فصل: تفسير الآيات (24- 27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (24- 27):

{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)}
{فَقَالَ الملؤا الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ} أي أشرافهم لعوامهم {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} يأكل ويشرب {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي يطلب الفضل عليكم ويترأس {وَلَوْ شَاء الله} إرسال رسول {لأَنزَلَ ملائكة} لأرسل ملائكة {مَّا سَمِعْنَا بهذا} أي بإرسال بشر رسولاً أو بما يأمرنا به من التوحيد وسب آلهتنا والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية للحجر ولم يرضوا بالنبوة للبشر {في ءَابائنا الأوَّلين * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} جنون {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ} فانتظروا واصبروا عليه إلى زمان حتى ينجلي أمره فإن أفاق من جنونه وإلا قتلتموه {قَالَ رَبّ انصرنى بِمَا كَذَّبُونِ} فلما أيس من إيمانهم دعا الله بالانتقام منهم، والمعنى أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي إذ في نصرته إهلاكهم، أو {انصرني} بدل {ما كذبون} كقولك (هذا بذاك) أي بدل ذاك والمعنى أبدلني من غنم تكذيبهم سلوة النصرة عليهم {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} أي أجبنا دعاءه فأوحينا إليه {أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} أي تصنعه وأنت واثق بحفظ الله لك ورؤيته إياك، أو بحفظنا وكلاءتنا كأن معك من الله حفاظاً يكلئونك بعيونهم لئلا يتعرض لك ولا يفسد عليك مفسد عملك ومنه قولهم (عليه من الله عين كالئة). {وَوَحْيِنَا} أمرنا وتعليمنا إياك صنعتها. رُوي أنه أوحي إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر.
{فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا} أي عذابنا بأمرنا {وَفَارَ التنور} أي فار الماء من تنور الخبز أي أخرج سبب الغرق من موضع الحرق ليكون أبلغ في الإنذار والاعتبار. روي أنه قيل لنوح: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب وكان تنور آدم فصار إلى نوح وكان من حجارة. واختلف في مكانه فقيل: في مسجد الكوفة. وقيل: بالشام. وقيل: بالهند. {فاسلك فِيهَا} فأدخل في السفينة {مِن كُلّ زَوْجَيْنِ} من كلّ أمتي زوجين وهما أمة الذكر وأمة الأنثى كالجمال والنوق والحصن والرماك {اثنين} واحدين مزدوجين كالجمل والناقة والحصان والرمكة. روي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض من كل حفص والمفضل أي من كل أمة زوجين اثنين و{اثنين} تأكيد وزيادة بيان {وَأَهْلَكَ} ونساءك وأولادك {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} من الله بإهلاكه وهو ابنه وإحدى زوجتيه فجيء ب (على) مع سبق الضار كما جيء باللام مع سبق النافع في قوله {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين} [الصافات: 171] ونحوها {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} {مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِى في الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} ولا تسألني نجاة الذين كفروا فإني أغرقهم.

.تفسير الآيات (28- 30):

{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}
{فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك} فإذا تمكنتم عليها راكبين {فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} أمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم. ولم يقل فقولوا وإن كان {فإذا استويت أنت ومن معك} في معنى إذا استويتم لأنه نبيهم وإمامهم فكان قوله قولهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة {وَقُلْ} حين ركبت على السفينة أو حين خرجت منها {رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً} أي إنزالاً أو موضع إنزال {منزلاً} أبو بكر أي مكاناً {مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} والبركة في السفينة النجاة فيها وبعد الخروج منها كثرة النسل وتتابع الخيرات {إِنَّ في ذَلِكَ} فيم فعل بنوح وقومه {لأَيَاتٍ} لعبراً ومواعظ {وَإِنْ} هي المخففة من المثقلة واللام هي الفارقة بين النافية وبينها والمعنى وإن الشأن والقصة {كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد، أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويذكر كقوله تعالى: {وَلَقَدْ تركناها ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 15].

