبًا، وَيُفْرِّجُ كَرْبًا، وَيَفُكُّ عَانِيًا، وَيَنْصُرُ مَظْلُومًا، وَيَقْصِمُ ظَالِمًا، وَيَرْحَمُ مِسْكِينًا، وَيُغِيثُ مَلْهُوفًا، وَيَسُوقُ الْأَقْدَارَ إِلَى مَوَاقِيتِهَا، وَيُجْرِيهَا عَلَى نِظَامِهَا، وَيُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ تَقْدِيمَهُ، وَيُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ تَأْخِيرَهُ فَأَزِمَّةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا بِيَدِهِ، وَمَدَارُ تَدْبِيرِ الْمَمَالِكِ كُلِّهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا مَقْصُودُ الدَّعْوَةِ، وَزُبْدَةُ الرِّسَالَةِ‏.‏

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ تَعْرِيفُهُمْ بِالطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَيْهِ، وَهُوَ صِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ، الَّذِي نَصَبَهُ لِرُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَهُوَ امْتِثَالُ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ، وَالْإِيمَانُ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ‏.‏

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ تَعْرِيفُ الْحَالِ بَعْدَ الْوُصُولِ، وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ الْيَوْمُ الْآخِرُ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الْحِسَابِ، وَالْحَوْضِ وَالْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ‏.‏

فَقَعَّدَتِ الْمُعَطِّلَةُ السَّبَبُ فِي تَسْمِيَتِهِمْ بِذَلِكَ وَالْجَهْمِيَّةُ السَّبَبُ فِي تَسْمِيَتِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى رَأْسِ الْقَاعِدَةِ الْأُولَى، فَحَالُوا بَيْنَ الْقُلُوبِ وَبَيْنَ مَعْرِفَةِ رَبِّهَا، وَسَمَّوْا إِثْبَاتَ صِفَاتِهِ، وَعُلُوَّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ‏:‏ تَشْبِيهًا وَتَجْسِيمًا وَحَشْوًا، فَنَفَّرُوا عَنْهُ صِبْيَانَ الْعُقُولِ، وَسَمَّوْا نُزُولَهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَتَكَلُّمَهُ بِمَشِيئَتِهِ، وَرِضَاهُ بَعْدَ غَضَبِهِ، وَغَضَبَهُ بَعْدَ رِضَاهُ، وَسَمْعَهُ الْحَاضِرَ لِأَصْوَاتِ الْعِبَادِ، وَرُؤْيَتَهُ الْمُقَارِنَةَ لِأَفْعَالِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ‏:‏ حَوَادِثَ، وَسَمَّوْا وَجْهَهُ الْأَعْلَى، وَيَدَيْهِ الْمَبْسُوطَتَيْنِ، وَأَصَابِعَهُ الَّتِي يَضَعُ عَلَيْهَا الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏:‏ جَوَارِحَ وَأَعْضَاءً، مَكْرًا مِنْهُمْ كُبَّارًا بِالنَّاسِ، كَمَنْ يُرِيدُ التَّنْفِيرَ عَنِ الْعَسَلِ، فَيَمْكُرُ فِي الْعِبَارَةِ، وَيَقُولُ‏:‏ مَائِعٌ أَصْفَرُ يُشْبِهُ الْعُذْرَةَ الْمَائِعَةَ، أَوْ يُنَفِّرُ عَنْ شَيْءٍ مُسْتَحْسَنٍ فَيُسَمِّيَهُ بِأَقْبَحِ الْأَسْمَاءِ، فِعْلَ الْمَاكِرِ الْمُخَادِعِ، فَلَيْسَ مَعَ مُخَالِفِ الرُّسُلِ سِوَى الْمَكْرِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ‏.‏

فَلَمَّا تَمَّ لِلْمُعَطِّلَةِ مَكْرُهُمْ، وَسَلَكَ فِي الْقُلُوبِ الْمُظْلِمَةِ الْجَاهِلَةِ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ، وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّهِ، وَعَنْ ذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِأَوْصَافِ كَمَالِهِ، وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، فَانْصَرَفَتْ قُوَى حُبِّهَا وَشَوْقِهَا وَأُنْسِهَا إِلَى سِوَاهُ‏.‏

وَجَاءَ أَهْلُ الْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ، وَالسِّيَاسَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَالْأَذْوَاقِ الْمُنْحَرِفَةِ، وَالْعَوَائِدِ الْمُسْتَمِرَّةِ‏:‏ فَقَعَدُوا عَلَى رَأْسِ هَذَا الصِّرَاطِ، وَحَالُوا بَيْنَ الْقُلُوبِ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى نَبِيِّهَا، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَعَابُوا مَنْ خَالَفَهُمْ فِي قُعُودِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَرَغِبَ عَمَّا اخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَرَمَوْهُ بِمَا هُمْ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ، كَمَا قِيلَ‏:‏ رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ‏.‏

وَجَاءَ أَصْحَابُ الشَّهَوَاتِ الْمَفْتُونُونَ بِهَا، الَّذِينَ يَعُدُّونَ حُصُولَهَا- كَيْفَ كَانَ- هُوَ الظَّفَرُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَالْبُغْيَةُ، فَقَعَدُوا عَلَى رَأْسِ طَرِيقِ الْمَعَادِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْجَنَّةِ وَلِقَاءِ اللَّهِ، وَقَالُوا‏:‏ الْيَوْمَ خَمْرٌ، وَغَدًا أَمْرٌ، الْيَوْمَ لَكَ، وَلَا تَدْرِي‏:‏ غَدًا لَكَ، أَوْ عَلَيْكَ‏؟‏ وَقَالُوا‏:‏ لَا نَبِيعُ ذَرَّةً مَنْقُودَةً، بِدُرَّةٍ مَوْعُودَةٍ‏.‏

خُذْ مَا تَرَاهُ وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ *** فِي طَلْعَةِ الشَّمْسِ مَا يُغْنِيكَ عَنْ زُحَلِ

وَقَالُوا لِلنَّاسِ‏:‏ خَلُّوا لَنَا الدُّنْيَا، وَنَحْنُ قَدْ خَلَّيْنَا لَكُمُ الْآخِرَةَ، فَإِنْ طَلَبْتُمْ مِنَّا مَا بِأَيْدِينَا أَحَلْنَاكُمْ عَلَى الْآخِرَةِ‏.‏

أُنَاسٌ يَنْقُدُونَ عَيْشَ النَّعِيـمِ *** وَنَحْنُ نُحَالُ عَلَى الْآخِــرَهْ

فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِثْلَمَا يَزْعُمُــو *** نَ فَتِلْكَ إِذًا كَرَةٌ خَاسِـرَهْ

فَالْإِيمَانُ بِالصِّفَاتِ وَمَعْرِفَتُهَا، هُوَ مَبْدَأُ الطَّرِيقِ وَوَسَطُهُ وَغَايَتُهُ وَهُوَ رُوحُ السَّالِكِينَ وَإِثْبَاتُ حَقَائِقِهَا، وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِهَا، وَشُهُودُهُ لَهَا‏:‏ هُوَ مَبْدَأُ الطَّرِيقِ وَوَسَطُهُ وَغَايَتُهُ، وَهُوَ رُوحُ السَّالِكِينَ، وَحَادِيهِمْ إِلَى الْوُصُولِ، وَمُحَرِّكُ عَزَمَاتِهِمْ إِذَا فَتَرُوا، وَمُثِيرُ هِمَمِهِمْ إِذَا قَصَرُوا، فَإِنَّ سَيْرَهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الشَّوَاهِدِ، فَمَنْ كَانَ لَا شَاهِدَ لَهُ فَلَا سَيْرَ لَهُ، وَلَا طَلَبَ وَلَا سُلُوكَ لَهُ، وَأَعْظَمُ الشَّوَاهِدِ‏:‏ صِفَاتُ مَحْبُوبِهِمْ، وَنِهَايَةُ مَطْلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْعَلَمُ الَّذِي رُفِعَ لَهُمْ فِي السَّيْرِ فَشَمَّرُوا إِلَيْهِ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا‏:‏ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ رَآهُ غَادِيًا رَائِحًا، لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلَكِنْ رُفِعَ لَهُ عَلَمٌ فَشَمَّرَ إِلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي التَّوَانِي وَالْفُتُورِ وَالْكَسَلِ، حَتَّى يَرْفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ- بِفَضْلِهِ وَمَنِّهِ- عَلَمًا يُشَاهِدُهُ بِقَلْبِهِ، فَيُشَمِّرُ إِلَيْهِ، وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ‏.‏

فَإِنْ عُطِّلَتْ شَوَاهِدُ الصِّفَاتِ، وَوُضِعَتْ أَعْلَامُهَا عَنِ الْقُلُوبِ، وَطُمِسَتْ آثَارُهَا، وَضُرِبَتْ بِسِيَاطِ الْبُعْدِ، وَأُسْبِلَ دُونَهَا حِجَابُ الطَّرْدِ، وَتَخَلَّفَتْ مَعَ الْمُتَخَلِّفِينَ، وَأَوْحَى إِلَيْهَا الْقَدَرُ‏:‏ أَنِ اقْعُدِي مَعَ الْقَاعِدِينَ، فَإِنَّ أَوْصَافَ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ، وَنُعُوتَ كَمَالِهِ، وَحَقَائِقَ أَسْمَائِهِ‏:‏ هِيَ الْجَاذِبَةُ لِلْقُلُوبِ إِلَى مَحَبَّتِهِ، وَطَلَبِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ إِنَّمَا تُحِبُّ مَنْ تَعْرِفُهُ، وَتَخَافُهُ وَتَرْجُوهُ وَتَشْتَاقُ إِلَيْهِ، وَتَلْتَذُّ بِقُرْبِهِ، وَتَطْمَئِنُّ إِلَى ذِكْرِهِ، بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهَا بِصِفَاتِهِ، فَإِذَا ضُرِبَ دُونَهَا حِجَابُ مَعْرِفَةِ الصِّفَاتِ وَالْإِقْرَارِ بِهَا‏:‏ امْتَنَعَ مِنْهَا- بَعْدَ ذَلِكَ- مَا هُوَ مَشْرُوطٌ بِالْمَعْرِفَةِ، وَمَلْزُومٌ لَهَا، إِذْ وُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ، وَالْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ، مُمْتَنِعٌ‏.‏

فَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ، وَالْإِنَابَةِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَمَقَامِ الْإِحْسَانِ مُمْتَنِعٌ عَلَى الْمُعَطِّلِ امْتِنَاعَ حُصُولِ الْمَغَلِ مِنْ مُعَطِّلِ الْبَذْرِ، بَلْ أَعْظَمُ امْتِنَاعًا‏.‏

