فصل: تفسير الآيات (41- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (41- 42):

{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)}
{قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} غيروا أي اجعلوا مقدمه مؤخره وأعلاه أسفله {نَنظُرْ} بالجزم على الجواب {أَتَهْتَدِى} إلى معرفة عرشها أو للجواب الصواب إذا سئلت عنه {أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءتْ} بلقيس {قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ} (ها) للتنبيه والكاف للتشبيه و(ذا) اسم إشارة ولم يقل (أهذا عرشك) ولكن أمثل هذا عرشك لئلا يكون تلقيناً {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} فأجابت أحسن جواب فلم تقل (هو هو) و(لا ليس به) وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتمل للأمرين، أو لما شبهوا عليها بقولهم: {أهكذا عرشك} شبهت عليهم بقولها {كَأَنَّهُ هُوَ} مع أنها علمت أنه عرشها {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا} من كلام بلقيس أي وأوتينا العلم بقدرة الله تعالى وبصحة نبوتك بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبل هذه المعجزة أي إحضار العرش أو من قبل هذه الحالة {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} منقادين لك مطيعين لأمرك، أو من كلام سليمان وملئه عطفوا على كلامها قولهم: وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة ما جاء من عنده قبل علمها، أو أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين موحدين خاضعين.

.تفسير الآيات (43- 44):

{وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}
{وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} متصل بكلام سليمان أي وصدها عن العلم بما علمناه أو عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين أظهر الكفرة. ثم بين نشأها بين الكفرة بقوله {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين} أو كلام مبتدأ أي قال الله تعالى وصدها قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل، أو صدها الله، أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل.
{قِيلَ لَهَا ادخلى الصرح} أي القصر أو صحن الدار {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} ماء عظيماً {وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} {سأقيها} بالهمزة: مكي. روي أن سليمان أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه السمك وغيره، ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس. وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره وتحقيقاً لنبوته. وقيل: إن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية. وقيل: خافوا أن يولد له منها ولد يجمع فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد فقالوا له: إن في عقلها شيئاً وهي شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار، فاختبر عقلها بتنكير العرش، واتخذ الصرح ليعرف ساقها ورجلها فكشفت عنهما فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً إلا أنها شعراء فصرف بصره {قَالَ} لها {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ} مملس مستو ومنه الأمرد {مّن قَوارِيرَ} من الزجاج. وأراد سليمان تزوجها فكره شعرها فعملت لها الشياطين النورة فأزالته فنكحها سليمان وأحبها وأقرها على ملكها وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له {قَالَتْ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} بعبادة الشمس {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان لِلَّهِ رَبّ العالمين} قال المحققون: لا يحتمل أن يحتال سليمان لينظر إلى ساقيها وهي أجنبية فلا يصح القول بمثله.

.تفسير الآيات (45- 47):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)}
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ} في النسب {صالحا} بدل {أَنِ اعبدوا الله} بكسر النون في الوصل: عاصم وحمزة وبصري، وبضم النون: غيرهم اتباعاً للباء، والمعنى بأن اعبدوا الله وحدوه {فَإِذَا} للمفاجأة {هُمْ} مبتدأ {فَرِيقَانِ} خبر {يَخْتَصِمُونَ} صفة وهي العامل في {إِذَا} والمعنى فإذا قوم صالح فريقان مؤمن به وكافر به يختصمون فيقول كل فريق الحق معي وهو مبين في قوله: {قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ قَالُواْ إِنَّا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي أمنتم به كافرون} [الأعراف: 75] وقال الفريق الكافر: {ياصاح ائتنا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المرسلين} [الأعراف: 77] {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة} بالعذاب الذي توعدون {قَبْلَ الحسنة} قبل التوبة {لَوْلاَ} هلا {تَسْتَغْفِرُونَ الله} تطلبون المغفرة من كفركم بالتوبة والإيمان قبل نزول العذاب بكم {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بالإجابة {قَالُواْ اطيرنا بِكَ} تشاءمنا بك لأنهم قحطوا عند مبعثه لتكذيبهم فنسبوه إلى مجيئه. والأصل {تَطَيَّرْنَا} وقريء به فأدغمت التاء في الطاء وزيدت الألف لسكون الطاء {وَبِمَن مَّعَكَ} من المؤمنين {قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله} أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله وهو قدره وقسمته، أو عملكم مكتوب عند الله فإنما نزل بكم ما نزل عقوبة لكم وفتنة ومنه {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ في عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] وأصله أن المسافر إذا مر بطائر فيزجره فإن مر سانحاً تيامن، وإذا مر بارحاً تشاءم، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته، أو من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} تختبرون أو تعذبون بذنبكم.

