فصل: تفسير الآيات (32- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (32- 34):

{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)}
{وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} في موضعه عن السقوط كما قال: {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] أو محفوظاً بالشهب عن الشياطين كما قال: {وحفظناها مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ} [الحجر: 17] {وَهُمْ} أي الكفار {عَنْ ءاياتها} عن الأدلة التي فيها كالشمس والقمر والنجوم {مُّعْرِضُونَ} غير متفكرين فيها فيؤمنون.
{وَهُوَ الذي خَلَقَ اليل} لتسكنوا فيه {والنهار} لتتصرفوا فيه {والشمس} لتكون سراج النهار {والقمر} ليكون سراج الليل {كُلٌّ} التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي كلهم والضمير للشمس والقمر والمراد بهما جنس الطوالع، وجمع جمع العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة {فِى فَلَكٍ} عن ابن عباس رضي الله عنهما: الفلك السماء. والجمهور على أن الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم و{كل} مبتدأ خبره {يَسْبَحُونَ} يسيرون أي يدورون والجملة في محل النصب على الحال من الشمس والقمر {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد} البقاء الدائم {أفأين مِتَّ} بكسر الميم مدني وكوفي غير أبي بكر {فَهُمُ الخالدون} والفاء الأول لعطف جملة على جملة والثاني لجزاء الشرط، كانوا يقدرون أنه سيموت فنفى الله عنه الشماتة بهذا أي قضي الله أن لا يخلد في الدنيا بشر أفإن مت أنت أيبقى هؤلاء.

.تفسير الآيات (35- 37):

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)}
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت وَنَبْلُوكُم} ونختبركم سمي ابتلاء وإن كان عالماً بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم لأنه في صورة الاختبار {بالشر} بالفقر والضر {والخير} الغني والنفع {فِتْنَةً} مصدر مؤكد ل {نبلوكم} من غير لفظه {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر. وعن ابن ذكوان {ترجعون}.
{وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ} ما يتخذونك {إِلاَّ هُزُواً} مفعول ثان ل {يتخذونك} نزلت في أبي جهل مر به النبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال: هذا نبي بني عبد مناف {أهذا الذي يَذْكُرُ} يعيب {ءالِهَتَكُمْ} والذكر يكون بخير وبخلافه فإن كان الذاكر صديقاً فهو ثناء وإن كان عدواً فذم {وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن} أي بذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية {هُمْ كافرون} لا يصدقون به أصلاً فهم أحق أن يتخذوا هزواً منك فإنك محق وهم مبطلون. وقيل: بذكر الرحمن أي بما أنزل عليك من القرآن هم كافرون جاحدون، والجملة في موضع الحال أي يتخذونك هزواً وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله تعالى، وكرر {هُمْ} للتأكيد، أو لأن الصلة حالت بينه وبين الخبر فأعيد المبتدأ {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} فسر بالجنس. وقيل: نزلت حين كان النضر بن الحارث يستعجل بالعذاب. والعجل والعجلة مصدران، وهو تقديم الشيء على وقته، والظاهر أن المراد الجنس وأنه ركب فيه العجلة فكأنه خلق من العجل ولأنه يكثر منه، والعرب تقول لمن يكثر منه الكرم (خلق من الكرم) فقدم أولاً ذم الإنسان على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها ثم منعه وزجره كأنه قال: ليس ببدع منه أن يستعجل فإنه مجبول على ذلك وهو طبعه وسجيته فقد ركب فيه. وقيل: العجل الطين بلغه حمير قال شاعرهم:
والنخل ينبت بين الماء والعجل

وإنما منع عن الاستعجال وهو مطبوع عليه كما أمره بقمع الشهوة وقد ركبها فيه، لأنه أعطاه القوة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة و{من عجل} حال أي عجلاً {سأوريكم آياتي} نقماتي {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} بالإتيان بها وهو بالياء عند يعقوب وافقه سهل وعياش في الوصل.

.تفسير الآيات (38- 41):

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)}
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} إتيان العذاب أو القيامة {إِن كُنتُمْ صادقين} قيل: هو أحد وجهي استعجالهم {لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} جواب {لو} محذوف و{حين} مفعول به ل {يعلم} أي لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه بقولهم {متى هذا الوعد} وهو وقت تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم ولا يجدون ناصراً ينصرهم لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكن جهلهم به هو الذي هونه عندهم {بَلْ تَأْتِيهِم} الساعة {بَغْتَةً} فجأة {فَتَبْهَتُهُمْ} فتحيرهم أي لا يكفونها بل تفجأهم فتغلبهم {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} فلا يقدرون على دفعها {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} يمهلون {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ} فحل ونزل {بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ} جزاء {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء أسوة وأن ما يفعلونه به يحيق بهم كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا.

.تفسير الآيات (42- 45):

{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)}
{قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم} يحفظكم {باليل والنهار مِنَ الرحمن} أي من عذابه إن أتاكم ليلاً أو نهاراً {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ} أي بل هم معرضون عن ذكره ولا يخطورنه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكاليء فصلحوا للسؤال عنه، والمعنى أنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكاليء، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم.
ثم أضرب عن ذلك بقوله {أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا} لما في (أم) من معنى (بل) فقال: ألهم الهة تمنعهم من العذاب تتجاوز منعنا وحفظنا. ثم استأنف بقوله {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ} فبين أن ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد كيف يمنع غيره وينصره. ثم قال: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءابَاءهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر} أي ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعاً لهم بالحياة الدنيا وإمهالاً كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وظنوا أنهم دائمون على ذلك وهو أمل كاذب {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي نقص أرض الكفر ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردها دار إسلام، وذكر {نَأْتِى} يشير بأن الله يجريه على أيدي المسلمين وإن عساكرهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها {أَفَهُمُ الغالبون} أفكفار مكة يغلبون بعد أن نقصنا من أطراف أرضهم أي ليس كذاك بل يغلبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنصرنا.
{قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بالوحى} أخوفكم من العذاب القرآن {وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء} بفتح الياء والميم ورفع الصم، {ولا تسمع الصم} شامي على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم {إِذَا مَا يُنذَرُونَ} يخوفون. واللام في {الصم} للمعهد وهو إشارة إلى هؤلاء المنذرين، والأصل ولا يسمعون إذا ما ينذرون فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامهم وسدهم أسماعهم إذا ما أنذروا.

.تفسير الآيات (46- 48):

{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)}
{وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ} دفعة يسيرة {مّنْ عَذَابِ رَبّكَ} صفة ل {نفحة} {لَيَقُولُنَّ ياويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين} أي ولئن مسهم من هذا الذي ينذرون به أدنى شيء لذلوا ودعوا بالويل على أنفسهم وأقروا أنهم ظلموا أنفسهم حين تصاموا وأعرضوا، وقد بولغ حيث ذكر المس والنفحة لأن النفح يدل على القلة يقال نفحه بعطية: رضخه بها مع أن بناءها للمرة. وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات لأن النفح في معنى القلة والنزارة يقال: نفحته الدابة وهو رمح لين، ونفحه بعطية رضخه والبناء للمرة.
{وَنَضَعُ الموازين} جمع ميزان وهو ما يوزن به الشيء فتعرف كميته. وعن الحسن: هو ميزان له كفتان ولسان. وإنما جمع الموازين لتعظيم شأنها كما في قوله {يا أيها الرسل} [المؤمنون: 51] والوزن لصحائف الأعمال في قول: {القسط} وصفت الموازين بالقسط وهو العدل مبالغة كأنها في نفسها قسط، أو على حذف المضاف أي ذوات القسط {لِيَوْمِ القيامة} لأهل يوم القيامة أي لأجلهم {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} من الظلم {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} وإن كان الشيء مثقال حبة {مثقال} بالرفع: مدني وكذا في (لقمان) على (كان) التامة {مّنْ خَرْدَلٍ} صفة ل {حبة} {أَتَيْنَا بِهَا} أحضرناها. وأنت ضمير المثقال لإضافته إلى الحبة كقولهم (ذهبت بعض أصابعه) {وكفى بِنَا حاسبين} عالمين حافظين، عن ابن عباس رضي الله عنهما: لأن من حفظ شيئاً حسبه وعلّه.
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْراً} قيل: هذه الثلاثة هي التوراة فهي فرقان بين الحق والباطل، وضياء يستضاء به ويتوصل به إلى سبيل النجاة، وذكر أي شرف أو وعظ وتنبيه أو ذكر ما يحتاج الناس إليه في مصالح دينهم. ودخلت الواو على الصفات كما في قوله {وَسَيّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيّا} [آل عمران: 39] وتقول (مررت بزيد الكريم والعالم والصالح). ولما انتفع بذلك المتقون خصهم بقوله: {لّلْمُتَّقِينَ}

.تفسير الآيات (49- 55):

{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)}
ومحل {الذين} جر على الوصفية أو نصب على المدح أو رفع عليه {يَخْشَوْنَ رَبَّهُم} يخافونه {بالغيب} حال أي يخافونه في الخلاء {وَهُمْ مّنَ الساعة} القيامة وأهوالها {مُشْفِقُونَ} خائفون {وهذا} القرآن {ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} كثير الخير غزير النفع {أنزلناه} على محمد {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} استفهام توبيخ أي جاحدون أنه منزل من عند الله.
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ} هداه {مِن قَبْلُ} من قبل موسى وهرون أو من قبل محمد عليه السلام {وَكُنَّا بِهِ} بابراهيم أو برشده {عالمين} أي علمنا أنه أهل لما آتيناه {إِذْ} إما أن تتعلق ب {اتيناه} أو ب {رشده} {قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل} أي الأصنام المصورة على صورة السباع والطيور والإنسان، وفيه تجاهل لهم ليحقر آلهتهم مع علمه بتعظيمهم لها {التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون} أي لأجل عبادتها مقيمون. فلما عجزوا عن الإتيان بالدليل على ذلك.
{قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين} فقلدناهم {قَالَ} إبراهيم {لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ في ضلال مُّبِينٍ} أراد أن المقلدين والمقلدين منخرطون في سلك ضلال ظاهر لا يخفى على عاقل، وأكد ب {أنتم} ليصح العطف لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع {قَالُواْ أَجِئْتَنَا بالحق} بالجد {أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين} أي أجاد أنت فيما تقول أم لاعب استعظاماً منهم إنكاره عليهم واستبعاداً لأن يكون ما هم عليه ضلالاً، فثم أضرب عنهم مخبراً بأنه جاد فيما قال غير لاعب مثبتاً لربوبية الملك العلام وحدوث الأصنام بقوله:

.تفسير الآيات (56- 61):

{قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)}
{قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ} أي التماثيل فأنى يعبد المخلوق ويترك الخالق {وَأَنَاْ على ذلكم} المذكور في التوحيد شاهد {من الشاهدين وتالله} أصله (والله) وفي التاء معنى التعجب من تسهيل الكيد على يده مع صعوبته وتعذره لقوة سلطة نمروذ.
{لاكِيدَنَّ أصنامكم} لأكسرنها {بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} بعد ذهابكم عنها إلى عيدكم، قال ذلك سراً من قومه فسمعه رجل واحد فعرض بقوله {إِنّى سَقِيمٌ} [الصافات: 89] أي سأسقم ليتخلف. فرجع إلى بيت الأصنام {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} قطعاً من الجذ وهو القطع جمع جذاذة كزجاجة وزجاج جذاذ بالكسر: علي، جمع جذيذ أي مجذوذ كخفيف وخفاف {إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ} للأصنام أو للكفار أي فكسرها كلها بفأس في يده إلا كبيرها فعلق الفأس في عنقه {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ} إلى الكبير {يَرْجِعُونَ} فيسألونه عن كاسرها فتبين لهم عجزه، أو إلى إبراهيم ليحتج عليهم، أو إلى الله لما رأوا عجز آلتهم {قَالُواْ} أي الكفار حين رجعوا من عيدهم ورأوا ذلك {مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين} أي إن من فعل هذا الكسر لشديد الظلم لجراءته على الآلهة الحقيقة عندهم بالتوقير والتعظيم {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم} الجملتان صفتان ل {فتى} إلا أن الأول وهو {يذكرهم} أي يعيبهم لابد منه للسمع لأنك لا تقول (سمعت زيداً) وتسكت حتى تذكر شيئاً مما يسمع بخلاف الثاني. وارتفاع {إبراهيم} بأنه فاعل {يقال} فالمراد الاسم المسمى أي الذي يقال له هذا الاسم {قَالُواْ} أي نمروذ وأشراف قومه {فَأْتُواْ بِهِ} أحضروا إبراهيم {على أَعْيُنِ الناس} في محل الحال بمعنى معايناً مشاهداً أي بمرأى منهم ومنظر {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عليه بما سمع منه أو بما فعله كأنهم كرهوا عقابه بلا بينة أو يحضرون عقوبتنا له.

.تفسير الآيات (62- 64):

{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)}
فلما أحضروه {قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَآ ياإبراهيم قَالَ} إبراهيم {بَلْ فَعَلَهُ} عن الكسائي: إنه يقف عليه أي فعله من فعله، وفيه حذف الفاعل وأنه لا يجوز، وجاز أن يكون الفاعل مسنداً إلى الفتى المذكور في قوله {سمعنا فتى يذكرهم} أو إلى {إبراهيم} في قوله {يا إبراهيم} ثم قال: {كَبِيرُهُمْ هذا} وهو مبتدأ وخبر. والأكثر أنه لا وقف، والفاعل {كبيرهم} وهذا وصف أو بدل، ونسب الفعل إلى كبيرهم وقصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي تبكيتاً لهم وإلزاماً للحجة عليهم لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح علموا عجز كبيرهم وأنه لا يصلح إلهاً، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق أنيق: أأنت كتبت هذا وصاحبك أمي فقلت له (بل كتبته أنت) كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي، لأن إثباته للعاجز منكما والأمر كائن بينكما استهزاء به وإثبات للقادر، ويمكن أن يقال: غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة وكان غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعل إليه لأن الفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه، ويجوز أن يكون حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعى إلهاً أن يقدر على هذا. ويحكى أنه قال: غضب أن تعبد هذه الصغار معه وهو أكبر منها فكسرهن، أو هو متعلق بشرط لا يكون وهو نطق الأصنام فيكون نفياً للمخبر عنه أي بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون، وقوله {فَاسْئَلُوهُمْ} اعتراض. وقيل: عرض بالكبير لنفسه وإنما أضاف نفسه إليهم لاشتراكهم في الحضور {فَاسْئَلُوهُمْ} عن حالهم {إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} وأنتم تعلمون عجزهم عنه.
{فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ} فرجعوا إلى عقولهم وتفكروا بقلوبهم لما أخذ بمخانقهم {فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} على الحقيقة بعبادة ما لا ينطق لا من ظلمتموه حين قلتم {من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين} فإن من لا يدفع عن رأسه الفاس، كيف يدفع عن عابديه البأس؟