كَيْفَ تَصْمُدُ الْقُلُوبُ إِلَى مَنْ لَيْسَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَلَا مُتَّصِلًا بِهِ وَلَا مُنْفَصِلًا عَنْهُ، وَلَا مُبَايِنًا لَهُ وَلَا مُحَايِثًا‏؟‏ بَلْ حَظُّ الْعَرْشِ مِنْهُ كَحَظِّ الْآبَارِ وَالْوِهَادِ، وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا‏؟‏ وَكَيْفَ تَأْلَهُ الْقُلُوبُ مَنْ لَا يَسْمَعُ كَلَامَهَا، وَلَا يَرَى مَكَانَهَا، وَلَا يُحِبُّ وَلَا يُحَبُّ، وَلَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ الْبَتَّةَ، وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يُكَلَّمُ، وَلَا يُقَرَّبُ مِنْ شَيْءٍ وَلَا يُقَرَّبُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَقُومُ بِهِ رَأْفَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا حَنَانٌ، وَلَا لَهُ حِكْمَةٌ وَلَا غَايَةٌ يَفْعَلُ وَيَأْمُرُ لِأَجْلِهَا‏؟‏‏.‏

فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَحَبَّتُهُ وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، وَرُؤْيَةِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ‏؟‏ أَمْ كَيْفَ تَأْلَهُ الْقُلُوبُ مَنْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُحَبُّ، وَلَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ، وَلَا يَفْرَحُ وَلَا يَضْحَكُ‏؟‏

فَسُبْحَانَ مَنْ حَالَ بَيْنَ الْمُعَطِّلَةِ وَبَيْنَ مَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالسُّرُورِ وَالْفَرَحِ بِهِ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، وَانْتِظَارِ لَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَالتَّمَتُّعِ بِخِطَابِهِ فِي مَحَلِّ كَرَامَتِهِ وَدَارِ ثَوَابِهِ‏!‏ فَلَوْ رَآهَا أَهْلًا لِذَلِكَ لَمَنَّ عَلَيْهَا بِهِ، وَأَكْرَمَهَا بِهِ، إِذْ ذَاكَ أَعْظَمُ كَرَامَةٍ يُكْرِمُ بِهَا عَبْدَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ كَرَامَتَهُ، وَيَضَعُ نِعْمَتَهُ ‏{‏وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ‏}‏، ‏{‏وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏، ‏{‏أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ وَلَيْسَ جُحُودُهُمْ صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَحَقَائِقَ أَسْمَائِهِ‏:‏ فِي الْحَقِيقَةِ تَنْزِيهًا، وَإِنَّمَا هُوَ حِجَابٌ ضُرِبَ عَلَيْهِمْ، فَظَنُّوهُ تَنْزِيهًا، كَمَا ضُرِبَ حِجَابُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ وَالشَّهَوَاتِ الْمُرْدِيَةِ عَلَى قُلُوبِ أَصْحَابِهَا، وَزُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ، فَرَأَوْهَا حَسَنَةً‏.‏

عُدْنَا إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَقَدْ وَرَدَتْ أَسَامِيهَا بِالرِّسَالَةِ‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى آخِرِهِ‏.‏

ذَكَرَ أَنَّ إِثْبَاتَ الصِّفَاتِ طُرُقُ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ دَلَّ عَلَيْهَا الْوَحْيُ الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَالْحِسُّ الَّذِي شَاهَدَ بِهِ الْبَصِيرُ آثَارَ الصَّنْعَةِ؛ فَاسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى صِفَاتِ صَانِعِهَا، وَالْعَقْلُ الَّذِي طَابَتْ حَيَاتُهُ بِزَرْعِ الْفِكْرِ، وَالْقَلْبُ الَّذِي حَيِيَ بِحُسْنِ النَّظَرِ بَيْنَ التَّعْظِيمِ وَالِاعْتِبَارِ‏.‏

فَأَمَّا الرِّسَالَةُ‏:‏ فَإِنَّهَا جَاءَتْ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ إِثْبَاتًا مُفَصَّلًا عَلَى وَجْهٍ أَزَالَ الشُّبْهَةَ، وَكَشَفَ الْغِطَاءِ، وَحَصَلَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ، وَرُفِعَ الشَّكُّ وَالرَّيْبُ؛ فَثَلَجَتْ لَهُ الصُّدُورِ، وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ الْقُلُوبُ، وَاسْتَقَرَّ بِهِ الْإِيمَانُ فِي نِصَابِهِ، فَفَصَّلَتِ الرِّسَالَةُ الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتَ وَالْأَفْعَالَ أَعْظَمَ مِنْ تَفْصِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَقَرَّرَتْ إِثْبَاتَهَا أَكْمَلَ تَقْرِيرٍ فِي أَبْلَغِ لَفْظٍ، وَأَبْعَدِهِ مِنَ الْإِجْمَالِ وَالِاحْتِمَالِ، وَأَمْنَعِهِ مِنْ قَبُولِ التَّأْوِيلِ، وَكَذَلِكَ كَانَ تَأْوِيلُ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا بِمَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلِ آيَاتِ الْمَعَادِ وَأَخْبَارِهِ، بَلْ أَبْعَدُ مِنْهُ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، ذَكَرْتُهَا فِي كِتَابِ ‏"‏ الصَّوَاعِقِ الْمُرْسَلَةِ، عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ ‏"‏ بَلْ تَأْوِيلُ آيَاتِ الصِّفَاتِ- بِمَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا- كَتَأْوِيلِ آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ سَوَاءً، فَالْبَابُ كُلُّهُ بَابٌ وَاحِدٌ، وَمَصْدَرُهُ وَاحِدٌ، وَمَقْصُودُهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ إِثْبَاتُ حَقَائِقِهِ وَالْإِيمَانُ بِهَا‏.‏

وَكَذَلِكَ سَطَا عَلَى تَأْوِيلِ آيَاتِ الْمَعَادِ قَوْمٌ، وَقَالُوا‏:‏ فِعْلُنَا فِيهَا كَفِعْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ، بَلْ نَحْنُ أَعْذَرُ، فَإِنَّ اشْتِمَالَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ وَقِيَامِ الْأَفْعَالِ‏:‏ أَعْظَمُ مِنْ نُصُوصِ الْمَعَادِ لِلْأَبْدَانِ بِكَثِيرٍ، فَإِذَا سَاغَ لَكُمْ تَأْوِيلُهَا، فَكَيْفَ يَحْرُمُ عَلَيْنَا نَحْنُ تَأْوِيلُ آيَاتِ الْمَعَادِ‏؟‏

وَكَذَلِكَ سَطَا قَوْمٌ آخَرُونَ عَلَى تَأْوِيلِ آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَقَالُوا‏:‏ فِعْلُنَا فِيهَا كَفِعْلِ أُولَئِكَ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ، مَعَ كَثْرَتِهَا وَتَنَوُّعِهَا، وَآيَاتُ الْأَحْكَامِ لَا تَبْلُغُ زِيَادَةً عَلَى خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مُعَارِضٌ مِنَ الْعَقْلِيَّاتِ لِنُصُوصِ الصِّفَاتِ، فَعِنْدَنَا مُعَارِضٌ عَقْلِيٌّ لِنُصُوصِ الْمَعَادِ، مِنْ جِنْسِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ‏.‏

وَقَالَ مُتَأَوِّلُو آيَاتِ الْأَحْكَامِ عَلَى خِلَافِ حَقَائِقِهَا وَظَوَاهِرِهَا‏:‏ الَّذِي سَوَّغَ لَنَا هَذَا التَّأْوِيلَ‏:‏ الْقَوَاعِدُ الَّتِي اصْطَلَحْتُمُوهَا لَنَا، وَجَعَلْتُمُوهَا أَصْلًا نَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا طَرَدْنَاهَا كَانَ طَرْدُهَا‏:‏ أَنَّ اللَّهَ مَا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ قَطُّ، وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى وَلَا لَهُ صِفَةٌ تَقُومُ بِهِ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا، وَطَرَدُ هَذَا الْأَصْلِ‏:‏ لُزُومُ تَأْوِيلِ آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّوَاعِقِ أَنَّ تَأْوِيلَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَخْبَارِهَا- بِمَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا- هُوَ أَصْلُ فَسَادِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَزَوَالُ الْمَمَالِكِ، وَتَسْلِيطُ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ؛ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ التَّأْوِيلِ، وَيَعْرِفُ هَذَا مِنْ لَهُ اطِّلَاعٌ وَخِبْرَةٌ بِمَا جَرَى فِي الْعَالَمِ، وَلِهَذَا يُحَرِّمُ عُقَلَاءُ الْفَلَاسِفَةِ التَّأْوِيلَ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ لِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِفَسَادِ الْعَالَمِ، وَتَعْطِيلِ الشَّرَائِعِ‏.‏

وَمَنْ تَأَمَّلَ كَيْفِيَّةَ وُرُودِ آيَاتِ الصِّفَاتِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ‏:‏ عَلِمَ قَطْعًا بُطْلَانَ تَأْوِيلِهَا بِمَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا، فَإِنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُحْتَمَلُ مَعَهُ التَّأْوِيلُ بِوَجْهٍ‏.‏

فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ‏}‏ هَلْ يَحْتَمِلُ هَذَا التَّقْسِيمُ وَالتَّنْوِيعُ‏:‏ تَأْوِيلَ إِتْيَانِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ بِإِتْيَانِ مَلَائِكَتِهِ أَوْ آيَاتِهِ‏؟‏ وَهَلْ يَبْقَى مَعَ هَذَا السِّيَاقِ شُبْهَةٌ أَصْلًا‏:‏ أَنَّهُ إِتْيَانُهُ بِنَفْسِهِ‏؟‏ وَكَذَلِكَ قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ‏}‏- إِلَى أَنْ قَالَ- ‏{‏وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ فَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ الْعَامِّ، وَالتَّكْلِيمِ الْخَاصِّ، وَجَعَلَهُمَا نَوْعَيْنِ، ثُمَّ أَكَّدَ فِعْلَ التَّكْلِيمِ بِالْمَصْدَرِ الرَّافِعِ لِتَوَهُّمِ مَا يَقُولُهُ الْمُحَرِّفُونَ، وَكَذَلِكَ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا‏}‏ فَنَوَّعَ تَكْلِيمَهُ إِلَى تَكْلِيمٍ بِوَاسِطَةٍ، وَتَكْلِيمٍ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي‏}‏ فَفَرَّقَ بَيْنَ الرِّسَالَةِ وَالْكَلَامِ، وَالرِّسَالَةُ إِنَّمَا هِيَ بِكَلَامِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانًا، كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فِي الصَّحْوِ، لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ وَالْكَشْفَ وَالِاحْتِرَازَ‏:‏ يُنَافِي إِرَادَةَ التَّأْوِيلِ قَطْعًا، وَلَا يَرْتَابُ فِي هَذَا مَنْ لَهُ عَقْلٌ وَدِينٌ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَظَهَرَتْ شَوَاهِدُهَا فِي الصَّنْعَةِ ‏"‏‏.‏

هَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي مِنْ طُرُقِ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، وَهُوَ دَلَالَةُ الصَّنْعَةِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ، عَلَى حَيَاتِهِ وَعَلَى قُدْرَتِهِ، وَعَلَى عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ اسْتِلْزَامًا ضَرُورِيًا، وَمَا فِيهِ مِنَ الْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ وَوُقُوعِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ يَدُلُّ عَلَى حِكْمَةِ فَاعِلِهِ وَعِنَايَتِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالنَّفْعِ، وَوُصُولِ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِ يَدُلُّ عَلَى رَحْمَةِ خَالِقِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ آثَارِ الْكَمَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَالِقَهُ أَكْمَلُ مِنْهُ، فَمُعْطِي الْكَمَالِ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ، وَخَالِقُ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ وَالنُّطْقِ‏:‏ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا، وَخَالِقُ الْحَيَاةِ وَالْعُلُومِ، وَالْقُدَرِ وَالْإِرَادَاتِ‏:‏ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، فَمَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّخْصِيصَاتِ‏:‏ هُوَ مِنْ أَدَلِّ شَيْءٍ عَلَى إِرَادَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، الَّتِي اقْتَضَتِ التَّخْصِيصَ‏.‏

وَحُصُولُ الْإِجَابَةِ عُقَيْبَ سُؤَالِ الطَّالِبِ، عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ‏:‏ دَلِيلٌ عَلَى عِلْمِ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْجُزْئِيَاتِ، وَعَلَى سَمْعِهِ لِسُؤَالِ عَبِيدِهِ، وَعَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَعَلَى رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ‏.‏

وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمُطِيعِينَ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِمْ وَالْإِكْرَامُ، وَإِعْلَاءُ دَرَجَاتِهِمْ يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، وَعُقُوبَتُهُ لِلْعُصَاةِ وَالظَّلَمَةِ، وَأَعْدَاءِ رُسُلِهِ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ الْمَشْهُودَةِ‏:‏ تَدُلُّ عَلَى صِفَةِ ‏"‏ الْغَضَبِ وَالسُّخْطِ ‏"‏ وَالْإِبْعَادِ، وَالطَّرْدُ وَالْإِقْصَاءُ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْتِ وَالْبُغْضِ‏.‏

فَهَذِهِ الدَّلَالَاتُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ التَّأَمُّلِ، وَلِهَذَا دَعَا سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ عِبَادَهُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى صِفَاتِهِ، فَهُوَ يُثْبِتُ الْعِلْمَ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِفَاتِ كَمَالِهِ بِآثَارِ صِفَتِهِ الْمَشْهُودَةِ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذَلِكَ‏.‏

فَيَظْهَرُ شَاهِدُ اسْمِ ‏"‏ الْخَالِقِ ‏"‏ مِنْ نَفْسِ الْمَخْلُوقِ، وَشَاهِدُ اسْمِ ‏"‏ الرَّازِقِ ‏"‏ مِنْ وُجُودِ الرِّزْقِ وَالْمَرْزُوقِ، وَشَاهِدُ اسْمِ ‏"‏ الرَّحِيمِ ‏"‏ مِنْ شُهُودِ الرَّحْمَةِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْعَالَمِ، وَاسْمِ ‏"‏ الْمُعْطِي ‏"‏ مِنْ وُجُودِ الْعَطَاءِ الَّذِي هُوَ مِدْرَارٌ لَا يَنْقَطِعُ لَحْظَةً وَاحِدَةً، وَاسْمِ ‏"‏ الْحَلِيمِ ‏"‏ مِنْ حِلْمِهِ عَنِ الْجُنَاةِ وَالْعُصَاةِ وَعَدَمِ مُعَالَجَتِهِمْ، وَاسْمِ ‏"‏ الْغَفُورِ ‏"‏ وَ ‏"‏ التَّوَّابِ ‏"‏ مِنْ مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، وَقَبُولِ التَّوْبَةِ، وَيَظْهَرُ شَاهِدُ اسْمِهِ ‏"‏ الْحَكِيمِ ‏"‏ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَوُجُوهِ الْمَنَافِعِ، وَهَكَذَا كُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى لَهُ شَاهِدٌ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَهُ وَيَجْهَلُهُ مَنْ جَهِلَهُ، فَالْخَلْقُ وَالْأَمْرُ مِنْ أَعْظَمِ شَوَاهِدِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ‏.‏

وَكُلُّ سَلِيمِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ يَعْرِفُ قَدْرَ الصَّانِعِ وَحِذْقِهِ وَتَبْرِيزِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَتَفَرُّدِهِ بِكَمَالٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ مُشَاهَدَةِ صَنْعَتِهِ، فَكَيْفَ لَا تَعْرِفُ صِفَاتِ مَنْ هَذَا الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ وَالسُّفْلِيُّ وَهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ مِنْ بَعْضِ صُنْعِهِ‏؟‏

وَإِذَا اعْتَبَرْتَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمَأْمُورَاتِ، وَجَدْتَهَا بِأَسْرِهَا كُلِّهَا دَالَّةً عَلَى النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ، وَحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَعَلِمْتَ أَنَّ الْمُعَطِّلَةَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عَمًى بِمُكَابَرَةٍ، وَيَكْفِي ظُهُورُ شَاهِدِ الصُّنْعِ فِيكَ خَاصَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ‏}‏ فَالْمَوْجُودَاتُ بِأَسْرِهَا شَوَاهِدُ صِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَنُعُوتِهِ وَأَسْمَائِهِ، فَهِيَ كُلُّهَا تُشِيرُ إِلَى الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَحَقَائِقِهَا، وَتُنَادِي عَلَيْهَا، وَتَدُلُّ عَلَيْهَا، وَتُخْبِرُ بِهَا بِلِسَانِ النُّطْقِ وَالْحَالِ، كَمَا قِيلَ‏:‏

تَأَمَّلْ سُطُورَ الْكَائِنَــاتِ فَإِنَّهَـا *** مِنَ الْمَلِكِ الْأَعْلَى إِلَيْكَ رَسَائِلُ

وَقَدْ خَطَّ فِيهَا لَوْ تَأَمَّلْتَ خَطَّهَا *** أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ

تُشِيرُ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِرَبِّهَـــا *** فَصَامِتُهَا يَهْدِي وَمَنْ هُوَ قَائِلُ

فَلَسْتَ تَرَى شَيْئًا أَدَلَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دَلَالَةِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى صِفَاتِ خَالِقِهَا، وَنُعُوتِ كَمَالِهِ، وَحَقَائِقِ أَسْمَائِهِ، وَقَدْ تَنَوَّعَتْ أَدِلَّتُهَا بِحَسَبِ تَنَوُّعِهَا، فَهِيَ تَدُلُّ عَقْلًا وَحِسًّا، وَفِطْرَةً وَنَظَرًا، وَاعْتِبَارًا‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ بِتَبْصِيرِ النُّورِ الْقَائِمِ فِي السِّرِّ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ أَنَّ النُّورَ الْإِلَهِيَّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِعَبْدِهِ، وَيُلْقِيهِ إِلَيْهِ، وَيُودِعُهُ فِي سِرِّهِ‏:‏ هُوَ الَّذِي يُبَصِّرُهُ بِشَوَاهِدِ صِفَاتِهِ، فَكُلَّمَا قَوِيَ هَذَا النُّورُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ‏:‏ كَانَ بَصَرُهُ بِالصِّفَاتِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَكُلَّمَا قَلَّ نَصِيبُهُ مِنْ هَذَا النُّورِ، وَطُفِئَ مِصْبَاحُهُ فِي قَلْبِهِ‏:‏ طُفِئَ نُورُ التَّصْدِيقِ بِالصِّفَاتِ وَإِثْبَاتِهَا فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُشَاهِدُهَا بِذَلِكَ النُّورِ، فَإِذَا فَقَدَهُ لَمْ يُشَاهِدْهَا، وَجَاءَتِ الشُّبَهُ الْبَاطِلَةُ مَعَ تِلْكَ الظُّلْمَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا سِوَى الْإِنْكَارِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَطِيبِ حَيَاةِ الْعَقْلِ لِزَرْعِ الْفِكْرِ ‏"‏ أَيْ يُدْرِكُ الصِّفَاتِ بِذَلِكَ النُّورِ الْقَائِمِ فِي سِرِّهِ، وَطِيبِ حَيَاةِ عَقْلِهِ، الَّتِي طَيَبَهَا زَرْعُ الْفِكْرِ الصَّحِيحِ، الْمُتَعَلِّقِ بِمَا دَعَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ إِلَى الْفِكْرِ فِيهِ، بِقوله‏:‏ ‏{‏وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏.‏ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏}‏ فَيَتَفَكَّرُونَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَهَا لَهُمْ، فَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَالْعِلْمِ بِلِقَائِهِ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَانْقِضَائِهَا، وَاضْمِحْلَالِهَا وَآفَاتِهَا، وَالْآخِرَةِ وَدَوَامِهَا وَبَقَائِهَا وَشَرَفِهَا، وَقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ فَالْفِكْرُ الصَّحِيحُ، الْمُؤَيَّدُ بِحَيَاةِ الْقَلْبِ، وَنُورِ الْبَصِيرَةِ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ وَأَمَّا فِكْرٌ مَصْحُوبٌ بِمَوْتِ الْقَلْبِ وَعَمَى الْبَصِيرَةِ فَإِنَّمَا يُعْطَى صَاحِبُهُ نَفْيَهَا وَتَعْطِيلَهَا‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَحَيَاةُ الْقَلْبِ بِحُسْنِ النَّظَرِ بَيْنَ التَّعْظِيمِ وَحُسْنِ الِاعْتِبَارِ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ أَنَّهُ يَنْضَافُ إِلَى نُورِ الْبَصِيرَةِ وَطِيبِ حَيَاةِ الْعَقْلِ‏:‏ حَيَاةُ الْقَلْبِ بِحُسْنِ النَّظَرِ، الدَّائِرِ بَيْنَ تَعْظِيمِ الْخَالِقِ- جَلَّ جَلَالُهُ- وَحُسْنِ الِاعْتِبَارِ بِمَصْنُوعَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، فَلَابُدَّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّهُ إِنْ غَفِلَ بِالتَّعْظِيمِ عَنْ حُسْنِ الِاعْتِبَارِ‏:‏ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الصِّفَاتِ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُ الِاعْتِبَارُ مِنْ غَيْرِ تَعْظِيمِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ‏:‏ لَمْ يَسْتَفِدْ بِهِ إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ لَهُ تَعْظِيمُ الْخَالِقِ وَحُسْنُ النَّظَرِ فِي صُنْعِهِ‏:‏ أَثْمَرَا لَهُ إِثْبَاتَ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَلَابُدَّ‏.‏

وَ ‏"‏ الِاعْتِبَارُ ‏"‏ هُوَ أَنْ يَعْبُرَ نَظَرُهُ مِنَ الْأَثَرِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَمِنَ الصَّنْعَةِ إِلَى الصَّانِعِ، وَمِنَ الدَّلِيلِ إِلَى الْمَدْلُولِ، فَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِ بِسُرْعَةِ لُطْفِ إِدْرَاكٍ، فَيَنْتَقِلُ ذِهْنُهُ مِنَ الْمَلْزُومِ إِلَى لَازِمِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ‏}‏ وَ ‏"‏ الِاعْتِبَارُ ‏"‏ افْتِعَالٌ مِنَ الْعُبُورِ، وَهُوَ عُبُورُ الْقَلْبِ مِنَ الْمَلْزُومِ إِلَى لَازِمِهِ، وَمِنَ النَّظِيرِ إِلَى نَظِيرِهِ‏.‏