.تفسير الآيات (48- 50):

{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)}
{وَكَانَ في المدينة} مدينة ثمود وهي الحجر {تِسْعَةُ رَهْطٍ} هو جمع لا واحد له ولذا جاز تمييز التسعة به فكأنه قيل تسعة أنفس، وهو من الثلاثة إلى العشرة. وعن أبي دؤاد: رأسهم قدار بن سالف وهم الذين سعوا في عقر الناقة وكانوا أبناء أشرافهم {يُفْسِدُونَ في الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ} يعني أن شأنهم الإفساد البحت لا يخلط بشيء من الصلاح كما ترى بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح. وعن الحسن يظلمون الناس ولا يمنعون الظالمين من الظلم. وعن ابن عطاء: يتبعون معايب الناس ولا يسترون عوراتهم {قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله} {تحالفوا} خبر في محل الحال بإضمار (قد) أي قالوا متقاسمين أو أمر أي أمر بعضهم بعضاً بالقسم {لَنُبَيّتَنَّهُ} لنقتلنه بياتاً أي ليلاً {وَأَهْلَهُ} ولده وتبعه {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ} لولي دمه {لتبيتنه} بالتاء وبضم التاء الثانية ثم {لتقولن} بالتاء وضم اللام: حمزة وعلي {ماشهدنا} ما حضرنا {مَهْلِكَ أَهْلِهِ} حفص {مهلَك} أبو بكر وحماد والمفضل من هلك، فالأول موضع الهلاك، والثاني المصدر {مُهلَك} غيرهم، من أهلك وهو الإهلاك أو مكان الإهلاك أي لم نتعرض لأهله فكيف تعرضنا له؟ أو ما حضرنا موضع هلاكه فكيف توليناه؟ {وِإِنَّا لصادقون} فيما ذكرنا.
{وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} مكرهم ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله. ومكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة. روي أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا: زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثالث، فخرجوا إلى الشعب وقالوا: إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم، فبعث الله صخرة من الهضب حيالهم فبادروا فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم، وعذب الله كلاً منهم في مكانه ونجى صالحاً عليه السلام ومن معه.

.تفسير الآيات (51- 55):

{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)}
{فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة مَكْرِهِمْ أَنَّا دمرناهم} بفتح الألف: كوفي وسهل، وبكسرها: غيرهم على الاستئناف، ومن فتحه رفعه على أنه بدل من العاقبة، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي تدميرهم، أو نصبه على معنى لأنا أو على أنه خبر (كان) أي فكان عاقبة مكرهم الدمار {وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} بالصيحة {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط، أو خالية من الخواء، وهي حال عمل فيها ما دل عليه {تلك} {بِمَا ظَلَمُواْ} بظلمهم {إِنَّ في ذَلِكَ} فيما فعل بثمود {لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} قدرتنا فيتعظون {وَأَنجَيْنَا الذين ءامَنُواْ} بصالح {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} ترك أوامره وكانوا أربعة الآف نجوا مع صالح من العذاب.
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ} واذكر لوطاً، و{إذ} بدل من {لوطاً} أي واذكر وقت قول لوط {لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة} أي إتيان الذكور {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها من بصر القلب، أو يرى ذلك بعضهم من بعض لأنهم كانوا يرتكبونها في ناديهم معالنين بها لا يتستر بعضهم من بعض مجانة وانهماكاً في المعصية، أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم. ثم صرح فقال: {أَئِنَّكُمْ} بهمزتين: كوفي وشامي {لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً} للشهوة {مّن دُونِ النساء} أي إن الله تعالى إنما خلق الأنثى للذكر ولم يخلق الذكر للذكر ولا الأنثى للأنثى فهي مضادة لله في حكمته {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك، أو أريد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها. وقد اجتمع الخطاب والغيبة في قوله {بل أنتم قوم تجهلون} و{بل أنتم قوم تفتنون} فغلب الخطاب على الغيبة لأنه أقوى إذ الأصل أن يكون الكلام بين الحاضرين.

.تفسير الآيات (56- 59):

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)}
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ} أي لوطاً ومتبعيه فخبر {كان} {جواب} واسمه {أن قالوا} {مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} يتنزهون عن القاذورات ينكرون هذا العمل القذر ويغيظنا إنكارهم. وقيل: هو استهزاء كقوله {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} [هود: 87] {فأنجيناه} فخلصناه من العذاب الواقع بالقوم {وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قدرناها} بالتشديد سوى حماد وأبي بكر أي قدرنا كونها {مِنَ الغابرين} من الباقين في العذاب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} حجارة مكتوباً عليها اسم صاحبها {فَسَاء مَطَرُ المنذرين} الذين لم يقبلوا الإنذار.
{قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى} أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بتحميده ثم بالصلاة على المصطفين من عباده توطئه لما يتلوه من الدلالة على وحدانيته وقدرته على كل شيء وهو تعليم لكل متكلم في كل أمر ذي بال بأن يتبرك بهما ويستظهر بمكانهما، أو هو خطاب للوط عليه السلام بأن يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلم على من اصطفاه الله ونجاه من هلكتهم وعصمه من ذنوبهم {ءَآللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} بالياء: بصري وعاصم. ولا خير فيما أشركوه أصلاً حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل شيء، وإنما هو إلزام لهم وتهكم بحالهم وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لداع يدعوه إلى إيثاره من زيادة خير ومنفعة، فقيل لهم مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ولكن هوى وعبثاً لينبهوا على الخطأ المفرط والجهل المورط، وليعلموا أن الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال: «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم» ثم عدد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله فقال:

