فصل: تفسير الآيات (27- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (27- 28):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)}
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} أي بيوتاً لستم تملكونها ولا تسكنونها {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} أي تستأذنوا، عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد قرأ به، والاستئناس في الأصل الاستعلام والاستكشاف استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً أي حتى تستعلموا أيطلق لكم الدخول أم لا، وذلك بتسبيحة أو بتكبيرة أو بتحميدة أو بتنحنح {وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} والتسليم أن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا رجع، وقيل: إن تلاقيا يقدم التسليم وإلا فالاستئذان {ذلكم} أي الاستئذان والتسليم {خَيْرٌ لَّكُمْ} من تحية الجاهلية والدمور وهو الدخول بغير إذن فكأن الرجل من أهل الجاهلية إذا دخل بيت غيره يقول حييتم صباحاً وحييتم مساء ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي قيل لكم هذا لكي تذكروا وتتعظوا وتعملوا ما أمرتم به في باب الاستئذان {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا} في البيوت {أَحَدًا} من الآذنين {فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} حتى تجدوا من يأذن لكم، أو فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها ولكم فيها حاجة فلا تدخولها إلا بإذن أهلها لأن التصرف في ملك الغير لابد من أن يكون برضاه {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا} أي إذا كان فيها قوم فقالوا ارجعوا {فارجعوا} ولا تلحوا في إطلاق الإذن ولا تلجوا في تسهيل الحجاب ولا تقفوا على الأبواب، لأن هذا مما يجلب الكراهة فإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك، وعن أبي عبيد: ما قرعت باباً على عالم قط. {هُوَ أزكى لَكُمْ} أي الرجوع أطيب وأطهر لما فيه من سلامة الصدور والبعد عن الريبة أو أنفع وأنمى خيراً {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وعيد للمخاطبين بأنه عالم بما يأتون وما يذرون مما خوطبوا به فموف جزاءه عليه.

.تفسير الآيات (29- 31):

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}
{لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ} في أن تدخلوا {بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها كالخانات والربط وحوانيت التجار {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} أي منفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع. وقيل: الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة {قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم} {من} للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} عن الزنا ولم يدخل (من) هنا لأن الزنا لا رخصة فيه بوجه، ويجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفها وقدميها في رواية، وإلى رأس المحارم والصدر والساقين والعضدين {ذلك} أي غض البصر وحفظ الفرج {أزكى لَهُمْ} أي أطهر من دنس الاثم {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} فيه ترغيب وترهيب يعني أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم وكيف يجيلون أبصارهم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فعليهم إذا عرفوا ذلك أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون.
{وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أمرن بغض الأبصار فلا يحل للمرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبتيه، وإن اشتهت غضت بصرها رأساً ولا تنظر إلى المرأة إلا إلى مثل ذلك وغض بصرها من الأجانب أصلاً أولى بها. وإنما قدم غض الأبصار على حفظ الفروج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور فبذر الهوى طموح العين {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب، والمعنى ولا يظهرن مواضع الزينة إذ إظهار عين الزينة وهي الحلي ونحوها مباح فالمراد بها مواضعها أو إظهارها وهي في مواضعها لإظهار مواضعها لا لإظهار أعيانها، ومواضعها الرأس والأذن والعنق والصدر والعضدان والذراع والساق فهي للإكليل والقرط والقلادة والوشاح والدملج والسوار والخلخال {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره وهو الوجه والكفان والقدمان، ففي سترها حرج بين فإن المرأة لا تجد بداً من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها وخاصة الفقيرات منهن {وَلْيَضْرِبْنَ} وليضعن من قولك (ضربت بيدي على الحائط) إذا وضعتها عليه {بِخُمُرِهِنَّ} جمع خمار {على جُيُوبِهِنَّ} بضم الجيم: مدني وبصري وعاصم. كانت جيوبهن واسعة تبدو منها صدورهن وما حواليها وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من أقدامهن حتى تغطيها.
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} أي مواضع الزينة الباطنة كالصدر والساق والرأس ونحوها {إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} لأزواحهن جمع بعل {أو ءَابآئهن} ويدخل فيهم الأجداد {أو آباء بعولتهن} فقد صاروا محارم {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} ويدخل فيهم النوافل {أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ} فقد صاروا محارم أيضاً {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أخواتهن} ويدخل فيهم النوافل وسائر المحارم كالأعمام والأخوال وغيرهم دلالة {أَوْ نِسَائِهِنَّ} أي الحرائر لأن مطلق هذا اللفظ يتناول الحرائر {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} أي إمائهن ولا يحل لبعدها أن ينظر إلى هذه المواضع منها خصياً كان أو عنيناً أو فحلاً.
وقال سعيد بن المسيب: لا تغرنكم سورة النور فإنها في الإماء دون الذكور. وعن عائشة رضي الله عنها أنها أباحت النظر إليها لعبدها {أَوِ التابعين غَيْرِ} بالنصب: شامي ويزيد وأبو بكر على الاستثناء أو الحال، وغيرهم بالجر على البدل أو على الوصفية {أُوْلِى الإربة} الحاجة إلى النساء. قيل: هم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ولا حاجة لهم إلى النساء لأنهم بله لا يعرفون شيئاً من أمرهن، أو شيوخ صلحاء، أو العنين أو الخصي والمخنث. وفي الأثر أنه المجبوب والأول الوجه {مِنَ الرجال} حال {أَوِ الطفل الذين} هو جنس فصلح أن يراد به الجمع {لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النساء} أي لم يطلعوا لعدم الشهوة من ظهر على الشيء إذا اطلع عليه، أو لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء من ظهر على فلان إذا قوي عليه {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} كانت المرأة تضرب الأرض برجليها إذا مشت لتسمع قعقعة خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال فنهين عن ذلك إذ سماع صوت الزينة كإظهارها ومنه سمي صوت الحلي وسواساً {وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون} {أَيُّهُ} شامي إتباعاً للضمة قبلها بعد حذف الألف لالتقاء الساكنين، وغيره على فتح الهاء لأن بعدها ألفاً في التقدير {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} العبد لا يخلو عن سهو وتقصير في أوامره ونواهيه وإن اجتهد. فلذا وصى المؤمنين جميعاً بالتوبة وبتأميل الفلاح إذا تابوا وقيل: أحوج الناس إلى التوبة من توهم أنه ليس له حاجة إلى التوبة، وظاهر الآية يدل على أن العصيان لا ينافي الإيمان.

.تفسير الآية رقم (32):

{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)}
{وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} الأيامى جمع أيم وهو من لا زوج له رجلاً أو امرأة، بكراً كان أو ثيباً، وأصله أيائم فقلبت {والصالحين} أي الخيرين أو المؤمنين، والمعنى زوجوا من تأيم منكم من الأحرار والحرائر ومن كان فيه صلاح {مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} أي من غلمانكم وجواريكم والأمر للندب إذ النكاح مندوب إليه {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء} من المال {يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} بالكفاية والقناعة أو باجتماع الرزقين، وفي الحديث: «التمسوا الرزق بالنكاح» وعن عمر رضي الله عنه روي مثله {والله واسع} غني ذو سعة لا يرزؤه إغناء الخلائق {عَلِيمٌ} يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وقيل: في الآية دليل على أن تزويج النساء والأيامى إلى الأولياء كما أن تزوج العبيد والإماء إلى الموالي. قلنا: الرجل لا يلي على الرجل الأيم إلا بإذنه فكذا لا يلي على المرأة إلا بإذنها لأن الأيم ينتظمها.

.تفسير الآية رقم (33):

{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)}
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين} وليجتهدوا في العفة كأن المستعف طالب من نفسه العفاف {لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} استطاعة تزوج من المهر والنفقة {حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} حتى يقدرهم على المهر والنفقة. قال عليه الصلاة والسلام: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحسن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» فانظر كيف رتب هذه الأوامر، فأمر أولاً بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصرد ثم بالنكاح المحصن للدين المغني عن الحرام، ثم بعزة النفس الأمارة بالسوء عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن تقدر عليه.
{والذين يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم} أي المماليك الذين يطلبون الكتابة ف {الذين} مرفوع بالابتداء أو منصوب بفعل يفسره {فكاتبوهم} وهو للندب ودخلت الفاء لتضمنه معنى الشرط. والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة وهو أن يقول لمملوكه: كاتبتك على ألف درهم. فإن أداها عتق ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك. أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت عليّ العتق، ويجوز حالاً ومؤجلاً ومنجماً وغير منجم لإطلاق الأمر {إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قدرة على الكسب أو أمانة وديانة والندبية معلقة بهذا الشرط {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة لقوله تعالى: {وَفِي الرقاب} [البقرة: 177] وعند الشافعي رحمه الله: معناه حطوا من بدل الكتابة ربعاً. وهذا عندنا على وجه الندب والأول الوجه لأن الإيتاء هو التمليك فلا يقع على الحط. سأل صبيح مولاه حويطباً أن يكاتبه فأبى فنزلت.
واعلم أن العبيد أربعة: قن مقتنى للخدمة، ومأذون في التجارة، ومكاتب، وآبق. فمثال الأول ولي العزلة الذي حصل العزلة بإيثار الخلوة وترك العشرة، والثاني ولي العشرة فهو نجي الحضرة يخالط الناس للخبرة وينظر إليهم بالعبرة ويأمرهم بالعبرة فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم بحكم الله ويأخذ لله ويعطي في الله ويفهم عن الله ويتكلم مع الله، فالدنيا سوق تجارته، والعقل رأس بضاعته، والعدل في الغضب والرضا ميزانه، والقصد في الفقر والغنى عنوانه، والعز مفزعه ومنحاه، والقرآن كتاب الإذن من مولاه، هو كائن في الناس بظواهره، بائن منهم بسرائره، فقد هجرهم فيما له عليهم في الله باطناً، ثم وصلهم فيما لهم عليه لله ظاهراً.
وما هو منهمو بالعيش فيهم ** ولكن معدن الذهب الرغام

يأكل ما يأكلون ويشرب ما يشربون، وما يدريهم أنه ضعيف الله يرى السماوات والأرض قائمات بأمره وكأنه قيل فيه:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ** فإن المسك بعض دم الغزال

فحال ولي العزلة أصفى وأحلى، وحال ولي العشرة أوفى وأعلى، ونزل الأول من الثاني في حضرة الرحمن منزلة النديم من الوزير عند السلطان. أما النبي عليه الصلاة والسلام فهو كريم الطرفين ومعدن الشذرين ومجمع الحالين ومنبع الزلالين، فباطن أحواله مهتدي ولي العزلة، وظاهر أعماله مقتدى ولي العشرة، والثالث المجاهد المحاسب العامل المطالب بالضرائب كنجوم المكاتب عليه في اليوم والليلة خمس، وفي المائتي درهم خمسة، وفي السنة شهر، وفي العمر زورة، فكأنه اشترى نفسه من ربه بهذه النجوم المرتبة فيسعى في فكاك رقبته خوفاً من البقاء في ربقة العبودية، وطمعاً في فتح باب الحرية ليسرح في رياض الجنة فيتمتع بمبياه ويفعل ما يشاؤه ويهواه. والرابع الإباق فما أكثرهم فمنهم القاضي الجائر والعالم الغير العامل، والعامل المرائي، والواعظ الذي لا يفعل ما يقول ويكون أكثر أقواله فضول وعلى كل ما لا ينفعه يصول فضلا عن السارق والزاني والغاصب فعنهم أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: «إن الله لينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم في الآخرة» {وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء} كان لابن أبيّ ست جوار: معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة، يكرههن على البغاء وضرب عليهن الضرائب، فشكت اثنتان منهن إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فنزلت. ويكنى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة والبغاء الزنا للنساء خاصة وهو مصدر لبغت {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} تعففاً عن الزنا. وإنما قيده بهذا الشرط لأن الإكراه لا يكون إلا مع إرادة التحصن، فآمر المطيعة للبغاء لا يسمى مكرهاً ولا أمره إكراهاً، ولأنها نزلت على سبب فوقع النهي على تلك الصفة، وفيه توبيخ للموالي أي إذا رغبن في التحصن فأنتم أحق بذلك {لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا} أي لتبتغوا بإكراههن على الزنا أجورهن وأولادهن {وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي لهن، وفي مصحف ابن مسعود كذلك وكان الحسن يقول: لهن والله لهن والله. ولعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة وهو الذي يخاف منه التلف فكانت آثمة أو لهم إذا تابوا.

.تفسير الآية رقم (34):

{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات} بفتح الياء: حجازي وبصري وأبو بكر وحماد. والمراد الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت في معاني الأحكام والحدود، وجاز أن يكون الأصل مبيناً فيها فاتسع في الظرف أي أجري مجرى المفعول به كقوله (ويوم شهدناه) وبكسرها غيرهم أي بينت هي الأحكام والحدود جعل الفعل لها مجازاً أو من بين بمعنى تبين ومنه المثل: (قد بين الصبح لذي عينين)
{وَمَثَلاً مّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ} ومثلاً من أمثال من قبلكم أي قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم يعني قصة عائشة رضي الله عنها {وَمَوْعِظَةً} ما وعظ به من الآيات والمثل من نحو قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ الله}. {لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ}. {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً} {لّلْمُتَّقِينَ} أي هم المنتفعون بها وإن كانت موعظة للكل.

.تفسير الآية رقم (35):

{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}
نظير قوله {الله نُورُ السماوات والأرض} مع قوله {مَثَلُ نُورِهِ} و{يَهْدِى الله لِنُورِهِ} قولك زيد كرم وجود ثم تقول: ينعش الناس بكرمه وجوده، والمعنى ذو نور السماوات و{نُورُ السماوات والأرض} الحق شبهه بالنور في ظهوره وبيانه كقوله: {الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] أي من الباطل إلى الحق. وأضاف النور إليهما للدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى تضيء له السماوات والأرض، وجاز أن المراد أهل السماوات والأرض وأنهم يستضيئون به {مَثَلُ نُورِهِ} أي صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة {كَمِشْكَاةٍ} كصفة مشكاة وهي الكوّة في الجدار غير النافذة {فِيهَا مِصْبَاحٌ} أي سراج ضخم ثاقب {المصباح في زُجَاجَةٍ} في قنديل من زجاج شامي بكسر الزاي {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ} مضيء بضم الدال وتشديد الياء منسوب إلى الدر لفرط ضيائه وصفائه، وبالكسر والهمزة عمرو وعلي كأنه يدرأ الظلام بضوئه، وبالضم والهمزة أبو بكر وحمزة شبه في زهوته بأحد الكواكب الدراري كالمشتري والزهرة ونحوهما {يُوقَدُ} {توقد} بالتخفيف: حمزة وعلي وأبو بكر الزجاجة و{يُوقَدُ} بالتخفيف: شامي ونافع وحفص {وتوقد} بالتشديد: مكي وبصري أي هذا المصباح {مِن شَجَرَةٍ} أي ابتدأ ثقوبه من زيت شجرة الزيتون يعني رويت ذبالته بزيتها {مباركة} كثيرة المنافع أو لأنها نبتت في الأرض التي بورك فيها للعالمين. وقيل: بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام {زَيْتُونَةٍ} بدل من {شجرة} نعتها {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} أي منبتها الشام يعني ليست من المشرق ولا من المغرب بل في الوسط منهما وهو الشام وأجود الزيتون زيتون الشام. وقيل: ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط بل يصيبها بالغداة والعشي جميعها فهي شرقية وغربية.
{يَكَادُ زَيْتُهَا} دهنها {يُضِئ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} وصف الزيت بالصفاء والوميض وأنه لتلألئه يكاد يضيء من غير نار {نُّورٌ على نُورٍ} أي هذا النور الذي شبه به الحق نور متضاعف قد تناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم تبق بقية مما يقوي النور، وهذا لأن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أجمع لنوره بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينتشر فيه. والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة وكذلك الزيت وصفاؤه، وضرب المثل يكون بدنيء محسوس معهود لا بعلي غير معاين ولا مشهود فأبو تمام لما قال في المأمون:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ** في حلم أحنف في ذكاء إياس

قيل له: إن الخليفة فوق من مثلته بهم فقال مرتجلاً:
لا تنكروا ضربي له من دونه ** مثلاً شروداً في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره ** مثلاً من المشكاة والنبراس

{يَهْدِى الله لِنُورِهِ} أي لهذا النور الثاقب {مَن يَشَآء} من عباده أي يوفق لإصابة الحق من يشاء من عباده بإلهام من الله أو بنظره في الدليل {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} تقريباً إلى أفهامهم ليعتبروا فيؤمنوا {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} فيبين كل شيء بما يمكن أن يعلم به. وقال ابن عباس رضي الله عنه: مثل نوره أي نور الله الذي هدى به المؤمن. وقرأ ابن مسعود رحمه الله {مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة} وقرأ أبيّ {مثل نور المؤمن}.