فصل: تفسير الآيات (57- 64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (57- 64):

{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)}
{إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ} أي خائفون {والذين هُم بئايات رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أي بكتب الله كلها لا يفرقون بين كتبه كالذين تقطعوا أمرهم بينهم وهم أهل الكتاب {والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} كمشركي العرب {والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ} أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات. وقريء {يأتون ما أتوا} بالقصر أي يفعلون ما فعلوا {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} خائفة أي لا تقبل منهم لتقصيرهم {أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون} الجمهور على أن التقدير لأنهم وخبر {إن الذين} {أُوْلَئِكَ يسارعون في الخيرات} يرغبون في الطاعات فيبادرونها {وَهُمْ لَهَا سابقون} أي لأجل الخيرات سابقون إلى الجنات أو لأجلها سبقوا الناس.
{وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أي طاقتها يعني أن الذي وصف به الصالحون غير خارج عن حد الوسع والطاقة، وكذلك كل ما كلفه عباده وهو رد على من جوز تكليف ما لا يطاق {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} أي اللوح أو صحيفة الأعمال {يَنطِقُ بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لا يقرؤون منه يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل لا زيادة فيه ولا نقصان، ولا يظلم منهم أحد بزيادة عقاب أو نقصان ثواب أو بتكليف ما لا وسع له به {بَلْ قُلُوبُهُمْ في غَمْرَةٍ مّنْ هذا} بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة لها مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين {وَلَهُمْ أعمال مّن دُونِ ذلك} أي ولهم أعمال خبيثة متجاوزة متخطية لذلك أي لما وصف به المؤمنون {هُمْ لَهَا عاملون} وعليها مقيمون لا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب {حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} متنعميهم {بالعذاب} عذاب الدنيا وهو القحط سبع سنين حين دعا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، أو قتلهم يوم بدر. و(حتى) هي التي يبتدأ بعدها الكلام والكلام الجملة الشرطية {إذا هم يجئرون} يصرخون استغاثة والجؤار الصراخ باستغاثة فيقال لهم:

.تفسير الآيات (65- 70):

{لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)}
{لاَ تَجْئَرُواْ اليوم} فإن الجؤار غير نافع لكم {إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} أي من جهتنا لا يلحقكم نصر أو معونة.
{قَدْ كَانَتْ ءايَتِى تتلى عَلَيْكُمْ} أي القرآن {فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ} ترجعون القهقرى والنكوص أن يرجع القهقرى وهو أقبح مشية لأنه لا يرى ما وراءه.
{مُسْتَكْبِرِينَ} متكبرين على المسلمين حال من {تنكصون} {بِهِ} بالبيت أو بالحرم لأنهم يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم، والذي سوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت أو ب {آياتي} لأنها في معنى كتابي، ومعنى استكبارهم بالقرآن تكذيبهم به استكباراً. ضمن مستكبرين معنى مكذبين فعدي تعديته أو يتعلق الباء بقوله {سامرا} تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه، وكانوا يجتمعون حول البيت يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته شعراً وسحراً. والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع وقرئ {سمّارا}. أو بقوله {تَهْجُرُونَ} وهو من الهجر الهذيان {تهجرون}: نافع من أهجر في منطقه إذا فحش {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول} أفلم يتدبروا القرآن ليعلموا أنه الحق المبين فيصدقوا به وبمن جاء به {أم جَآءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ الأولين} بل أجاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين فلذلك أنكروه واستبدعوه {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ} محمداً بالصدق والأمانة ووفور العقل وصحة النسب وحسن الأخلاق أي عرفوه بهذه الصفات {فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} بغياً وحسداً {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} جنون وليس كذلك لأنهم يعلمون أنه أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً {بَلْ جَاءهُمْ بالحق} الأبلج والصراط المستقيم وبما خالف شهواتهم وأهواءهم وهو التوحيد والإسلام ولم يجدوا له مرداً ولا مدفعاً فلذلك نسبوه إلى الجنون {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كارهون} وفيه دليل على أن أقلهم ما كان كارهاً للحق بل كان تاركاً للإيمان به أنفة واستنكافاً من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه كأبي طالب.

.تفسير الآيات (71- 75):

{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)}
{وَلَوِ اتبع الحق} أي الله {أَهْوَاءضهُمْ} فيما يعتقدون من الآلهة {لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} كما قال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] {وَمَن فِيهِنَّ} خص العقلاء بالذكر لأن غيرهم تبع {بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ} بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أو شرفهم لأن الرسول منهم والقرآن بلغتهم، أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه {وَيَقُولونَ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاولين} [الصافات: 168] الآية. {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} بسوء اختيارهم {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ} حجازي وبصري وعاصم، {خرجا فخرج} شامي، {خراجا فخراج} علي وحمزة، وهو ما تخرجه إلى الإمام من زكاة أرضك وإلى كل عامل من أجرته وجعله، والخرج أخص من الخراج تقول (خراج القرية وخرج الكوفة) فزيادة اللفظ لزيادة المعنى ولذا حسنت لقراءة الأولى يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق فالكثير من الخالق خير {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} أفضل المعطين {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} وهو دين الإسلام فحقيق أن يستجيبوا لك.
{وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لناكبون} لعادلون عن هذا الصراط المذكور وهو الصراط المستقيم {وَلَوْ رحمناهم وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ} لما أخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز «جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال: بلى فقال: قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية» والمعنى لو كشف الله عنهم هذا الضر وهو القحط الذي أصابهم برحمته لهم ووجدوا الخصب {لَّلَجُّواْ} أي لتمادوا {فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ} يترددون يعني لعادوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولذهب عنهم هذا التملق بين يديه.

.تفسير الآيات (76- 78):

{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)}
{وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} استشهد على ذلك بأنا أخذناهم أولاً بالسيوف وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم، فما وجدت بعد ذلك منهم استكانة أي خضوع ولا تضرع. وقوله {وما يتضرعون} عبارة عن دوام حالهم أي وهم على ذلك بعد ولذا لم يقل وما تضرعوا. ووزن استكان استفعل من الكون أي انتقل من كون إلى كون كما قيل {استحال} إذا انتقل من حال إلى حال.
{حتى إِذَا فَتَحْنَا} {فتّحنا} يزيد {عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي باب الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} متحيرون آيسون من كل خير. وجاء أعتاهم وأشدهم شكيمة في العناد ليستعطفك أو محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما رؤي فيهم لين مقادة وهم كذلك حتى إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون كقوله {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون} [الروم: 12] {وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} خصهما بالذكر لأنها يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي تشكرون شكراً قليلاً. و{ما} مزيدة للتأكيد بمعنى حقاً، والمعنى إنكم لم تعرفوا عظم هذه النعم ووضعتموها غير مواضعها فلم تعملوا أبصاركم وأسماعكم في آيات الله وأفعاله، ولم تستدلوا بقلوبكم فتعرفوا المنعم ولم تشكروا له شيئا.

.تفسير الآيات (79- 85):

{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)}
{وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ} خلقكم وبثكم بالتناسل {فِى الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم {وَهُوَ الذي يُحىِ وَيُمِيتُ} أي يحيى النسم بالإنشاء ويميتها بالإفناء {وَلَهُ اختلاف اليل والنهار} أي مجيء أحدهما عقيب الآخر واختلافهما في الظلمة والنور أو في الزيادة والنقصان وهو مختص به ولا يقدر على تصريفهما غيره {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فتعرفوا قدرتنا على البعث أو فتستدلوا بالصنع على الصانع فتؤمنوا {بَلْ قَالُواْ} أي أهل مكة {مِثْلَ مَا قَالَ الأولون} أي الكفار قبلهم. ثم بين ما قالوا بقوله {قَالُواْ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} {متنا} نافع وحمزة وعلي وحفص.
{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هذا} أي البعث {مِن قَبْلُ} مجيء محمد {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين} جمع أسطار جمع سطر وهي ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له وجمع أسطور أوفق.
ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بإقامة الحجة على المشركين بقوله {قُل لّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فإنهم {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} لأنهم مقرون بأنه الخالق فإذا قالوا {قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} فتعلموا أن من فطر الأرض ومن فيها كان قادراً على إعادة الخلق، وكان حقيقاً بأن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية. {أفلا تذكرون} بالتخفيف: حمزة وعلي وحفص، وبالتشديد: غيرهم.

.تفسير الآيات (86- 91):

{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)}
{قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أفلا تخافونه فلا تشركوا به، أو أفلا تتقون في جحودكم قدرته على البعث مع اعترافكم بقدرته على خلق هذه الأشياء؟ {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَئ} الملكوت الملك والواو والتاء للمبالغة فتنبيء عن عظم الملك {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أجرت فلاناً على فلان إذا أغثته منه ومنعته يعني وهو يغيث من يشاء ممن يشاء ولا يغيث أحد منه أحداً {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ} تخدعون عن الحق أو عن توحيده وطاعته، والخادع هو الشيطان والهوى الأول لله بالإجماع إذ السؤال لمن، وكذا الثاني والثالث عند غير أهل البصرة على المعنى لأنك إذا قلت: من رب هذا؟ فمعناه لمن هذا فيجاب لفلان كقول الشاعر:
إذا قيل من رب المزالف والقرى ** ورب الجياد الجرد قيل لخالد

