فصل: تفسير الآيات (138- 143):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (138- 143):

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}
{صِبْغَةَ الله} دين الله وهو مصدر مؤكد منتصب عن قوله: {آمنا بالله}. وهي فعلة من صبغ كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ، والمعنى تطهير الله لأن الإيمان يطهر النفوس. والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم فإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال الآن صار نصرانياً حقاً، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم: آمنا بالله وصبغنا الله بالإيمان صبغته ولم نصبغ صبغتكم. وجيء بلفظ الصبغة للمشاكلة كقولك لمن يغرس الأشجار إغرس كما يغرس فلان تريد رجلاً يصطنع الكرم. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} تمييز أي لا صبغة أحسن من صبغته يريد الدين أو التطهير. {وَنَحْنُ لَهُ عابدون} عطف على {آمنا بالله} وهذا العطف يدل على أن قوله: {صبغة الله} داخل في مفعول {قولوا آمنا} أي قولوا هذا وهذا {ونحن له عابدون} ويردّ قول من زعم أن صبغة الله بدل من {ملة إبراهيم} أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه. وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه والقول ما قالت حذام.
{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا في اللَّهِ} أي أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا وترونكم أحق بالنبوة منا {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} نشرك جميعاً في أننا عباده وهو ربنا وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده {وَلَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم} يعني أن العمل هو أساس الأمر وكما أن لكم أعمالاً فلنا كذلك {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} أي نحن له موحدون نخصه بالإيمان وأنتم به مشركون، والمخلص أحرى بالكرامة وأولى بالنبوة من غيره. {أَمْ تَقُولُونَ} بالتاء شامي وكوفي غير أبي بكر. و{أم} على هذا معادلة للهمزة في {أتحاجوننا} يعني أي الأمرين تأتون: المحاجة في حكم الله أم إدعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء؟ أو منقطعة أي بل أتقولون. {يقولون}: غيرهم بالياء، وعلى هذا لا تكون الهمزة إلا منقطعة. {إِنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نصارى} ثم أمر نبيه عليه السلام أن يقول مستفهماً راداً عليهم بقوله: {قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} يعني أن الله شهد لهم بملة الإسلام في قوله: {مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن حَنِيفًا مُّسْلِمًا} [آل عمران: 67]. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شهادة عِندَهُ مِنَ الله} أي كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها وهي شهادة الله لإبراهيم بالحنيفية. والمعنى أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم لأنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها، أو أنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منا فلا نكتمها.
وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد عليه السلام بالنبوة في كتبهم وسائر شهاداته. و{من} في قوله {من الله} مثلها في قولك (هذه شهادة مني لفلان) إذا شهدت له في أنها صفة لها. {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} من تكذيب الرسل وكتمان الشهادة. {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} كررت للتأكيد أو لأن المراد بالأول الأنبياء عليهم السلام وبالثاني أسلاف اليهود والنصارى.
{سَيَقُولُ السفهاء مِنَ الناس} الخفاف الأحلام فأصل السفه الخفة، وهم اليهود لكراهتهم التوجه إلى الكعبة وأنهم لا يرون النسخ، أو المنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء، أو المشركون لقولهم (رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها والله ليرجعن إلى دينهم). وفائدة الإخبار بقولهم قبل وقوعه توطين النفس إذ المفاجأة بالمكروه أشد، وإعداد الجواب قبل الحاجة إليه أقطع للخصم فقبل الرمي يراش السهم. {مَا ولاهم} ما صرفهم {عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} يعنون بيت المقدس. والقبلة الجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة لأن المصلي يقابلها {قُل لّلَّهِ المشرق والمغرب} أي بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها له {يَهْدِى مَن يَشَآءُ} من أهلها {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} طريق مستوٍ. أي يرشد من يشاء إلى قبلة الحق وهي الكعبة التي أمرنا بالتوجه إليها، أو الأماكن كلها لله فيأمر بالتوجه إلى حيث شاء فتارة إلى الكعبة وطوراً إلى بيت المقدس لا اعتراض عليه لأنه المالك وحده. {وكذلك جعلناكم} ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم فالكاف للتشبيه و(ذا) جر بالكاف واللام للفرق بين الإشارة إلى القريب والإشارة إلى البعيد والكاف للخطاب لا محل لها من الإعراب. {أُمَّةً وَسَطًا} خياراً. وقيل: للخيار وسط لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والأوساط محمية أي كما جعلت قبلتكم خير القبل جعلتكم خير الأمم، أو عدولاً لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض. أي كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب جعلناكم أمة وسطاً بين الغلو والتقصير فإنكم لم تغلوا غلو النصارى حيث وصفوا المسيح بالألوهية، ولم تقصروا تقصير اليهود حيث وصفوا مريم بالزنا وعيسى بأنه ولد الزنا {لّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ} غير منصرف لمكان ألف التأنيث {عَلَى الناس} صلة شهداء {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} عطف على {لتكونوا}. روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم فيؤتى بأمة محمد عليه السلام فيشهدون فتقول الأمم: من أين عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد عليه السلام فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم.