وَهَذَا الِاعْتِبَارُ يَضْعُفُ وَيَقْوَى، حَتَّى يَسْتَدِلَّ صَاحِبُهُ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَمَالِهِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ، لِحُسْنِ اعْتِبَارِهِ وَصِحَّةِ نَظَرِهِ، وَهُوَ اعْتِبَارُ الْخَوَاصِّ وَاسْتِدْلَالُهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَأَنَّهُ يَفْعَلُ كَذَا وَلَا يَفْعَلُ كَذَا، فَيَفْعَلُ مَا هُوَ مُوجَبُ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ وَغِنَاهُ وَحَمْدِهِ، وَلَا يَفْعَلُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ تَعَالَى فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى ‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ‏}‏ ثُمَّ قَالَ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ فَمَخْلُوقَاتُهُ دَالَّةٌ عَلَى ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ دَالَّةٌ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ، وَمَا لَا يَفْعَلُهُ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ‏.‏

مِثَالُ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ اسْمَهُ ‏"‏ الْحَمِيدَ ‏"‏ سُبْحَانَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَاسْمَهُ ‏"‏ الْحَكِيمَ ‏"‏ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا عَبَثًا، وَاسْمَهُ ‏"‏ الْغَنِيَّ ‏"‏ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَاسْمَهُ ‏"‏ الْمَلِكَ ‏"‏ يَدُلُّ عَلَى مَا يَسْتَلْزِمُ حَقِيقَةَ مُلْكِهِ‏:‏ مِنْ قُدْرَتِهِ، وَتَدْبِيرِهِ، وَعَطَائِهِ وَمَنْعِهِ، وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَبَثِّ رُسُلِهِ فِي أَقْطَارِ مَمْلَكَتِهِ، وَإِعْلَامِ عَبِيدِهِ بِمَرَاسِيمِهِ، وَعُهُودِهِ إِلَيْهِمْ، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ الَّذِي هُوَ عَرْشُهُ الْمَجِيدُ، فَمَتَى قَامَ بِالْعَبْدِ تَعْظِيمُ الْحَقِّ- جَلَّ جَلَالُهُ- وَحُسْنُ النَّظَرِ فِي الشَّوَاهِدِ، وَالتَّبَصُّرُ وَالِاعْتِبَارُ بِهَا‏:‏ صَارَتِ الصِّفَاتُ وَالنُّعُوتُ مَشْهُودَةً لِقَلْبِهِ قِبْلَةً لَهُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَهِيَ مَعْرِفَةُ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا تَنْعَقِدُ شَرَائِطُ الْيَقِينِ إِلَّا بِهَا ‏"‏‏.‏

لَا يُرِيدُ بِالْعَامَّةِ الْجُهَّالَ الَّذِينَ هُمْ عَوَامُّ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ‏:‏ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي وَقَفَ عِنْدَهَا الْعُمُومُ وَلَمْ يَتَعَدَّوْهَا، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ أَهْلِ الذَّوْقِ وَالْمَحَبَّةِ الْخَاصَّةِ فَأَخَصُّ مِنْ هَذَا كَمَا سَيَأْتِي‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ‏:‏ إِثْبَاتُ الصِّفَةِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ- إِلَى آخِرِهَا، هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ إِثْبَاتُ تِلْكَ الصِّفَةِ؛ فَلَا يُعَامِلُهَا بِالنَّفْيِ وَالْإِنْكَارِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى بِهَا اسْمَهَا الْخَاصَّ الَّذِي سَمَّاهَا اللَّهُ بِهِ، بَلْ يَحْتَرِمُ الِاسْمَ كَمَا يَحْتَرِمُ الصِّفَةَ، فَلَا يُعَطِّلُ الصِّفَةَ، وَلَا يُغَيِّرُ اسْمَهَا وَيُعِيرُهَا اسْمًا آخَرَ، كَمَا تُسَمِّى الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعَطِّلَةُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، وَقُدْرَتَهُ وَحَيَاتَهُ، وَكَلَامَهُ‏:‏ أَعْرَاضًا، وَيُسَمُّونَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَهُ- سُبْحَانَهُ-‏:‏ جَوَارِحَ وَأَبْعَاضًا، وَيُسَمُّونَ حِكْمَتَهُ وَغَايَةَ فِعْلِهِ الْمَطْلُوبَةَ‏:‏ عِلَلًا وَأَغْرَاضًا، وَيُسَمُّونَ أَفْعَالَهُ الْقَائِمَةَ بِهِ‏:‏ حَوَادِثَ، وَيُسَمُّونَ عُلُوَّهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ، تَحَيُّرًا، وَيَتَوَاصَوْنَ بِهَذَا الْمَكْرِ الْكُبَّارِ إِلَى نَفْيِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَالْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ، وَآثَارُ الصَّنْعَةِ مِنْ صِفَاتِهِ، فَيَسْطُونَ- بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ- عَلَى نَفْيِ صِفَاتِهِ وَحَقَائِقِ أَسْمَائِهِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ عَدَمُ تَشْبِيهِهَا بِمَا لِلْمَخْلُوقِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لَا فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، فَالْعَارِفُونَ بِهِ، الْمُصَدِّقُونَ لِرُسُلِهِ، الْمُقِرُّونَ بِكَمَالِهِ‏:‏ يُثْبِتُونَ لَهُ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ، وَيَنْفُونَ عَنْهُ مُشَابَهَةَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَنَفْيِ التَّشْبِيهِ، وَبَيْنَ التَّنْزِيهِ وَعَدَمِ التَّعْطِيلِ، فَمَذْهَبُهُمْ حَسَنَةٌ بَيْنَ سَيِّئَتَيْنِ، وَهُدًى بَيْنَ ضَلَالَتَيْنِ، فَصِرَاطُهُمْ صِرَاطُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَصِرَاطُ غَيْرِهِمْ صِرَاطُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ لَا نُزِيلُ عَنِ اللَّهِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ، لِأَجْلِ شَنَاعَةِ الْمُشَنِّعِينَ، وَقَالَ‏:‏ التَّشْبِيهُ‏:‏ أَنْ تَقُولَ يَدٌ كَيَدِي، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَالْإِيَاسُ مِنْ إِدْرَاكِ كُنْهِهَا، وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهَا ‏"‏‏.‏

يَعْنِي‏:‏ أَنْ الْعَقْلَ قَدْ يَئِسَ مِنْ تَعَرُّفِ كُنْهِ الصِّفَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا إِمْكَانِيَّةُ الْعَقْلِ فِي تَعَرُّفِ كُنْهِ الصِّفَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ اللَّهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ بِلَا كَيْفٍ أَيْ بِلَا كَيْفٍ يَعْقِلُهُ الْبَشَرُ، فَإِنَّ مَنْ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَةُ ذَاتِهِ وَمَاهِيَّتُهُ، كَيْفَ تُعْرَفُ كَيْفِيَّةُ نُعُوتِهِ وَصِفَاتِهِ‏؟‏ وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ بِهَا، وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهَا، فَالْكَيْفِيَّةُ وَرَاءَ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّا نَعْرِفُ مَعَانِي مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَقَائِقِ مَا فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَا نَعْرِفُ حَقِيقَةَ كَيْفِيَّتِهِ، مَعَ قُرْبِ مَا بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْمَخْلُوقِ، فَعَجْزُنَا عَنْ مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الْخَالِقِ وَصِفَاتِهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ‏.‏

فَكَيْفَ يَطْمَعُ الْعَقْلُ الْمَخْلُوقُ الْمَحْصُورُ الْمَحْدُودُ فِي مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ مَنْ لَهُ الْكَمَالُ كُلُّهُ، وَالْجَمَالُ كُلُّهُ، وَالْعِلْمُ كُلُّهُ، وَالْقُدْرَةُ كُلُّهَا، وَالْعَظَمَةُ كُلُّهَا، وَالْكِبْرِيَاءُ كُلُّهَا‏؟‏ مَنْ لَوْ كُشِفَ الْحِجَابُ عَنْ وَجْهِهِ لَأَحْرَقَتْ سَبَحَاتُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ‏؟‏ الَّذِي يَقْبِضُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ، فَتَغِيبُ كَمَا تَغِيبُ الْخَرْدَلَةُ فِي كَفِّ أَحَدِنَا، الَّذِي نِسْبَةُ عُلُومِ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا إِلَى عِلْمِهِ أَقَلُّ مِنْ نِسْبَةِ نَقْرَةِ عُصْفُورٍ مِنْ بِحَارِ الْعِلْمِ الَّذِي لَوْ أَنَّ الْبَحْرَ- يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ- مِدَادٌ وَأَشْجَارَ الْأَرْضِ- مِنْ حِينِ خُلِقَتْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ- أَقْلَامٌ‏:‏ لَفَنِيَ الْمِدَادُ وَفَنِيَتِ الْأَقْلَامُ، وَلَمْ تَنْفَدْ كَلِمَاتُهُ، الَّذِي لَوْ أَنَّ الْخَلْقَ مِنْ أَوَّلِ الدُّنْيَا إِلَى آخِرِهَا- إِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ، وَنَاطِقَهُمْ وَأَعْجَمَهُمْ- جُعِلُوا صَفًّا وَاحِدًا مَا أَحَاطُوا بِهِ سُبْحَانَهُ، الَّذِي يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِهِ، وَالْأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَشْجَارَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ أَنَا الْمَلِكُ‏.‏

فَقَاتَلَ اللَّهُ الْجَهْمِيَّةَ وَالْمُعَطِّلَةَ‏!‏ أَيْنَ التَّشْبِيهُ هَاهُنَا‏؟‏ وَأَيْنَ التَّمْثِيلُ‏؟‏ لَقَدِ اضْمَحَلَّ هَاهُنَا كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَاهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا يُمَاثِلُهُ فِي ذَلِكَ الْكَمَالِ، وَيُشَابِهُهُ فِيهِ، فَسُبْحَانَ مَنْ حَجَبَ عُقُولَ هَؤُلَاءِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَوَلَّاهَا مَا تَوَلَّتْ مِنْ وُقُوفِهَا مَعَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا حُرْمَةَ لَهَا، وَالْمَعَانِي الَّتِي لَا حَقَائِقَ لَهَا‏.‏

وَلَمَّا فَهِمَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنَ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ مَا تَفْهَمُهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَرَّتْ إِلَى إِنْكَارِ حَقَائِقِهَا، وَابْتِغَاءِ تَحْرِيفِهَا، وَسَمَّتْهُ تَأْوِيلًا، فَشَبَّهَتْ أَوَّلًا، وَعَطَّلَتْ ثَانِيًا، وَأَسَاءَتِ الظَّنَّ بِرَبِّهَا وَبِكِتَابِهِ وَبِنَبِيِّهِ وَبِأَتْبَاعِهِ‏.‏

أَمَّا إِسَاءَةُ الظَّنِّ بِالرَّبِّ‏:‏ فَإِنَّهَا عَطَّلَتْ صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَنِسْبَتِهِ إِلَى أَنَّهُ أَنْزَلَ كِتَابًا مُشْتَمِلًا عَلَى مَا ظَاهِرُهُ كُفْرٌ وَبَاطِلٌ، وَأَنَّ ظَاهِرَهُ وَحَقَائِقَهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ‏.‏

وَأَمَّا إِسَاءَةُ ظَنِّهَا بِالرَّسُولِ إِسَاءَةُ الظَّنِّ بِالرَّسُولِ‏:‏ فَلِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ وَقَرَّرَهُ وَأَكَّدَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْأُمَّةِ أَنَّ الْحَقَّ فِي خِلَافِهِ وَتَأْوِيلِهِ‏.‏

وَأَمَّا إِسَاءَةُ ظَنِّهَا بِأَتْبَاعِهِ إِسَاءَةُ الظَّنِّ بِأَتْبَاعِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ فَبِنِسْبَتِهِمْ لَهُمْ إِلَى التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَالْجَهْلِ وَالْحَشْوِ، وَهُمْ عِنْدَ أَتْبَاعِهِ أَجْهَلُ مِنْ أَنْ يُكَفِّرُوهُمْ، إِلَّا مَنْ عَانَدَ الرَّسُولَ، وَقَصَدَ نَفْيَ مَا جَاءَ بِهِ، وَالْقَوْمُ عِنْدَهُمْ فِي خِفَارَةِ جَهْلِهِمْ، قَدْ حُجِبَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَإِثْبَاتِ حَقَائِقِ أَسْمَائِهِ، وَأَوْصَافِ كَمَالِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مَعْرِفَةُ الذَّاتِ‏]‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ مَعْرِفَةُ الذَّاتِ، مَعَ إِسْقَاطِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ وَالذَّاتِ، وَهِيَ تَثْبُتُ بِعِلْمِ الْجَمْعِ، وَتَصْفُو فِي مَيْدَانِ الْفَنَاءِ، وَتُسْتَكْمَلُ بِعِلْمِ الْبَقَاءِ، وَتُشَارِفُ عَيْنَ الْجَمْعِ ‏"‏‏.‏

نَشْرَحُ كَلَامَهُ وَمُرَادَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ نُبَيِّنُ مَا لَهُ وَعَلَيْهِ فِيهِ‏.‏

فَكَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ عِنْدَهُ أَرْفَعَ مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا نَظَرٌ فِي الصِّفَاتِ، وَهَذِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالذَّاتِ بِالْجَامِعَةِ لِلصِّفَاتِ، وَإِنْ كَانَتِ الذَّاتُ لَا تَخْلُو عَنِ الصِّفَاتِ، فَهِيَ قَائِمَةٌ بِهَا، وَلَا نَقُولُ‏:‏ إِنَّ صِفَاتِهَا عَيْنُهَا وَلَا غَيْرُهَا، لِمَا فِي لَفْظِ الْغَيْرِ مِنَ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِبَاهِ، فَإِنَّ الْغَيْرَيْنِ قَدْ يُرَادُ بِهِمَا مَا جَازَ افْتِرَاقُهُمَا ذَاتًا أَوْ زَمَانًا، أَوْ مَكَانًا، وَعَلَى هَذَا‏:‏ فَلَيْسَتِ الصِّفَاتُ مُغَايِرَةً لِلذَّاتِ، وَقَدْ يُرَادُ بِالْغَيْرَيْنِ‏:‏ مَا جَازَ الْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَيَفْتَرِقَانِ فِي الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ، لَا فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، فَالصِّفَاتُ غَيْرُ الذَّاتِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الشُّعُورُ بِالذَّاتِ حَالَ مَا يُغْفَلُ عَنْ صِفَاتِهَا، فَتَتَجَرَّدُ عَنْ صِفَاتِهَا فِي شُعُورِ الْعَبْدِ، لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ مَعَ إِسْقَاطِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ وَالذَّاتِ ‏"‏ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصِّفَاتِ وَالذَّاتِ فِي الْوُجُودِ وَالشُّهُودِ فِي الْوُجُودِ مُسْتَحِيلٌ، وَهُوَ مُمْكِنٌ فِي الشُّهُودِ بِأَنْ يَشْهَدَ الصِّفَةَ وَيَذْهَلَ عَنْ شُهُودِ الْمَوْصُوفِ، أَوْ يَشْهَدَ الْمَوْصُوفَ وَيَذْهَلَ عَنْ شُهُودِ الصِّفَةِ، فَتَجْرِيدُ الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ إِنَّمَا يُمْكِنُ فِي الذِّهْنِ، فَالْمَعْرِفَةُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ تَعَلَّقَتْ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ جَمِيعًا، فَلَمْ يُفَرِّقِ الْعِلْمُ وَالشُّهُودُ بَيْنَهُمَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ مِنْ شُهُودِ مُجَرَّدِ الصِّفَةِ، أَوْ مُجَرَّدِ الذَّاتِ‏.‏

وَلَا يُرِيدُ الشَّيْخُ أَنَّكَ تُسْقِطُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ فِي الْخَارِجِ وَالْعِلْمِ‏.‏

بِحَيْثُ تَكُونُ الصِّفَاتُ هِيَ نَفْسَ الذَّاتِ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ الشَّيْخُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْكَلَامِ يَقُولُونَ‏:‏ إِنَّ الصِّفَاتِ هِيَ الذَّاتُ، فَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّ الذَّاتَ نَفْسَهَا صِفَةٌ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنَّ صِفَاتِهَا لَيْسَتْ شَيْئًا غَيْرَهَا‏.‏

فَإِنْ أَرَادَ هَؤُلَاءِ أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ هُوَ مَفْهُومُ الذَّاتِ‏:‏ فَهَذَا مُكَابَرَةٌ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا أَشْيَاءُ غَيْرُ الذَّاتِ انْضَمَّتْ إِلَيْهَا وَقَامَتْ بِهَا فَهَذَا حَقٌّ‏.‏

وَالتَّحْقِيقُ‏:‏ أَنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ- جَلَّ جَلَالُهُ- دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ، فَلَيْسَ اسْمُهُ اللَّهُ، وَالرَّبُّ، وَالْإِلَهُ أَسْمَاءً لِذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ، لَا صِفَةً لَهَا الْبَتَّةَ، فَإِنَّ هَذِهِ الذَّاتَ الْمُجَرَّدَةِ وُجُودُهَا مُسْتَحِيلٌ، وَإِنَّمَا يَفْرِضُهَا الذِّهْنُ فَرْضَ الْمُمْتَنِعَاتِ، ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَيْهَا، وَاسْمُ ‏"‏ اللَّهِ ‏"‏ سُبْحَانَهُ، ‏"‏ وَالرَّبِّ، وَالْإِلَهِ ‏"‏- اسْمٌ لِذَاتٍ لَهَا جَمِيعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ، كَالْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْحَيَاةِ، وَالْإِرَادَةِ، وَالْكَلَامِ، وَالسَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْبَقَاءِ، وَالْقِدَمِ، وَسَائِرِ الْكَمَالِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ لِذَاتِهِ، فَصِفَاتُهُ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ، فَتَجْرِيدُ الصِّفَاتِ عَنِ الذَّاتِ، وَالذَّاتِ عَنِ الصِّفَاتِ فَرْضٌ وَخَيَالٌ ذِهْنِيٌّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةٌ، وَلَا إِيمَانٌ، وَلَا هُوَ عِلْمٌ فِي نَفْسِهِ، وَبِهَذَا أَجَابَ السَّلَفُ الْجَهْمِيَّةَ لَمَّا اسْتَدَلُّوا عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ شُبْهَةُ خَلْقِ الْقُرْآنِ وَالرَّدُّ عَلَيْهَا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ قَالُوا‏:‏ وَالْقُرْآنُ شَيْءٌ‏.‏

فَأَجَابَهُمُ السَّلَفُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ، وَكَلَامُهُ مِنْ صِفَاتِهِ، وَصِفَاتُهُ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ- كَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحَيَاتِهِ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ- فَلَيْسَ اللَّهُ اسْمًا لِذَاتٍ لَا نَعْتَ لَهَا، وَلَا صِفَةَ، وَلَا فِعْلَ، وَلَا وَجْهَ، وَلَا يَدَيْنِ، ذَلِكَ إِلَهٌ مَعْدُومٌ مَفْرُوضٌ فِي الْأَذْهَانِ، لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْأَعِيَانِ، كَإِلَهِ الْجَهْمِيَّةِ، الَّذِي فَرَضُوهُ غَيْرِ خَارِجٍ عَنِ الْعَالَمِ وَلَا دَاخِلٍ فِيهِ، وَلَا مُتَّصِلٍ بِهِ وَلَا مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وَلَا مُحَايِثٍ لَهُ وَلَا مُبَايِنٍ، وَكَإِلَهِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِي فَرَضُوهُ وُجُودًا مُطْلَقًا لَا يَتَخَصَّصُ بِصِفَةٍ وَلَا نَعْتٍ، وَلَا لَهُ مَشِيئَةٌ وَلَا قُدْرَةٌ، وَلَا إِرَادَةٌ وَلَا كَلَامٌ، وَكَإِلَهِ الِاتِّحَادِيَّةِ الَّذِي فَرَضُوهُ وُجُودًا سَارِيًا فِي الْمَوْجُودَاتِ ظَاهِرًا فِيهَا، هُوَ عَيْنُ وُجُودِهَا، وَكَإِلَهِ النَّصَارَى الَّذِي فَرَضُوهُ قَدِ اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، وَتَدَرَّعَ بِنَاسُوتِ وَلَدِهِ، وَاتَّخَذَ مِنْهُ حِجَابًا، فَكُلُّ هَذِهِ الْآلِهَةِ مِمَّا عَمِلَتْهُ أَيْدِي أَفْكَارِهَا، وَإِلَهُ الْعَالَمِينَ الْحَقُّ‏:‏ هُوَ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ وَعَرَّفُوهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، مَوْصُوفٌ بِكُلِّ كَمَالٍ، مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، لَا مِثَالَ لَهُ، وَلَا شَرِيكَ، وَلَا ظَهِيرَ، وَلَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، ‏{‏هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ غَنِيٌ بِذَاتِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ بِذَاتِهِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَهِيَ تَثْبُتُ بِعِلْمِ الْجَمْعِ، وَتَصْفُو فِي مَيْدَانِ الْفَنَاءِ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ الْخَاصَّةَ تَثْبُتُ بِعِلْمِ الْجَمْعِ، وَلَمْ يَقُلْ بِحَالِ الْجَمْعِ، وَلَا بِعَيْنِهِ، وَلَا مَقَامِهِ فَإِنَّ عِلْمَهُ أَوَّلًا‏:‏ هُوَ سَبَبُ ثُبُوتِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ لَا تُنَالُ إِلَّا بِالْعِلْمِ، فَهُوَ شَرْطٌ فِيهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فِي الْجَمْعِ عَنْ قَرِيبٍ‏.‏

فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ انْفِرَادَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْأَزَلِ وَالْبَقَاءِ وَالْفِعْلِ، وَعَجَزَ مَنْ سِوَاهُ عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِيجَادِ ذَرَّةٍ أَوْ جُزْءٍ مِنْ ذَرَّةٍ، وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَوُجُودُهُ لَيْسَ لَهُ، وَلَا بِهِ وَلَا مِنْهُ، وَتَوَالِى هَذَا الْعِلْمِ عَنِ الْقَلْبِ يُسْقِطُ ذِكْرَ غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ عَنِ الْبَالِ وَالذِّكْرِ، كَمَا سَقَطَ غِنَاهُ وَرُبُوبِيَّتُهُ وَمُلْكُهُ وَقُدْرَتُهُ، فَصَارَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَعْبُودَ وَالْمَشْهُودَ وَالْمَذْكُورَ، كَمَا كَانَ وَحْدَهُ هُوَ الْخَالِقَ الْمَالِكَ، الْغَنِيَّ الْمَوْجُودَ بِنَفْسِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ فَوُجُودُهُ- وَتَوَابِعُ وَجُودِهِ- عَارِيَةٌ لَيْسَتْ لَهُ، وَكُلَّمَا فَنِيَ الْعَبْدُ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ وَشُهُودِهِ صَفَتْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ فِي قَلْبِهِ، فَلِهَذَا قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَتَصْفُو فِي مَيْدَانِ الْفَنَاءِ ‏"‏ اسْتَعَارَ الشَّيْخُ لِلْفَنَاءِ مَيْدَانًا وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ لِاتِّسَاعِ مَجَالِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ قَدِ انْقَطَعَ الْتِفَاتُهُ إِلَى ضِيقِ الْأَغْيَارِ، وَانْجَذَبَتْ رُوحُهُ وَقَلْبُهُ إِلَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، فَهِيَ تَجُولُ فِي مَيْدَانٍ أَوْسَعَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَسْجُونَةً فِي سُجُونِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَإِذَا اسْتَمَرَّ لَهُ عُكُوفُ قَلَبِهِ عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَنَظَرُ قَلْبِهِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَرُؤْيَةُ تَفَرُّدِهِ بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ- كَمُلَتْ وَتَمَّتْ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ مَعْرِفَتُهُ، وَاسْتُكْمِلَتْ بِهَذَا الْبَقَاءِ الَّذِي أَوْصَلَهُ إِلَيْهِ الْفَنَاءُ، وَشَارَفَتْ عَيْنُ الْجَمْعِ بَعْدَ عِلْمِهِ، فَغَابَ الْعَارِفُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِمَعْرُوفِهِ، وَعَنْ ذِكْرِهِ بِمَذْكُورِهِ، وَعَنْ مَحَبَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ بِمُرَادِهِ وَمَحْبُوبِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَتُسْتَكْمَلُ بِعِلْمِ الْبَقَاءِ، وَتُشَارِفُ عَيْنَ الْجَمْعِ ‏"‏‏.‏

وَلِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ أَرْكَانُ الْمُعْرِفَةِ، أَشَارَ إِلَيْهَا الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ‏:‏ إِرْسَالُ الصِّفَاتِ عَلَى الشَّوَاهِدِ، وَإِرْسَالُ الْوَسَائِطِ عَلَى الْمَدَارِجِ، وَإِرْسَالُ الْعِبَارَاتِ عَلَى الْمَعَالِمِ‏.‏

شَوَاهِدُ الصِّفَاتِ هِيَ الَّتِي تَشْهَدُ بِهَا، وَتَدُلُّ عَلَيْهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَشَهَادَةِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرَةِ وَآثَارِ الصَّنْعَةِ، فَإِذَا تَمَكَّنَ الْعَبْدُ فِي التَّوْحِيدِ عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ صِفَاتِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَعْرِفْهَا الْعَبْدُ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَا بِغَيْرِ تَعْرِيفِ الْحَقِّ لَهُ، بِمَا أَجْرَاهُ لَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الشَّوَاهِدِ، وَالِانْتِقَالِ مِنْهَا إِلَى الْمَشْهُودِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي شَهِدَ لِنَفْسِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، إِذْ تِلْكَ الشَّوَاهِدُ مَصْدَرُهُا مِنْهُ، فَشَهِدَ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، بِمَا قَالَهُ وَفَعَلَهُ وَجَعَلَهُ شَاهِدًا لِمَعْرِفَتِهِ، فَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالْعَبْدُ آلَةٌ مَحْضَةٌ، وَمُنْفَعَلٌ وَمُحَلٌّ لِجَرَيَانِ الشَّوَاهِدِ، وَآثَارِهَا وَأَحْكَامِهَا عَلَيْهِ، لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَهَذَا مَعْنَى إِرْسَالِ الصِّفَاتِ عَلَى الشَّوَاهِدِ فَإِذَا أَرْسَلَهَا عَلَيْهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْحُكْمَ لِلصِّفَاتِ دُونَ الشَّوَاهِدِ، بَلِ الشَّوَاهِدُ هِيَ آثَارُ الصِّفَاتِ، فَهَذَا وَجْهٌ‏.‏

وَوَجْهٌ ثَانٍ، أَيْضًا وَهُوَ‏:‏ أَنَّ الشَّوَاهِدَ بَوَارِقٌ وَتَجَلِّيَاتٌ تَبْدُو لِلشَّاهِدِ، فَإِذَا أَرْسَلَ الصِّفَاتِ عَلَى تِلْكَ الشَّوَاهِدِ تَوَارَى حُكْمُ تِلْكَ الْبَوَارِقِ وَالتَّجَلِّيَّاتِ فِي الصِّفَاتِ، وَكَانَ الْحُكْمُ لِلصِّفَاتِ، فَحِينَئِذٍ يَتَرَقَّى الْعَبْدُ إِلَى شُهُودِ الذَّاتِ شُهُودًا عِلْمِيًا عِرْفَانِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَإِرْسَالُ الْوَسَائِطِ عَلَى الْمَدَارِجِ ‏"‏ ‏"‏ الْوَسَائِطُ ‏"‏‏:‏ هِيَ الْأَسْبَابُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ الَّتِي بِهَا تَظْهَرُ الْمَعْرِفَةُ وَتَوَابِعُهَا، ‏"‏ وَالْمَدَارِجُ ‏"‏‏:‏ هِيَ الْمَنَازِلُ وَالْمَقَامَاتُ الَّتِي يَتَرَقَّى الْعَبْدُ فِيهَا إِلَى الْمَقْصُودِ، وَقَدْ تَكُونُ الْمَدَارِجُ الطُّرُقَ الَّتِي يَسْلُكُهَا إِلَيْهِ وَيُدْرَجُ فِيهَا، فَإِرْسَالُ الْوَسَائِطِ الَّتِي مِنَ الرَّبِّ عَلَى الْمَدَارِجِ الَّتِي هِيَ مَنَازِلُ السَّيْرِ وَطُرُقُهُ تُوجِبُ كَوْنَ الحُكْمِ لَهَا دُونَ الْمَدَارِجِ، فَيَغِيبُ عَنْ شُهُودِ الْمَدَارِجِ بِالْوَسَائِطِ، وَقَدْ غَابَ عَنْ شُهُودِ الْوَسَائِطِ بِالصِّفَاتِ، فَيَتَرَقَّى حِينَئِذٍ إِلَى شُهُودِ الذَّاتِ‏.‏

وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ‏:‏ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ مَا أَطْلَعَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا بِشَوَاهِدَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَبِوَسَائِطَ لَيْسَتْ مِنَ الْعَبْدِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى قَبْضِ تِلْكَ الشَّوَاهِدِ وَالْوَسَائِطِ، وَعَلَى إِجْرَائِهَا عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لَهُ، وَتِلْكَ الْوَسَائِطُ لَا تُوجِبُ بِنَفْسِهَا شَيْئًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا

إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ‏}‏ وقال لِلْأُمَّةِ عَلَى لِسَانِهِ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ‏}‏ وَيَعْلَمُ الْعَبْدُ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنْ شَوَاهِدِ مَعْرِفَتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ‏:‏ هِيَ مَعَالِمُ يَهْتَدِي بِهَا عِبَادُهُ إِلَيْهِ، وَيَعْرِفُونَ بِهَا كَمَالَهُ وَجَلَالَهُ وَعَظَمَتَهُ، فَإِذَا تَيَقَّنُوا صِدْقَهُ وَلَمْ يَشُكُّوا فِيهِ، وَتَفَطَّنُوا لِآثَارِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي سِوَاهُمُ؛ انْضَمَّ شَاهِدُ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ إِلَى شَاهِدِ الْوَحْيِ وَالشَّرْعِ، فَانْتَقَلُوا حِينَئِذٍ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الْعِيَانِ، فَالْعِبَارَاتُ مَعَالِمُ عَلَى الْحَقَائِقِ الْمَطْلُوبَةِ، وَالْمَعَالِمُ هِيَ الْأَمَارَاتُ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْمَطْلُوبُ، فَإِذَا أَوْصَلَ الْعَارِفُ كُلَّ مَعْنًى مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى مَقْصُودِهِ، وَصَرَفَ هِمَّتَهُ إِلَى مُجْرِيهِ وَنَاصِبِهِ وَمَصْدَرِهِ؛ اجْتَمَعَ هَمُّهُ عَلَيْهِ، وَتَمَكَّنَ فِي مَعْرِفَةِ الذَّاتِ الَّتِي لَهَا صِفَاتُ الْكَمَالِ، وَنُعُوتُ الْجَلَالِ‏.‏

وَمَقْصُودُهُ‏:‏ أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ حَالَ صَاحِبِ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ، وَكَيْفَ تَتَرَتَّبُ الْأَشْيَاءُ فِي نَظَرِهِ، وَيَتَرَقَّى فِيهَا إِلَى الْمَقْصُودِ‏؟‏

مِثَالُ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ الشَّوَاهِدَ أَرْسَلَتْهُ إِلَى الصِّفَاتِ بِإِرْسَالِهَا عَلَيْهَا، فَانْتَقَلَ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا إِلَى مُشَاهَدَةِ الصِّفَاتِ، وَالْوَسَائِطُ الَّتِي كَانَ يَرَاهَا آيَةً عَلَى الْمَدَارِجِ، انْتَقَلَ فَانْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى الْمَدَارِجِ وَلَمْ يَلْقَهَا، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَا هِيَ آيَةٌ لَهُ، وَالْعِبَارَاتُ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ أَلْفَاظًا خَارِجَةً عَنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ صَارَتْ أَمَارَاتٍ تَوَصِّلُهُ إِلَى الْحَقِيقَةِ الْمُعَبِّرِ عَنْهَا، فَبِهَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ يَصِيرُ بِهَا مِنْ أَهْلِ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ عِنْدَهُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَهَذِهِ مَعْرِفَةُ الْخَاصَّةِ الَّتِي تُؤْنَسُ مِنْ أُفُقِ الْحَقِيقَةِ ‏"‏ أَيْ تُدْرَكُ وَتُحَسُّ مِنْ نَاحِيَةِ الْحَقِيقَةِ، وَ ‏"‏ الْإِينَاسُ ‏"‏ الْإِدْرَاكُ وَالْإِحْسَاسُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ‏}‏ وقال مُوسَى‏:‏ ‏{‏إِنِّي آنَسْتُ نَارًا‏}‏ وَالْمَقْصُودُ‏:‏ أَنَّ الْعَارِفَ إِذَا عَلَّقَ هَمَّهُ بِأُفُقِ الْحَقِيقَةِ، وَأَعْرَضَ عَنِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِطِ- لَا إِعْرَاضَ جُحُودٍ وَإِنْكَارٍ، بَلْ إِعْرَاضَ اشْتِغَالٍ، وَنَظَرٍ إِلَى عَيْنِ الْمَقْصُودِ- أَوْصَلَهُ ذَلِكَ إِلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ الْجَامِعَةِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ طَرِيقُ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ الْجَامِعَةِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مَعْرِفَةٌ مُسْتَغْرِقَةٌ فِي مَحْضِ التَّعْرِيفِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ مَعْرِفَةٌ مُسْتَغْرِقَةٌ فِي مَحْضِ التَّعْرِيفِ مِنْ دَرَجَاتِ الْإِخْلَاصِ، لَا يُوصِلُ إِلَيْهَا الِاسْتِدْلَالُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا شَاهِدٌ، وَلَا تَسْتَحِقُّهَا وَسِيلَةٌ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ‏:‏ مُشَاهَدَةِ الْقُرْبِ، وَالصُّعُودِ عَنِ الْعِلْمِ، وَمُطَالَعَةِ الْجَمْعِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ‏.‏

إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَهُ أَرْفَعَ مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْوَسَائِطِ وَالشَّوَاهِدِ، مُتَّصِلَةٌ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَهَذِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِعَيْنِ الْمَقْصُودِ فَقَطْ، طَاوِيَةٌ لِلْوَسَائِطِ وَالشَّوَاهِدِ، فَالْوَسَائِطُ صَاعِدَةٌ عَنْهَا إِلَيْهِ، وَهِيَ غَالِبَةٌ عَلَى حَالِ الْعَارِفِ وَشُهُودِهِ، وَقَدِ اسْتَغْرَقَتْ إِدْرَاكَهُ لِمَا هُوَ فِيهِ، بِحَيْثُ غَابَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِمَعْرُوفِهِ، وَعَنْ ذِكْرِهِ بِمَذْكُورِهِ، وَعَنْ وُجُودِهِ بِمَوْجُودِهِ‏.‏

فَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ مُسْتَغْرِقَةٌ فِي مَحْضِ التَّعْرِيفِ ‏"‏‏.‏

‏"‏ الْمَعْرِفَةُ ‏"‏ صِفَةُ الْعَبْدِ وَفِعْلُهُ، وَ ‏"‏ التَّعْرِيفُ ‏"‏ فِعْلُ الرَّبِّ وَتَوْفِيقُهُ، فَاسْتَغْرَقَتْ صِفَةُ الْعَبْدِ فِي فِعْلِ الرَّبِّ وَتَعْرِيفِهِ نَفْسَهُ لِعَبْدِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا بِالِاسْتِدْلَالِ ‏"‏ يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا بِسَبَبٍ، فَإِنَّ الْأَسْبَابَ قَدِ انْطَوَتْ فِيهَا، وَالْوَسَائِلُ قَدِ انْقَطَعَتْ دُونَهَا، فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا شَاهِدٌ غَيْرُهَا، بَلْ هِيَ شَاهِدُ نَفْسِهَا، فَشَاهِدُهَا وُجُودُهَا، وَدَلِيلُهَا نَفْسُهَا، وَلَا تَعْجَلْ بِإِنْكَارِ هَذَا، فَالْأُمُورُ الْوِجْدَانِيَّةُ كَذَلِكَ، وَدَلِيلُهَا نَفْسُهَا، وَشَاهِدُهَا حَقِيقَتُهَا، فَتَصِيرُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ لِلْعَارِفِ كَالْأُمُورِ الْوِجْدَانِيَّةِ، كَاللَّذَّةِ وَالْفَرَحِ، وَالْحُبِّ وَالْخَوْفِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُطْلَبُ مَنْ قَامَتْ بِهِ شَاهِدًا عَلَيْهَا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهَا‏.‏

وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ دَرَجَةٌ مِنَ الْمَعْرِفَةِ مَنِيفَةٌ، وَرُتْبَةٌ شَرِيفَةٌ، تَنْقَطِعُ دُونَهَا أَعْنَاقُ مَطَايَا السَّائِرِينَ، فَلِذَلِكَ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا بِالِاسْتِدْلَالِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا شَاهِدٌ، وَلَا تَسْتَحِقُّهَا وَسِيلَةٌ، وَالْأَعْمَالُ وَالْأَحْوَالُ وَالْمَقَامَاتُ كُلُّهَا وَسَائِلُ، وَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ فَضْلُ مَنِ الْفَضْلُ كُلُّهُ بِيَدِهِ، وَهُوَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمُ، وَكَوْنُ الْوَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ لَا تَسْتَحِقُّهَا لَا تَمْنَعُ مِنَ الْقِيَامِ بِهَا عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِيهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا تَسْتَحِقُّهَا الْوَسَائِلُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ‏:‏ مُشَاهَدَةِ الْقُرْبِ، وَالصُّعُودِ عَنِ الْعِلْمِ، وَمُطَالَعَةِ الْجَمْعِ، إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَرْكَانًا لَهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ قَدْ وَصَلَ مِنَ الْقُرْبِ إِلَى مَقَامٍ يَلِيقُ بِهِ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ، فَكُلَّمَا كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ أَتَمَّ؛ كَانَ قُرْبُهُ أَتَمَّ، فَإِنَّ شُهُودَ الْوَسَائِطِ وَالْوَسَائِلِ حِجَابٌ عَنْ عَيْنِ الْقُرْبِ، وَإِلْغَاؤُهَا وَجُحُودُهَا حِجَابٌ عَنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ‏.‏

وَأَمَّا صُعُودُهُ عَنِ الْعِلْمِ‏:‏ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ صُعُودَهُ عَنْ أَحْكَامِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ سُقُوطٌ وَنُزُولٌ إِلَى الْحَضِيضِ الْأَدْنَى، لَا صُعُودٌ إِلَى الْمَطْلَبِ الْأَعْلَى، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ‏:‏ أَنَّهُ يَصْعَدُ بِأَحْكَامِ الْعِلْمِ عَنِ الْوُقُوفِ مَعَهُ، وَتَوْسِيطِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ الْوَسَائِطَ قَدْ طُوِيَ بِسَاطُهَا فِي هَذَا الشُّهُودِ وَالْعِرْفَانِ، أَعْنِي‏:‏ بِسَاطَ الْوُقُوفِ مَعَهَا وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا، فَيُدْرِكُ مَشْهُودَهُ وَمَعْرُوفَهُ بِهِ سُبْحَانَهُ، لَا بِالْعِلْمِ وَالْخَبَرِ، بَلْ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِلْ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْخَبَرِ، لَكِنَّهُ قَدْ صَعِدَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ إِلَى الْمَعْلُومِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا مُطَالَعَةُ الْجَمْعِ فَهِيَ الْغَايَةُ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ‏:‏ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ، لَكِنْ أَيُّ جَمْعٍ هُوَ‏؟‏ هَلْ هُوَ جَمْعُ الْوُجُودِ، كَمَا يَقُولُهُ الِاتِّحَادِيُّ‏؟‏ أَمْ جَمْعُ الشُّهُودِ، كَمَا يَقُولُهُ صَاحِبُ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ‏؟‏ أَمْ هُوَ جَمْعُ الْإِرَادَةِ كُلِّهَا فِي مُرَادِ الرَّبِّ تَعَالَى الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ‏؟‏ فَالشَّأْنُ فِي هَذَا الْجَمْعِ الَّذِي مُطَالَعَتُهُ مِنْ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْمَعْرِفَةِ‏.‏

نَعَمْ هَاهُنَا جَمْعٌ آخَرُ، مُطَالَعَتُهُ هِيَ كُلُّ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ‏:‏ جَمْعُ الْأَفْعَالِ فِي الصِّفَاتِ، وَجَمْعُ الصِّفَاتِ فِي الذَّاتِ، وَجَمْعُ الْأَسْمَاءِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، فَمُطَالَعَةُ هَذَا الْجَمْعِ‏:‏ هِيَ غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ، وَأَعْلَى أَنْوَاعِهَا، غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَأَعْلَى أَنْوَاعِهَا وَهِيَ- لَعَمْرُ اللَّهِ- مَعْرِفَةٌ خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ الْفَنَاءُ

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏‏(‏بَابُ الْفَنَاءِ‏)‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ‏.‏ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏‏.‏

الْفَنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ‏"‏ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ‏"‏ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ‏:‏ لَيْسَ هُوَ الْفَنَاءَ الَّذِي تُشِيرُ إِلَيْهِ الطَّائِفَةُ، فَإِنَّ الْفَنَاءَ فِي الْآيَةِ الْهَلَاكُ وَالْعَدَمُ، أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ يُعْدَمُ وَيَمُوتُ، وَيَبْقَى وَجْهُهُ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا مِثْلُ قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ‏}‏ وَمِثْلُقوله‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ‏}‏ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ‏:‏ هَلَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ أَيْقَنَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالْهَلَاكِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ‏:‏ إِذَا قَرَأْتَ ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ‏}‏ فَلَا تَسْكُتْ حَتَّى تَقْرَأَ ‏{‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ‏}‏ وَهَذَا مِنْ فِقْهِهِ فِي الْقُرْآنِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ، إِذِ الْمَقْصُودُ‏:‏ الْإِخْبَارُ بِفَنَاءِ مَنْ عَلَيْهَا مَعَ بَقَاءِ وَجْهِهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِتَمْدَحَهُ بِالْبَقَاءِ وَحْدَهُ، وَمُجَرَّدُ فَنَاءِ الْخَلِيقَةِ لَيْسَ فِيهِ مَدْحُهُ، إِنَّمَا الْمَدْحُ فِي بَقَائِهِ بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ، فَهِيَ نَظِيرُ قوله‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا الْفَنَاءُ الَّذِي تُتَرْجِمُ عَنْهُ الطَّائِفَةُ‏:‏ فَأَمْرٌ غَيْرُ هَذَا، وَلَكِنْ وُجِدَ الْإِشَارَةُ بِالْآيَةِ‏:‏ أَنَّ الْفَنَاءَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ ذَهَابُ الْقَلْبِ، وَخُرُوجُهُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ وَتَعَلُّقُهُ بِالْعَلِيِّ الْكَبِيرِ الَّذِي لَهُ الْبَقَاءُ فَلَا يُدْرِكُهُ الْفَنَاءُ، وَمَنْ فَنِيَ فِي مَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ أَوْصَلَهُ هَذَا الْفَنَاءُ إِلَى مَنْزِلِ الْبَقَاءِ، فَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ حَقِيقٌ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِمَنْ هُوَ فَانٍ، وَيَذَرَ مَنْ لَهُ الْبَقَاءُ، وَهُوَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَكَأَنَّهَا تَقُولُ‏:‏ إِذَا تَعَلَّقْتَ بِمَنْ هُوَ فَانٍ انْقَطَعَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ عِنْدَ فَنَائِهِ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ، وَإِذَا تَعَلَّقْتَ بِمَنْ هُوَ بَاقٍ لَا يَفْنَى لَمْ يَنْقَطِعْ تَعَلُّقُكَ وَدَامَ بِدَوَامِهِ‏.‏