.تفسير الآيات (31- 34):

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)}
{ثُمَّ أَنشَأْنَا} خلقنا {مّن بَعْدِهِمْ} من بعد نوح {قرناً آخرين} هم عاد قوم هود ويشهد له قول هود {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في (الأعراف) و(هود) و(الشعراء) {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ} الإرسال يعدى ب (إلى) ولم يعد ب (في) هنا وفي قوله {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ} [الرعد: 30] {وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ} [الأعراف: 94] ولكن الأمة والقرية جعلت موضعا للإرسال كقول رؤبة:
أرسلت فيها مصعباً ذا إقحام

{رَسُولاً} هو هود {مِنْهُمْ} من قومهم {أَنِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (أن) مفسرة ل {أرسلنا} أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله.
{وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ} ذكر مقالة قوم هود في جوابه في (الأعراف) وهود بغير واو لأنه على تقدير سؤال سائل قال: فما قال قومه؟ فقيل له: قالوا كيت وكيت، وههنا مع الواو لأنه عطف لما قالوه على ما قاله الرسول، ومعناه أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل وليس بجواب للنبي صلى الله عليه وسلم متصل بكلامه ولم يكن بالفاء، وجيء بالفاء في قصة نوح لأنه جواب لقوله واقع عقيبه {الذين كَفَرُواْ} صفة للملأ أو لقومه {وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الآخرة} أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك {وأترفناهم} ونعمناهم {في الحياة الدنيا} بكثرة الأموال والأولاد {مَا هذا} أي النبي {إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} أي منه فحذف لدلالة ما قبله عليه أي من أين يدعي رسالة الله من بينكم وهو مثلكم {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ} فيما يأمركم به وينهاكم عنه {إِنَّكُمْ إِذاً} واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم {لخاسرون} بالانقياد لمثلكم، ومن حمقهم أنهم أبوا اتباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم.

.تفسير الآيات (35- 40):

{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)}
{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ} بالكسر: نافع وحمزة وعلي وحفص، وغيرهم بالضم {وَكُنتُمْ تُرَاباً وعظاما أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} مبعوثون للسؤال والحساب والثواب والعقاب وثنى {أنكم} للتأكيد، وحسن ذلك للفصل بين الأول والثاني بالظرف و{مخرجون} خبر عن الأول والتقدير: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً.
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} وبكسر التاء: يزيد، ورُوي عنه بالكسر والتنويم فيهما، والكسائي يقف بالهاء وغيره بالتاء وهو اسم للفعل واقع موقع بعد فاعلها مضمر أي بعد التصديق أو الوقوع {لِمَا تُوعَدُونَ} من العذاب، أو فاعلها {ما توعدون} واللام زائدة أي بعد ما توعدون من البعث {إِنْ هِىَ} هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه وأصله إن الحياة {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} ثم وضع {هي} موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها، والمعنى لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها ودنت منا، وهذا لأن (إن) النافية دخلت على (هي) التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت (لا) التي لنفي الجنس {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي يموت بعض ويولد بعض، ينقرض قرن فيأتي قرن آخر، أو فيه تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وهو قراءة أبي وابن مسعود رضي الله عنهما {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعد الموت {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً} أي ما هو إلا مفتر على الله فيما يدعيه من استنبائه وفيما يعدنا من البعث {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدقين.
{قَالَ رَبّ انصرنى بِمَا كَذَّبُونِ} فأجاب الله دعاء الرسول بقوله {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ} {قليل} صفة للزمان كقديم وحديث في قولك(ما رأيته قديماً ولا حديثاً) وفي معناه عن قريب و(ما) زائدة أو بمعنى شيء أو زمن وقليل بدل منها وجواب القسم المحذوف {لَّيُصْبِحُنَّ نادمين} إذا عاينوا ما يحل بهم.

.تفسير الآيات (41- 45):

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)}
{فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} أي صيحة جبريل صاح عليهم فدمرهم {بالحق} بالعدل من الله يقال فلان يقضي بالحق أي بالعدل {فجعلناهم غُثَاء} شبههم في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما يلي واسودّ من الورق والعيدان {فَبُعْداً} فهلاكاً يقال بعد بعداً أو بعداً أي هلك وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا يستعمل إظهارها {لّلْقَوْمِ الظالمين} بيان لمن دعي عليه بالبعد نحو {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءاخَرِينَ} قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ} (من) صلة أي ما تسبق أمة {أَجَلُهَا} المكتوب لها والوقت الذي حدد لهلاكها وكتب {وَمَا يَسْتَئَخِرُونَ} لا يتأخرون عنه.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} فعلى والألف للتأنيث كسكرى لأن الرسل جماعة ولذا لا ينون لأنه غير منصرف {تترى} بالتنوين: مكي وأبو عمرو ويزيد على أن الألف للإلحاق كأرطى، وهو نصب على الحال في القراءتين أي متتابعين واحداً بعد واحد، وتاؤها فيهما بدل من الواو والأصل (وترى) من الوتر وهو الفرد فقلبت الواو تاء كتراث {كُلَّمَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} الرسول يلابس المرسل والمرسل إليه والإضافة تكون بالملابسة فتصح إضافته إليهما {فَأَتْبَعْنَا} الأمم والقرون {بَعْضُهُم بَعْضاً} في الهلاك {وجعلناهم أَحَادِيثَ} أخباراً يسمع بها ويتعجب منها، والأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وتكون جمعاً للأحدوثة وهي ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً وهو المراد هنا {فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هارون} بدل من {أخاه} {بأياتنا} التسع {وسلطان مُّبِينٍ} وحجة ظاهرة.