والشهادة قد تكون بلا مشاهدة كالشهادة بالتسامع في الأشياء المعروفة. ولما كان الشهيد كالرقيب جيء بكلمة الاستعلاء كقوله تعالى: {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 17]. وقيل: لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار، ويكون الرسول عليكم شهيداً يزكيكم ويعلم بعدالتكم. واستدل الشيخ أبو منصور رحمه الله بالآية على أن الإجماع حجة لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة، والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله. وأخرت صلة الشهادة أولاً وقدمت آخراً لأن المراد في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم. {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَا} أي وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة، فالتي كنت عليها ليست بصفة للقبلة بل هي ثاني مفعولي جعل. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تأليفاً لليهود ثم حول إلى الكعبة. {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ} أي وما جعلنا القبلة التي تحب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة إلا امتحاناً للناس وابتلاء لنعلم الثابت على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقه يرجع فيرتد عن الإسلام عند تحويل القبلة. قال الشيخ أبو منصور رحمه الله: معنى قوله {لنعلم} أي لنعلم كائناً أو موجوداً ما قد علمناه أنه يكون ويوجد، فالله تعالى عالم في الأزل بكل ما أراد وجوده أنه يوجد في الوقت الذي شاء وجوده فيه ولا يوصف بأنه عالم في الأزل بأنه موجود كائن لأنه ليس بموجود في الأزل فكيف يعلمه موجوداً، فإذا صار موجوداً يدخل تحت علمه الأزلي فيصير معلوماً له موجوداً كائناً، والتغير على المعلوم لا على العلم. أو لنميز التابع من الناكص كما قال تعالى: {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} [الأنفال: 37] فوضع العلم موضع التمييز لأن العلم به يقع التمييز، أو ليعلم رسول الله عليه الصلاة والسلام والمؤمنون، وإنما أسند علمهم إلى ذاته لأنهم خواصه أو هو على ملاطفة الخطاب لمن لا يعلم كقولك لمن ينكر ذوب الذهب (فلنلقه في النار لنعلم أيذوب). {وَإِن كَانَتْ} أي التحويلة أو الجعلة أو القبلة. و{إن} هي المخففة، واللام في {لَكَبِيرَةً} أي ثقيلة شاقة وهي خبر (كان) واللام فارقة {إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} أي هداهم الله فحذف العائد أي إلا على الثابتين الصادقين في اتباع الرسول. {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} أي صلاتكم إلى بيت المقدس؛ سمى الصلاة إيماناً لأن وجوبها على أهل الإيمان وقبولها من أهل الإيمان وأداؤها في الجماعة دليل الإيمان. ولما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: كيف بمن مات قبل التحويل من إخواننا؟ فنزلت. ثم علل ذلك فقال: {إِنَّ الله بالناس لَرَؤُوفٌ} مهموز مشبع: حجازي وشامي وحفص. {رؤوف} غيرهم بوزن (فَعُل) وهما للمبالغة. {رَّحِيمٌ} لا يضيع أجورهم، والرأفة أشد من الرحمة وجمع بينهما كما في الرحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (144- 147):

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}
{قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء} تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة موافقة لإبراهيم ومخالفة لليهود، ولأنها ادعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم. {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا إذا جعلته والياً له، أو فلنجعلك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس. {قِبْلَةً تَرْضَاهَا} تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها وواقفت مشيئة الله وحكمته. {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} أي نحوه. و{شطر} نصب على الظرف أي اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد أي في جهته وسمته لأن استقبال عين القبلة متعسر على النائي. وذكر المسجد الحرام دون الكعبة دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين. روي أنه عليه السلام قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم وجه إلى الكعبة. {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ} من الأرض وأردتم الصلاة {فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق} أي التحويل إلى الكعبة هو الحق لأنه كان في بشارة أنبيائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يصلي إلى القبلتين. {مِن رَّبّهِمْ وَمَا الله بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} بالياء مكي وأبو عمرو ونافع وعاصم، وبالتاء غيرهم. فالأول وعيد للكافرين بالعقاب على الجحود والإباء، والثاني وعد للمؤمنين بالثواب على القبول. والأداء.
