فصل: تفسير الآيات (92- 96):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (92- 96):

{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)}
{إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} لأمة الملة وهذه إشارة إلى ملة الإسلام وهي ملة جميع الأنبياء. و{أُمَّةً وَاحِدَةً} حال أي متوحدة غير متفرقة والعالم ما دل عليه اسم الإشارة أي أن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها يشار إليها ملة واحدة غير مختلفة {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون} أي ربيتكم اختياراً فاعبدوني شكراً وافتخاراً والخطاب للناس كافة.
{وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أصل الكلام وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات، والمعنى وجعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً وصاروا فرقاً وأحزاباً. ثم توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة {كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون} فنجازيهم على أعمالهم {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} شيئاً {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بما يجب الإيمان به {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي فإن سعيه مشكور مقبول والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه وقد نفى نفي الجنس ليكون أبلغ {وَإِنَّا لَهُ} للسعي أي الحفظة بأمرنا {كاتبون} في صحيفة عمله فنثيبه به {وَحَرَامٌ} {وحرم} كوفي غير حفص وخلف وهما لغتان كحل وحلال وزناً وضده معنى والمراد بالحرام الممتنع وجوده {على قَرْيَةٍ أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} والمعنى ممتنع على مهلك غير ممكن أن لا يرجع إلى الله بالبعث، أو حرام على قرية أهلكناها أي قدرنا إهلاكهم أو حكمنا بإهلاكهم ذلك وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعي المشكور غير المكفور أنهم لا يرجعون من الكفر إلى الإسلام.
{حتى} هي التي يحكى بعدها الكلام والكلام المحكي الجملة من الشرط والجزاء أعني {إِذَا} و(ما) في حيزها {فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} أي فتح سدهما فحذف المضاف كما حذف المضاف إلى قرية {فتّحت}: شامي وهما قبيلتان من جنس الإنس. يقال: الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج {وَهُمْ} راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر. وقيل: هم يأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد {مّن كُلّ حَدَبٍ} نشز من الأرض أي ارتفاع {يَنسِلُونَ} يسرعون.

.تفسير الآيات (97- 101):

{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)}
{واقترب الوعد الحق} أي القيامة وجواب {إذا} {فَإِذَا هِىَ} وهي (إذا) المفاجأة وهي تقع في المجازاة سادة مسد الفاء كقوله {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] فإذا جاءت الفاء معها تعاونتاً على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد، ولو قيل فهي شاخصة أو إذا هي شاخصة كان سديداً وهي ضمير مبهم يوضحه الأبصار ويفسره {شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ} أي مرتفعة الأجفان لا تكاد تطرف من هول ما هم فيه {ياويلنا} متعلق بمحذوف تقديره يقولون يا ويلنا و{يقولون} حال من {الذين كفروا} {قَدْ كُنَّا في غَفْلَةٍ مّنْ هذا} اليوم {بَلْ كُنَّا ظالمين} بوضعنا العبادة في غير موضعها.
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} يعني الأصنام وإبليس وأعوانه لأنهم بطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم {حَصَبُ} حطب وقرئ {حطب} {جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} فيها داخلون {لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءالِهَةً} كما زعمتم {مَّا وَرَدُوهَا} ما دخلوا النار {وَكُلٌّ} أي العابد والمعبود {فِيهَا} في النار {خالدون لَهُمْ} للكفار {فِيهَا زَفِيرٌ} أنين وبكاء وعويل.
{وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} شيئاً ما لأنهم صاروا صماً وفي السماع نوع أنس فلم يعطوه.
{إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن وهي السعادة أو البشرى بالثواب أو التوفيق للطاعة فنزلت جواباً لقول ابن الزبعري عند تلاوته عليه السلام على صناديد قريش {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} إلى قوله {خالدون} أليس اليهود عبدوا عزيراً، والنصارى المسيح، وبنو مليح الملائكة على أن قوله {وما تعبدون} لا يتناولهم لأن (ما) لمن لا يعقل إلا أنهم أهل عناد فزيد في البيان {أولئك} يعني عزيراً والمسيح والملائكة {عَنْهَا} عن جهنم {مُبْعَدُونَ} لأنهم لم يرضوا بعبادتهم. وقيل: المراد بقوله {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} جميع المؤمنين لما روي أن عليًّا رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، وقال الجنيد رحمه الله: سبقت لهم منا العناية في البداية فظهرت لهم الولاية في النهاية.

.تفسير الآيات (102- 104):

{لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)}
{لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} صوتها الذي يحس وحركة تلهبها وهذه مبالغة في الإبعاد عنها أي لا يقربونها حتى لا يسمعوا صوتها وصوت من فيها {وَهُمْ في مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ} من النعيم {خالدون} مقيمون والشهوة طلب النفس اللذة {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} النفخة الأخيرة {وتتلقاهم الملئكة} أي تستقبلهم الملائكة مهنئين على أبواب الجنة يقولون {هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم في الدنيا.
العامل في {يَوْمَ نَطْوِى السماء} {لا يحزنهم} أو {تتلقاهم} {تطوى السماء} يزيد، وطيها تكوير نجومها ومحو رسومها أو هو ضد النشر نجمعها ونطويها {كَطَىّ السجل} أي لصحيفة {لِلْكُتُبِ} حمزة وعلي وحفص أي للمكتوبات أي لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة وغيرهم للكتاب أي كما يطوى الطومار للكتابة، أو لما يكتب فيه لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع على المكتوب. وقيل: السجل: ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه. وقيل: كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والكتاب على هذا اسم الصحيفة المكتوب فيها والطي مضاف إلى الفاعل وعلى الأول إلى المفعول {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} انتصب الكاف بفعل مضمر يفسره {نعيده} و(ما) موصولة أي نعيد مثل الذي بدأناه نعيده، و{أول خلق} ظرف ل {بدأنا} أي أول ما خلق، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى. وأول الخلق إيجاده أي فكما أوجده أو لا يعيده ثانياً تشبيهاً للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء. والتنكير في خلق مثله في قولك (هو أول رجل جاءني) تريد أول الرجال ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلاً رجلاً فكذلك معنى {أول خلق} أول الخلق بمعنى أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع {وَعْداً} مصدر مؤكد لأن قوله {تعيده} عدة للإعادة {عَلَيْنَا} أي وعدا كائناً لا محالة {إِنَّا كُنَّا فاعلين} ذلك أي محققين هذا الوعد فاستعدوا له وقدموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال.

.تفسير الآيات (105- 107):

{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الزبور} كتاب داود عليه السلام {مِن بَعْدِ الذكر} التوراة {أن الأرض} أي الشام {يَرِثُهَا عِبَادِىَ} ساكنة الياء: حمزة غيره بفتح الياء {الصالحون} أي أمة محمد عليه السلام، أو الزبور بمعنى المزبور أي المكتوب يعني ما أنزل على الأنبياء من الكتب. والذكر أم الكتاب يعني اللوح لأن الكل أخذوا منه. دليله قراءة حمزة وخلف بضم الزاي على جمع الزبر بمعنى المزبور والأرض أرض الجنة.
{إِنَّ في هذا} أي القرآن أو في المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ {لبلاغا} لكفاية وأصله ما تبلغ به البغية {لّقَوْمٍ عابدين} موحدين وهم أمة محمد عليه السلام {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً} قال عليه السلام: «إنما أنا رحمة مهداة» {للعالمين} لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه ومن لم يتبع فإنما أتى من نفسه حيث ضيع نصيبه منها. وقيل: هو رحمة للمؤمنين في الدارين وللكافرين في الدنيا بتأخير العقوبة فيها. وقيل: هو رحمة للمؤمنين والكافرين في الدنيا بتأخير عذاب الاستئصال والمسخ والخسف. و{رحمة} مفعول له أو حال أي ذا رحمة.

.تفسير الآيات (108- 112):

{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)}
{قُلْ إِنَّمَا} إنما لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم نحو (إنما زيد قائم وإنما يقوم زيد). وفاعل {يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} والتقدير يوحي إليَّ وحدانية إلهي، ويجوز أن يكون المعنى أن الذي يوحي إليّ فتكون (ما) موصولة {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} استفهام بمعنى الأمر أي أسلموا {فَإِن تَوَلَّوْاْ} عن الإسلام {فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ} أعلمتكم ما أمرت به {على سَوَاء} حال أي مستوين في الإعلام به ولم أخصص بعضكم، وفيه دليل بطلان مذهب الباطنية {وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} أي لا أدري متى يكون يوم القيامة لأن الله تعالى لم يطلعني عليه ولكني أعلم بأنه كائن لا محالة، أو لا أدري متى يحل بكم العذاب إن لم تؤمنوا {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} إنه عالم بكل شيء يعلم ما تجاهرونني به من الطعن في الإسلام وما تكتمونه في صدوركم من الأحقاد للمسلمين وهو مجازيكم عليه.
{وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ} وما أدري لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا امتحان لكم لينظر كيف تعملون {ومتاع إلى حِينٍ} وتمتيع لكم إلى الموت ليكون ذلك حجة عليكم {قَالَ رَبّ احكم بالحق} اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل، أو بما يحق عليهم من العذاب ولا تحابهم وشدد عليهم كما قال: «واشدد وطأتك على مضر». {قال رب} حفص على حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم {رب احكم} يزيد {ربي أحكم} زيد عن يعقوب {وَرَبُّنَا الرحمن} العاطف على خلقه {المستعان} المطلوب منه المعونة {على مَا تَصِفُونَ} وعن ابن ذكوان بالياء، كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه وكانوا يطمعون أن تكون الشوكة لهم والغلبة فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وخذلهم أي الكفار وهو المستعان على ما يصفون.