.تفسير الآيات (46- 51):

{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)}
{إلى فِرْعَوْنَ وَمَلاَئِه فاستكبروا} امتنعوا عن قبول الإيمان ترفعاً وتكبراً {وَكَانُواْ قَوْماً عالين} متكبرين مترفعين {فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} البشر يكون واحداً وجمعاً ومثل وغير يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث {وَقَوْمُهُمَا} أي بنو إسرائيل {لَنَا عابدون} خاضعون مطيعون وكل من دان لملك فهو عابد له عند العرب {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين} بالغرق.
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى} أي قوم موسى {الكتاب} التوراة {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} يعملون بشرائعها ومواعظها {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً} تدل على قدرتنا على ما نشاء لأنه خلق من غير نطفة واحدة، لأن الأعجوبة فيهما واحدة، أو المراد وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها {وءاويناهما} جعلنا مأواهما أي منزلهما {إلى رَبْوَةٍ} شامي وعاصم. {رُبوة} غيرهما أي أرض مرتفعة وهي بيت المقدس أو دمشق أو الرملة أو مصر {ذَاتِ قَرَارٍ} مستقر من أرض مستوية منبسطة أو ذات ثمار وماء يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها {وَمَعِينٍ} وماء ظاهر جارٍ على وجه الأرض وهو مفعول أي مدرك بالعين بظهوره من عانه إذا أدركه بعينه، أو فعيل لأنه نفاع بظهوره وجريه من الماعون وهي المنفعة {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما لأنهم أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة، وإنما المعنى الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك ووصى به ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه، أو هو خطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام لفضله وقيامه مقام الكل في زمانه وكان يأكل من الغنائم، أو لعيسى عليه السلام لاتصال الآية بذكره وكان يأكل من غزل أمه وهو أطيب الطيبات، والمراد بالطيبات ما حل والأمر للتكليف أو ما يستطاب ويستلذ والأمر للترفيه والإباحة {واعملوا صالحا} موافقاً للشريعة {إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فأجازيكم على أعمالكم.

.تفسير الآيات (52- 56):

{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}
{وَإِنَّ هذه} كوفي على الاستئناف. {وأن} حجازي وبصري بمعنى ولأن أي فاتقون لأن هذه، أو معطوف على ما قبله أي بما تعملون عليم وبأن هذه. أو تقديره واعلموا أن هذه {أُمَّتُكُمْ} أي ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها.
{أُمَّةً وَاحِدَةً} ملة واحدة وهي شريعة الاسلام. وانتصاب {أمة} على الحال والمعنى وإن الدين دين واحد وهو الاسلام ومثله {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ} وحدي {فاتقون} فخافوا عقابي في مخالفتكم أمري {فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} تقطع بمعنى قطع أي قطعوا أمر دينهم {زُبُراً} جمع زبور أي كتباً مختلفة يعني جعلوا دينهم أدياناً. وقيل: تفرقوا في دينهم فرقاً كلٍ فرقة تنتحل كتاباً. وعن الحسن: قطعوا كتاب الله قطعاً وحرفوه. وقرئ {زَبرا} جمع زبرة أي قطعاً {كُلُّ حِزْبٍ} كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم {بِمَا لَدَيْهِمْ} من الكتاب والدين أو من الهوى والرأي {فَرِحُونَ} مسرورون معتقدون أنهم على الحق {فَذَرْهُمْ في غَمْرَتِهِمْ} جهالتهم وغفلتهم {حتى حِينٍ} أي إلى أن يقتلون أو يموتوا.
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} (ما) بمعنى الذي وخبر (أن)
{نُسَارِعُ لَهُمْ في الخيرات} والعائد من خبر (أن) إلى اسمها محذوف أي نسارع لهم به، والمعنى أن هذا الإمداد ليس إلا استدراجاً لهم إلى المعاصي وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعالجة بالثواب جزاء على حسن صنيعهم. وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح لأنهم يقولون إن الله لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له في الدين، وقد أخبر أن ذلك ليس بخير لهم في الدين ولا أصلح {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} بل استدراك لقوله أيحسبون أي أنهم أشباه البهائم لا شعور لهم حتى يتأملوا في ذلك أنه استدراج أو مسارعة في الخير. ثم بين ذكر أوليائه فقال: