فصل: تفسير الآيات (36- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (36- 37):

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)}
{فِى بُيُوتٍ} يتعلق {بمشكاة} أي كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد كأنه قيل: مثل نوره كما يرى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت، أو ب {توقد} أي توقد في بيوت، أو ب {يسبح} أي يسبح له رجال في بيوت. و{فيها} تكرير فيه توكيد نحو (زيد في الدار جالس فيها) أو بمحذوف أي سبحوا في بيوت {أَذِنَ الله} أي أمر {أَن تُرْفَعَ} تبنى كقوله {بناها رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد} [البقرة: 127] أن تعظم من الرفعة. وعن الحسن: ما أمر الله أن ترفع بالبناء ولكن بالتعظيم {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} يتلى فيها كتابه أو هو عام في كل ذكر {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} أي يصلي له فيها بالغداة صلاة الفجر وبالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين. وإنما وحد الغدو لأن صلاته صلاة واحدة، وفي الآصال صلوات والآصال جمع أصل جمع أصيل وهو العشي {رِجَالٌ} فاعل {يسبح} {يسبح} شامي وأبو بكر ويسند إلى أحد الظروف الثلاثة أعني له فيها بالغدو و{رِجَالٌ} مرفوع بما دل عليه {يسبح} أي يسبح له {لاَّ تُلْهِيهِمْ} لا تشغلهم {تجارة} في السفر {وَلاَ بَيْعٌ} في الحضر. وقيل: التجارة الشراء إطلاقاً لاسم الجنس على النوع أو خص البيع بعد ماعم لأنه أوغل في الإلهاء من الشراء لأن الربح في البيعة الرابحة متيقن وفي الشراء مظنون {عَن ذِكْرِ الله} باللسان والقلب {وَإِقامِ الصلاة} أي وعن إقامة الصلاة. التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال والأصل إقوام، فلما قلبت الواو ألفاً اجتمع ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فأدخلت التاء عوضاً عن المحذوف، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام التاء فأسقطت {وَإِيتاء الزكاة} أي وعن إيتاء الزكاة والمعنى لا تجارة لهم حتى تلهيهم كأولياء العزلة، أو يبيعون ويشترون ويذكرون الله مع ذلك وإذا حضرت الصلاة قاموا إليها غير متثاقلين كأولياء العشرة.
{يخافون يَوْماً} أي يوم القيامة و{يخافون} حال من الضمير في {تلهيهم} أو صفة أخرى ل {رجال} {تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب} ببلوغها إلى الحناجر {والأبصار} بالشخوص والزرقة أو تتقلب القلوب إلى الإيمان بعد الكفران والأبصار إلى العيان بعد إنكاره للطغيان كقوله {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22]

.تفسير الآيات (38- 39):

{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)}
{لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} أي يسبحون ويخافون ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم أي ليجزيهم ثوابهم مضاعفاً ويزيدهم على الثواب الموعود على العمل تفضلاً {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي يثيب من يشاء ثواباً لا يدخل في حساب الخلق.
هذه صفات المهتدين بنور الله فأما الذين ضلوا عنه فالمذكورون في قوله {والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ} هو ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهر يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري {بِقِيعَةٍ} بقاع أو جمع قاع وهو المنبسط المستوي من الأرض كجيرة في جار {يَحْسَبُهُ الظمان} يظنه العطشان {مَاءً حتى إِذَا جَاءهُ} أي جاء إلى ما توهم أنه ماء {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} كما ظنه {وَوَجَدَ الله} أي جزاء الله كقوله {يجد الله غفوراً رحيماً} [النساء: 110] أي يجد مغفرته ورحمته {عِندَهُ} عند الكافر {فوفاه حِسَابَهُ} أي أعطاه جزاء عمله وافياً كاملاً. وحد بعد تقدم الجمع حملاً على كل واحد من الكفار {والله سَرِيعُ الحساب} لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد ولا يشغله حساب عن حساب، أو قريب حسابه لأن ما هو آتٍ قريب شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه، ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد زبانية الله عنده يأخذونه فيعتلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق وهم الذين قال الله فيهم: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان يترهب ملتمساً للدين في الجاهلية فلما جاء الإسلام كفر.

.تفسير الآيات (40- 41):

{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)}
{أَوْ كظلمات في بَحْرٍ} {أو} هنا كـ (أو) في {أَوْ كَصَيّبٍ} {لُّجّىّ} عميق كثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر {يغشاه} يغشى البحر أو من فيه يعلوه ويغطيه {مَوْجٍ} هو ما ارتفع من الماء {مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي من فوق الموج موج آخر {مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} من فوق الموج الأعلى سحاب {ظلمات} أي هذه ظلمات ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ظلمة الموج على ظلمة البحر وظلمة الموج على الموج وظلمة السحاب على الموج {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} أي الواقع فيه {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} مبالغة في لم يرها أي لم يقرب أن يراها فضلاً عن أن يراها، شبه أعمالهم أولاً في فوات نفعها وحضور ضررها بسراب لم يجد من خدعه من بعيد شيئاً ولم يكفه خيبة وكمداً أن لم يجد شيئاً كغيره من السراب حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى النار، وشبهها ثانياً في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} من لم يهده الله لم يهتد عن الزجاج في الحديث: «خلق الله الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل» {أَلَمْ تَرَ} ألم تعلم يا محمد علماً يقوم مقام العيان في الإيقان {أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ مَن في السماوات والأرض والطير} عطف على {من} {صافات} حال من {الطير} أي يصففن أجنحتهن في الهواء {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} الضمير في {علم} ل {كل} أو لله، وكذا في صلاته وتسبيحه. والصلاة الدعاء ولم يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لايكاد العقلاء يتهتدون إليها {والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} لا يعزب عن علمه شيء.

.تفسير الآيات (42- 43):

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)}
{وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} لأنه خالقهما ومن ملك شيئاً فبتمليكه إياه {وإلى الله المصير} مرجع الكل {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى} يسوق إلى حيث يريد {سَحَابًا} جمع سحابة دليله {ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ} وتذكيره للفظ أي يضم بعضه إلى بعض {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} متراكماً بعضه فوق بعض {فَتَرَى الودق} المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} من فتوقه ومخارجه جمع خلل كجبال في جبل {وَيُنَزّلُ} {وينزل} مكي ومدني وبصري {مّنَ السماء} لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء {مِن جِبَالٍ} {من} للتبعيض لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي {فِيهَا} في السماء {مِن بَرَدٍ} للبيان أو الأوليان للابتداء والآخرة للتبعيض، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها. وعلى الأول مفعول {ينزل} {من جبال} أي بعض جبال فيها ومعنى {من جبال فيها من برد} أن يخلق الله في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر أو يريد الكثرة بذكر الجبال كما يقال (فلان يملك جبالاً من ذهب) {فَيُصِيبُ بِهِ} بالبرد {مَن يَشَآء} أي يصيب الإنسان وزرعه {وَيَصْرِفُهُ عَمَّن مَا يَشَاء} فلا يصيبه أو يعذب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء فلا يعذبه {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} ضوؤه {يَذْهَبُ بالأبصار} يخطفها به {يَذْهَبُ} يزيد على زيادة الباء.

.تفسير الآيات (44- 45):

{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)}
{يُقَلّبُ الله اليل والنهار} يصرفهما في الاختلاف طولاً وقصراً والتعاقب {إِنَّ في ذَلِكَ} في إزجاء السحاب وإنزال الودق والبرد وتقليب الليل والنهار {لَعِبْرَةً لأَِوْلِى الأبصار} لذوي العقول. وهذا من تعديد الدلائل على ربوبيته حيث ذكر تسبيح من في السماوات والأرض وما يطير بينهما ودعاءهم له وتسخير السحاب إلى آخر ما ذكر، فهي براهين لائحة على وجوده ودلائل واضحة على صفاته لمن نظر وتدبر. ثم بين دليلاً آخر فقال تعالى.
{والله خَلَقَ كُلَّ} {خالق كل} حمزة وعلي {دَابَّةٍ} كل حيوان يدب على وجه الأرض {مِن مَّاء} أي من نوع من الماء مختص بتلك الدابة أو من ماء مخصوص وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة فمنها هوام ومنها بهائم ومنها أناسي وهو كقوله {يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ في الأكل} [الرعد: 4] وهذا دليل على أن لها خالقاً ومدبراً وإلا لم تختلف لإتفاق الأصل. وإنما عرف الماء في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَئ حَىّ} [الأنبياء: 30] لأن المقصود ثم أن أجناس الحيوان مخلوقة من جنس الماء وأنه هو الأصل وإن تخللت بينه وبينها وسائط. قالوا: إن أول ما خلق الله الماء فخلق منه النار والريح والطين، فخلق من النار الجن، ومن الريح الملائكة، ومن الطين آدم ودواب الأرض، ولما كانت الدابة تشمل المميز وغير المميز غلب المميز فأعطى ما وراءه حكمه كأن الدواب كلهم مميزون فمن ثم قيل {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ} كالحية والحوت. وسمي الزحف على البطن مشياً استعارة كما يقال في الأمر المستمر قد مشى هذا الأمر، أو على طرائق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى على رِجْلَيْنِ} كالإنسان والطير {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَعٍ} كالبهائم وقدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو غيرها ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع {يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء} كيف يشاء {إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ} لا يتعذر عليه شيء.