أي لمن المزالف. ومن قرأ بحذفه فعلى الظاهر لأنك إذا قلت: من رب هذا؟ فجوابه فلان {بَلْ أتيناهم بالحق} بأن نسبة الولد إليه محال والشرك باطل {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} في قولهم اتخذ الله ولداً ودعائهم الشريك.
ثم أكد كذبهم بقوله {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ} لأنه منزه عن النوع والجنس وولد الرجل من جنسه {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله} وليس معه شريك في الألوهية {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ} لانفرد كل واحد من الآلهة بالذي خلقه فاستبدبه ولتمييز ملك كل واحد منهم عن الآخر {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} ولغلب بعضهم بعضاً كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة وهم متغالبون، وحين لم تروا أثراً لتمايز المماليك وللتغالب فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء، ولا يقال: {إذاً} لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب وههنا وقع {لذهب} جزاء وجواباً ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل لأن الشرط محذوف وتقديره: ولو كان معه آلهة لدلالة {وما كان معه من إله} عليه وهو جواب لمن حآجه من المشركين {سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ} من الأنداد والأولاد.

.تفسير الآيات (92- 95):

{عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)}
{عالم} بالجر صفة لله، وبالرفع مدني وكوفي غير حفص خبر مبتدأ محذوف {الغيب والشهادة} السر والعلانية {فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} من الأصنام وغيرها.
{قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ} (ما) والنون مؤكدان أي إن كان لابد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة {رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى في القوم الظالمين} أي فلا تجعلني قريناً لهم ولا تعذبني بعذابهم، عن الحسن رضي الله عنه: أخبره أن له في أمته نقمة ولم يخبره متى وقتها، فأمر أن يدعو هذا الدعاء. ويجوز أن يسأل النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم ربه ما علم أنه يفعله وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه، واستغفاره عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلسه سبعين مرة لذلك، والفاء في {فلا} لجواب الشرط و{رب} اعتراض بينهما للتأكيد {وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لقادرون} كانوا ينكرون الموعد بالعذاب ويضحكون منه فقيل لهم: إن الله قادر على إنجاز ما وعد إن تأملتم فما وجه هذا الإنكار؟.

.تفسير الآيات (96- 100):

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}
{ادفع بالتى} بالخصلة التي {هِىَ أَحْسَنُ السيئة} هو أبلغ من أن يقال بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل كأنه قال: ادفع بالحسنى السيئة والمعنى أصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الاحسان، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي شهادة أن لا إله إلا الله. والسيئة: الشرك أو الفحش بالسلام أو المنكر بالموعظة. وقيل: هي منسوخة بآية السيف. وقيل: محكمة إذ المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى ثلم دين {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} من الشرك أو بوصفهم لك وسوء ذكرهم فنجازيهم عليه {وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} من وساوسهم ونخساتهم، والهمزة: النخس، والهمزات جمع الهمزة ومنه مهماز الرائض، والمعنى أن الشياطين يحثون الناس على المعاصي كما تهمز الراضة الدواب حثاً لها على المشي {وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ} أمر بالتعوذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه المكرر لندائه وبالتعوذ من أن يحضروه أصلاً أو عند تلاوة القرآن أو عند النزع {حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت} {حتى} تتعلق ب {يصفون} أي لا يزالون يشركون إلى وقت مجيء الموت، أو لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت وما بينهما مذكور على وجه الاعتراض، والتأكيد للإغضاء عنهم مستعيناً بالله على الشيطان أن يستنزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم {قَالَ رَبّ ارجعون} أي ردوني إلى الدنيا خاطب الله بلفظ الجمع للتعظيم كخطاب الملوك {لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ} في الموضع الذي تركت وهو الدنيا لأنه ترك الدنيا وصار إلى العقبى، قال قتادة: ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ولكن ليتدارك ما فرط. {لعلي} ساكنة الياء كوفي وسهل ويعقوب {كَلاَّ} ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد {إِنَّهَا كَلِمَةٌ} المراد بالكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض وهو قوله: {رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت} {هُوَ قَائِلُهَا} لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والندم عليه {وَمِن وَرَائِهِمْ} أي أمامهم والضمير للجماعة {بَرْزَخٌ} حائل بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} لم يرد أنهم يرجعون يوم البعث وإنما هو إقناط كلي لما علم أن لا رجوع بعد البعث إلا إلى الآخرة.