.سورة الحج:

.تفسير الآيات (1- 2):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}
{يَأَيُّهَا الناس اتقوا رَبَّكُمُ} أمر بني آدم بالتقوى، ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة بقوله {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَئ عَظِيمٌ} لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوروها بعقولهم حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم بامتثال ما أمرهم به ربهم من التردي بلباس التقوى الذي يؤمنهم من تلك الأفزاع. والزلزلة شدة التحريك والإزعاج، وإضافة الزلزلة إلى الساعة إضافة المصدر إلى فاعله كأنها هي التي تزلزل الأرض على المجاز الحكمي، أو إلى الظرف لأنها تكون فيها كقوله {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} [سبأ: 33] ووقتها يكون يوم القيامة أو عند طلوع الشمس من مغربها، ولا حجة فيها للمعتزلة في تسمية المعدوم شيئاً فإن هذا اسم لها حال وجودها وانتصب {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} أي الزلزلة أو الساعة بقوله {تَذْهَلُ} تغفل. والذهول: الغفلة {كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل. وقيل {مرضعة} ليدل على أن ذلك الهول إذا حدث وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة إذ المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ} أي حبلى {حِمْلِهَا} ولدها قبل تمامه. عن الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام {وَتَرَى الناس} أيها الناظر {سكارى} على التشبيه لما شاهدوا بساط العزة وسلطنة الجبروت وسرادق الكبرياء حتى قال كل نبي: نفسي نفسي {وَمَا هُم بسكارى} على التحقيق {ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} فخوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه. وعن الحسن: وترى الناس سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب. {سكرى} فيهما بالإمالة: حمزة وعلي وهو كعطشى في عطشان. رُوي أنه نزلت الآيتان ليلاً في غزوة بني المصطلق فقرأهما النبي عليه السلام فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة.

.تفسير الآيات (3- 4):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)}
{وَمِنَ الناس مَن يجادل في الله} في دين الله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال. نزلت في النضر بن الحرث وكان جدلاً يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن: أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء من بلي، أو هي عامة في كل من يخاصم في الدين بالهوى {وَيَتَّبِعْ} في ذلك {كُلَّ شيطان مَّرِيدٍ} عاتٍ مستمر في الشر. ولا وقف على {مريد} لأن ما بعده صفته {كُتِبَ عَلَيْهِ} قضي على الشيطان {أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ} تبعه أي تبع الشيطان {فأَنَّه} فأن الشيطان {يُضِلُّهُ} عن سواء السبيل {وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} النار. قال الزجاج: الفاء في فأنه للعطف و(أن) مكررة للتأكيد. ورد عليه أبو علي وقال: إن (من) إن كان للشرط فالفاء دخل لجزاء الشرط، وإن كان بمعنى الذي فالفاء دخل على خبر المبتدأ والتقدير: فالأمر أنه يضله. قال: والعطف والتأكيد يكون بعد تمام الأول، والمعنى كتب على الشيطان إضلال من تولاه وهدايته إلى النار.
ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال:

.تفسير الآية رقم (5):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)}
{ياأيها الناس إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مّنَ البعث} يعني إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم وقد كنتم في الابتداء تراباً وماء، وليس سبب إنكاركم البعث إلا هذا وهو صيرورة الخلق تراباً وماء {فَإِنَّا خلقناكم} أي أباكم {مّن تُرَابٍ ثُمَّ} خلقتم {مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} أي قطعة دم جامدة {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} أي لحمة صغيرة قدر ما يمضغ {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} المخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب كأن الله عز وجل يخلق المضغة متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم. وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة {لّنُبَيّنَ لَكُمْ} بهذا التدريج كمال قدرتنا وحكمتنا، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً ثم من نطفة ثانياً ولا مناسبة بين التراب والماء وقدر أن يجعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاماً قادر على إعادة ما بدأه {وَنُقِرُّ} بالرفع عند غير المفضل مستأنف بعد وقف. أي نحن نثبت {فِى الأرحام مَا نَشَاء} ثبوته {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي وقت الولادة وما لم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ} من الرحم {طِفْلاً} حال وأريد به الجنس فلذا لم يجمع، أو أريد به ثم نخرج كل واحد منكم طفلاً {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ} ثم نربيكم لتبلغوا {أَشُدَّكُمْ} كمال عقلكم وقوتكم وهو من ألفاظ الجموع التي لا يستعمل لها واحد {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى} عند بلوغ الأشد أو قبله أو بعده {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} أخسه يعني الهرم والخرف {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} أي لكيلا يعلم شيئاً من بعد ما كان يعلمه أو لكيلا يستفيد علماً وينسى ما كان عالماً به.
ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً} ميتة يابسة {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت} تحركت بالنبات {وَرَبَتْ} وانتفخت. {وربأت} حيث كان: يزيد ارتفعت {وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ} صنف {بَهِيجٍ} حسن صار للناظرين إليه.