.تفسير الآيات (46- 49):

{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)}
{لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات والله يَهْدِى مَن يَشَاء} بلطفه ومشيئته {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} إلى دين الإسلام الذي يوصل إلى جنته والآيات لإلزام حجته لما ذكر إنزال الآيات، ذكر بعدها افتراق الناس إلى ثلاث فرق: فرقة صدقت ظاهراً وكذبت باطناً وهم المنافقون، وفرقة صدقت ظاهراً وباطناً وهم المخلصون، وفرقة كذبت ظاهراً وباطناً وهم الكافرون على هذا الترتيب. وبدأ بالمنافقين فقال: {وَيِقُولُونَ امَنَّا بالله وبالرسول} بألسنتهم {وَأَطَعْنَا} الله والرسول {ثُمَّ يتولى} يعرض عن الانقياد لحكم الله ورسوله {فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذلك} أي من بعد قولهم آمنا بالله وبالرسول وأطعنا {وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين} أي المخلصين وهو إشارة إلى القائلين آمنا، وأطعنا، لا إلى الفريق المتولي وحده. وفيه إعلام من الله بأن جميعهم منتفٍ عنهم الإيمان لاعتقادهم ما يعتقد هؤلاء والإعراض وإن كان من بعضهم فالرضا بالإعراض من كلهم.
{وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ} أي إلى رسول الله كقولك (أعجبني زيد وكرمه) تريد كرم زيد {لِيَحْكُمَ} الرسول {بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} أي فاجأ من فريق منهم الإعراض نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض فجعل اليهودي يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنافق إلى كعب بن الأشرف ويقول: إن محمداً يحيف علينا {وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق} أي إذا كان الحق لهم على غيرهم {يَأْتُواْ إِلَيْهِ} إلى الرسول {مُذْعِنِينَ} حال أي مسرعين في الطاعة طلباً لحقهم لا رضا بحكم رسولهم. قال الزجاج: الإذعان الإسراع مع الطاعة. والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس معك إلا الحق المر والعدل البحث يمتنعون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك لتأخذ لهم ما وجب لهم في ذمة الخصم.

.تفسير الآيات (50- 53):

{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)}
{أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بأن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته أو خائفين الحيف في قضائه. ثم أبطل خوفهم حيفه بقوله {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} أي لا يخافون أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله وإنما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم، وذلك شيء لا يستطيعونه في مجلس رسول الله عليه الصلاة والسلام فمن ثم يأبون المحاكمة إليه.
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين} وعن الحسن {قول} بالرفع، والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لكان أوغلهما في التعريف وأن يقولوا أوغل بخلاف {قول المؤمنين} {إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ} النبي عليه الصلاة والسلام ليحكم أي ليفعل الحكم {بَيْنَهُمْ} بحكم الله الذي أنزل عليه {أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا} قوله {وَأَطَعْنَا} أمره {وأولئك هُمُ المفلحون} الفائزون {وَمَن يُطِعِ الله} في فرائضه {وَرَسُولُهُ} في سننه {وَيَخْشَ الله} على ما مضى من نوبه {وَيَتَّقْهِ} فيما يستقبل {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون} وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه الآية. وهي جامعة لأسباب الفوز {ويتقه} بسكون الهاء: أبو عمرو وأبو بكر بنية الوقف، وبسكون القاف وبكسر الهاء مختلسة: حفص، وبكسر القاف والهاء، غيرهم.
{وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم} أي حلف المنافقون بالله جهد اليمين لأنهم بذلوا فيها مجهودهم. وجهد يمينه مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها وذلك إذا بالغٍ في اليمين وبلغ غاية شدتها ووكادتها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من قال بالله فقد جهد يمينه. وأصل أقسم جهد اليمين أقسم بجهد اليمين جهداً فحذف الفعل وقدم المصدر فوضع موضعه مضافاً إلى المفعول كقوله {فضرب الرقاب} [محمد: 4] وحكم هذا المنصوب حكم الحال كأنه قال جاهدين أيمانهم {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} أي لئن أمرنا محمد بالخروج إلى الغزو لغزونا أو بالخروج من ديارنا لخرجنا {قُل لاَّ تُقْسِمُواْ} لا تحلفوا كاذبين لأنه معصية {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة، مبتدأ محذوف الخبر أو خبر مبتدأ محذوف أي الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب كطاعة الخلص من المؤمنين لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} يعلم ما في ضمائركم ولا يخفى عليه شيء من سرائركم وإنه فاضحكم لا محالة ومجازيكم على نفاقكم.