.تفسير الآيات (60- 62):

{أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)}
{أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض} والفرق بين (أم) و(أم) في {أما يشركون} و{أمن خلق السماوات} أن تلك متصلة إذ المعنى أيهما خير، وهذه منقطعة بمعنى (بل) والهمزة، ولما قال الله خير أم الآلهة قال بل أمن خلق السماوات والأرض خير، تقريراً لهم بأن من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاءً} مطراً {فَأَنبَتْنَا} صرف الكلام عن الغيبة إلى التكلم تأكيداً لمعنى اختصاص الفعل بذاته وإيذاناً بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والأشكال مع حسنها بماء واحد لا يقدر عليه إلا هو وحده {بِهِ} بالماء {حَدَائِقَ} بساتين، والحديقة: البستان وعليه حائط من الإحداق وهو الإحاطة {ذَاتُ} ولم يقل (ذوات) لأن المعنى جماعة حدائق كما تقول النساء ذهبت {بَهْجَةٍ} حسن لأن الناظر يبتهج به. ثم رشح معنى الاختصاص بقوله {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} ومعنى الكينونة الانبغاء أراد أنّ تأتّى ذلك محال من غيره {أءلاه مَّعَ الله} أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد و{بل هم} بعد الخطاب أبلغ في تخطئة رأيهم.
{أَمَّن جَعَلَ الأرض} وما بعده بدل من {أمن خلق} فكان حكمها حكمه {قَرَاراً} دحاها وسواها للاستقرار عليها {وَجَعَلَ خِلاَلَهَا} ظرف أي وسطها وهو المفعول الثاني والأول {أَنْهَاراً} وبين البحرين مثله {وَجَعَلَ لَهَا} للأرض {رَوَاسِىَ} جبالاً تمنعها عن الحركة {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين} العذب والمالح {حَاجِزاً} مانعاً أن يختلطا {أءلاه مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} التوحيد فلا يؤمنون {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} الاضطرار افتعال من الضرورة وهي الحالة المحوجة إلى اللجأ. يقال اضطره إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر، والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجأ والتضرع إلى الله، أو المذنب إذا استغفر، أو المظلوم إذا دعا، أو من رفع يديه ولم ير لنفسه حسنة غير التوحيد وهو منه على خطر {وَيَكْشِفُ السوء} الضر أو الجور {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرض} أي فيها وذلك توارثهم سكناها والتصرف فيها قرناً بعد قرن، أو أراد بالخلافة الملك والتسلط {أءلاه مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} وبالياء: أبو عمرو، وبالتخفيف: حمزة وعلي وحفص. و(ما) مزيدة أي تذكرون تذكراً قليلاً.

.تفسير الآيات (63- 65):

{أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)}
{أَمَّن يَهْدِيكُمْ} يرشدكم بالنجوم {فِى ظلمات البر والبحر} ليلاً وبعلامات في الأرض نهاراً {وَمَن يُرْسِلُ الرياح} {الريح} مكي وحمزة وعلى {بشرًا} من البشارة وقد مرّ في (الأعراف) {بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} قدام المطر {أءلاه مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الخلق} ينشيء الخلق {ثُمَّ يُعِيدُهُ} وإنما قيل لهم {ثُمَّ يُعِيدُهُ} وهم منكرون للإعادة لأنه أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار فلم يبق لهم عذر في الإنكار {وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء} أي المطر {والأرض} أي ومن الأرض النبات {أءلاه مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ برهانكم} حجتكم على إشراككم {إِن كُنتُمْ صادقين} في دعواكم أن مع الله إلهاً آخر.
{قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} {من} فاعل {يعلم} و{الغيب} هو ما لم يقم عليه دليل ولا أطلع عليه مخلوق مفعول و{الله} بدل مِن {مَن} والمعنى لا يعلم أحد الغيب إلا الله. نعم إن الله تعالى يتعالى عن أن يكون ممن في السماوات والأرض ولكنه جاء على لغة بني تميم حيث يجرون الاستثناء المنقطع مجرى المتصل ويجيزون النصب والبدل في المنقطع كما في المتصل ويقولون ما في الدار أحد إلا حمار. وقالت عائشة رضي الله عنها: من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله}. وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة {وَمَا يَشْعُرُونَ} وما يعلمون {أَيَّانَ} متى {يُبْعَثُونَ} ينشرون.