وَالْفَنَاءُ الَّذِي يُتَرْجَمُ عَلَيْهِ هُوَ غَايَةُ التَّعَلُّقِ وَنِهَايَتُهُ، فَإِنَّهُ انْقِطَاعٌ عَمَّا سِوَى الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏

‏"‏ الْفَنَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ‏:‏ اضْمِحْلَالُ مَا دُونَ الْحَقِّ عِلْمًا، ثُمَّ جَحْدًا، ثُمَّ حَقًّا ‏"‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ ‏"‏ الْفَنَاءُ ‏"‏ ضِدُّ ‏"‏ الْبَقَاءِ ‏"‏، وَالْبَاقِي‏:‏ إِمَّا بَاقٍ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى مَنْ يُبْقِيهِ، بَلْ بَقَاؤُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَمَا سِوَاهُ فَبَقَاؤُهُ بِبَقَاءِ الرَّبِّ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ بَقَاءٌ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وُجُودٌ، فَإِيجَادُهُ وَإِبْقَاؤُهُ مِنْ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا الْعَدَمُ قَبْلَ إِيجَادِهِ، وَالْفَنَاءُ بَعْدَ إِيجَادِهِ‏.‏

وَلَيْسَ الْمَعْنَى‏:‏ أَنَّ نَفْسَهُ وَذَاتَهُ اقْتَضَتْ عَدَمَهُ وَفَنَاءَهُ، وَإِنَّمَا الْفَنَاءُ أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى ذَاتِهِ- بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِيجَادِ مُوجِدِهِ لَهُ- كَانَ مَعْدُومًا، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ بَعْدَ وُجُودِهِ- مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِبْقَاءِ مُوجِدِهِ لَهُ- اسْتَحَالَ بَقَاؤُهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَبْقَى بِإِبْقَائِهِ، كَمَا أَنَّهُ إِنَّمَا يُوجَدُ بِإِيجَادِهِ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا‏:‏ إِنَّهُ نَفْسَهُ مَعْدُومٌ وَفَانٍ، فَافْهَمْهُ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ‏:‏ هَلْ إِفْنَاءُ الْمَوْجُودِ وَإِعْدَامُهُ طَرِيقَةُ إِفْنَاءِ الْمَوْجُودِ وَإِعْدَامِهِ بِخَلْقِ عَرَضٍ فِيهِ يُسَمَّى الْفَنَاءُ وَالْإِعْدَامُ‏؟‏ أَمْ بِإِمْسَاكِ خَلْقِ الْبَقَاءِ لَهُ، إِذْ هُوَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَنْ يَخْلُقَ لَهُ بَقَاءً يُبْقِيهِ‏؟‏ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِعْدَامِ الْمَشْهُورَةُ‏.‏

وَالتَّحْقِيقُ فِيهَا‏:‏ أَنَّ ذَاتَهُ لَا تَقْتَضِي الْوُجُودَ، وَهُوَ مَعْدُومٌ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا قَدَّرَ الرَّبُّ تَعَالَى لِوُجُودِهِ أَجَلًا وَوَقْتًا انْتَهَى وُجُودُهُ عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهِ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ وَهُوَ الْعَدَمُ، نَعَمْ قَدْ يُقَدِّرُ لَهُ وَقْتًا ثُمَّ يَمْحُو سُبْحَانَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَيُرِيدُ إِعْدَامَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَمْحُو مَا يَشَاءُ، وَيُرِيدُ اسْتِمْرَارَ وَجُودِهِ بَعْدَ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ إِلَى أَمَدٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِبْقَاءَ الشَّيْءِ أَبْقَاهُ إِلَى حِينِ يَشَاءُ، وَإِذَا أَرَادَ إِفْنَاءَهُ أَعْدَمَهُ بِمَشِيئَتِهِ، كَمَا يُوجِدُهُ بِمَشِيئَتِهِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وُجُودِيًّا، فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَدَمُ مُتَعَلِّقَ الْمَشِيئَةِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ أَمْرَانِ‏:‏ إِيجَادٌ، وَإِعْدَامٌ، وَكِلَاهُمَا مُمْكِنٌ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ أَمْرًا وُجُودِيًا دَعْوَى بَاطِلَةٌ، نَعَمُ، الْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَشِيئَةُ، وَأَمَّا الْإِعْدَامُ‏:‏ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْعَدَمِ‏.‏

وَلَوْلَا أَنَّا فِي أَمْرٍ أَخَصَّ مِنْ هَذَا لَبَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَكَرْنَا أَوْهَامَ النَّاسِ وَأَغْلَاطَهُمْ فِيهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ الْفَنَاءُ اسْمٌ لِاضْمِحْلَالِ مَا دُونَ الْحَقِّ عِلْمًا ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ يَضْمَحِلُّ عَنِ الْقَلْبِ وَالشُّهُودِ عِلْمًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتُهُ فَانِيَةً فِي الْحَالِ مُضْمَحِلَّةً، فَتَغِيبُ صُوَرُ الْمَوْجُودَاتِ فِي شُهُودِ الْعَبْدِ، بِحَيْثُ تَكُونُ كَأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الْعَدَمِ، كَمَا كَانَتْ قَبْلَ أَنْ تُوجَدَ، وَيَبْقَى الْحَقُّ تَعَالَى ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَحْدَهُ فِي قَلْبِ الشَّاهِدِ، كَمَا كَانَ وَحْدَهُ قَبْلَ إِيجَادِ الْعَوَالِمِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ عِلْمًا، ثُمَّ جَحْدًا، ثُمَّ حَقًّا ‏"‏ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ مَرَاتِبُ الِاضْمِحْلَالِ إِذَا وَرَدَ عَلَى الْعَبْدِ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَإِذَا جَاءَ وَهْلَةً وَاحِدَةً لَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعْرِفُ ذَلِكَ إِذَا عَادَ إِلَى عِلْمِهِ وَشُهُودِهِ، فَإِنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ إِذَا رَقَّى عَبْدَهُ بِالتَّدْرِيجِ نَوَّرَ بَاطِنَهُ وَعَقْلَهُ بِالْعِلْمِ، فَرَأَى أَنَّهُ لَا خَالِقَ سِوَاهُ، وَلَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ وَالْعَطَاءَ وَالْمَنْعَ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ- بِنِهَايَةِ الْخُضُوعِ وَالْحُبِّ- سِوَاهُ، وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ فَبَاطِلٌ، فَهَذَا تَوْحِيدُ الْعِلْمِ‏.‏

ثُمَّ إِذَا رَقَّاهُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ دَرَجَةً أُخْرَى فَوْقَ هَذِهِ أَشْهَدَهُ عَوْدَ الْمَفْعُولَاتِ إِلَى أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ، وَعَوْدَ أَفْعَالِهِ إِلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَقِيَامَ صِفَاتِهِ بِذَاتِهِ، فَيَضْمَحِلُّ شُهُودُ غَيْرِهِ مِنْ قَلْبِهِ، وَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ لِسِوَاهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَلَمْ يَجْحَدِ السَّوِيُّ كَمَا يَجْحَدُهُ الْمَلَاحِدَةُ، فَإِنَّ هَذَا الْجُحُودَ عَيْنُ الْإِلْحَادِ‏.‏

ثُمَّ إِذَا رَقَّاهُ دَرَجَةً أُخْرَى؛ أَشْهَدَهُ قِيَامَ الْعَوَالِمِ كُلِّهَا- جَوَاهِرِهَا وَأَعْرَاضِهَا، ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا- بِهِ وَحْدَهُ، أَيْ بِإِقَامَتِهِ لَهَا وَإِمْسَاكِهِ لَهَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا، وَيُمْسِكُ الْبِحَارَ أَنْ تَغِيضَ أَوْ تَفِيضَ عَلَى الْعَالَمِ، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، وَيُمْسِكُ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ، وَيُمْسِكُ الْقُلُوبَ الْمُوقِنَةَ أَنْ تَزِيغَ عَنِ الْإِيمَانِ، وَيُمْسِكُ حَيَاةَ الْحَيَوَانِ أَنْ تُفَارِقَهُ إِلَى الْأَجَلِ الْمَحْدُودِ، وَيُمْسِكُ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ وُجُودَهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاضْمَحَلَّتْ وَتَلَاشَتْ، وَالْكُلُّ قَائِمٌ بِأَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، فَلَيْسَ الْوُجُودُ الْحَقِيقِيُّ إِلَّا لَهُ، أَعْنِي الْوُجُودَ الَّذِي هُوَ مُسْتَغْنٍ فِيهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ، لَا قِيَامَ لَهُ بِنَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ‏.‏

وَلَمَّا كَانَ لِلْفَنَاءِ مَبْدَأٌ وَتَوَسُّطٌ وَغَايَةٌ؛ أَشَارَ إِلَى مَرَاتِبِهِ الثَّلَاثَةِ مَرَاتِبُ الْفَنَاءِ، فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى‏:‏ فَنَاءُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمُتَحَقِّقِينَ بِهِ، وَالثَّانِيَةُ‏:‏ فَنَاءُ أَهْلِ السُّلُوكِ وَالْإِرَادَةِ، وَالثَّالِثَةُ‏:‏ فَنَاءُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، الْمُسْتَغْرِقِينَ فِي شُهُودِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ‏.‏

فَأَوَّلُ الْأَمْرِ، أَنْ تَفْنَى قُوَّةُ عِلْمِهِ وَشُعُورِهِ بِالْمَخْلُوقِينَ فِي جَنْبِ عَلَمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ وَحُقُوقِهِ، ثُمَّ يَقْوَى ذَلِكَ حَتَّى يَعُدَّهُمْ كَالْأَمْوَاتِ وَكَالْعَدَمِ، ثُمَّ يَقْوَى ذَلِكَ حَتَّى يَغِيبَ عَنْهُمْ، بِحَيْثُ يُكَلَّمُ وَلَا يَسْمَعُ، وَيُمَرُّ بِهِ وَلَا يَرَى، وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ حَالِ السُّكْرِ، وَلَكِنْ لَا تَدُومُ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ عَلَيْهَا‏.‏