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب} أراد ذوي العناد منهم {بِكُلِّ ءَايَةٍ} برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة إنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق. وجواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط.
{وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} حسم لأطماعهم إذ كانوا اضطربوا في ذلك قولوا: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم ووحدت القبلة، وإن كان لهم قبلتان فلليهود قبلة وللنصارى قبلة لاتحادهم في البطلان. {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} يعني أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم كما لا ترجى موافقتهم لك، فاليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى مطلع الشمس. {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العلم} أي من بعد وضوح البرهان والإحاطة بأن القبلة هي الكعبة وأن دين الله هو الإسلام {إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظالمين} لمن المرتكبين الظلم الفاحش. وفي ذلك لطف للسامعين وتهييج للثبات على الحق وتحذير لمن يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى.
وقيل: الخطاب في الظاهر للنبي عليه السلام والمراد أمته، ولزم الوقف على {الظالمين} إذ لو وصل لصار {الذين ءاتيناهم الكتاب} صفة للظالمين. وهو مبتدأ والخبر {يَعْرِفُونَهُ} أي محمداً عليه السلام أو القرآن أو تحويل القبلة. والأول أظهر لقوله {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} قال عبد الله بن سلام: أنا أعلم به مني بابني فقال له عمر: ولم؟ قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي فأما ولدي فلعل والدته خانت فقبل عمر رأسه. {وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ} أي الذين لم يسلموا {لَيَكْتُمُونَ الحق} حسداً وعناداً {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} لأن الله تعالى بينه في كتابهم. {الحق} مبتدأ خبره {مِن رَبَِكَ} واللام للجنس أي الحق من الله لا من غيره. يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه، وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل، أو للعهد والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق ومن ربك خبر بعد خبر أو حال. {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} الشاكين في أنه من ربك.

.تفسير الآيات (148- 151):

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}
{وَلِكُلٍّ} من أهل الأديان المختلفة. {وِجْهَةٌ} قبلة. وقرئ بها. والضمير في {هُوَ} لكل. وفي {مُوَلِّيهَا} للوجهة. أي هو موليها وجهة فحذف أحد المفعولين أو هو لله تعالى. أي الله موليها إياه. {هو مولاها}: شامي أي هو مولى تلك الجهة قد وليها. والمعنى ولكل أمة قبلة يتوجه إليها منكم ومن غيركم. {فَاسْتَبِقُوا} أنتم {الخَيْرَاتِ} فاستبقوا إليها غيركم من أمر القبلة وغيره. {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ} أنتم وأعداؤكم {يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا} يوم القيامة فيفصل بين المحقق والمبطل، أو ولكل منكم يا أمة محمد وجهة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية، فاستقبلوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعاً ويجمعكم ويجعل صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام. {إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} ومن أي بلد خرجت للسفر {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} إذا صليت.
{وَإِنَّهُ} وإن هذا المأمور به {لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} وبالياء: أبو عمرو.
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده لأن النسخ من مظان الفتنة والشبهة فكرر عليهم ليثبتوا على أنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر فاختلفت فوائدها {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} أي قد عرّفكم الله جل ذكره أمر الاحتجاج في القبلة بما قد بين في قوله: {ولكل وجهة هو موليها} لئلا يكون للناس لليهود عليكم حجة في خلاف ما في التوراة من تحويل القبلة. وأطلق اسم الحجة على قول المعاندين لأنهم يسوقونه سياق الحجة. {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} استثناء من (الناس) أي لئلا يكون حجة لأحد من اليهود إلا المعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء عليهم السلام. أو معناه لئلا يكون للعرب عليكم حجة واعتراض في ترككم التوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم وإسماعيل أبي العرب إلا الذين ظلموا منهم وهم أهل مكة حين يقولون بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم. ثم استأنف منبهاً بقوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضرونكم {واخشونى} فلا تخالفوا أمري {وَلأُِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} أي عرفتكم لئلا يكون عليكم حجة ولأتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى الكعبة. {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ولكي تهتدوا إلى قبلة إبراهيم.
الكاف في {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} إما أن يتعلق بما قبله أي ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول، أو بما بعده أي كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، فعلى هذا يوقف على {تهتدون} وعلى الأول لا. {رَسُولاً مِّنْكُمْ} من العرب {يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ} يقرأ عليكم {ءاياتنا} القرآن {وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب} القرآن {والحكمة} السنة والفقه {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} ما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي.